قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } الآية . قال المفسرون : قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود ، فاختصموا في إبراهيم عليه السلام ، فزعمت النصارى أنه كان نصرانياً وهم على دينه ، وأولى الناس به ، وقالت اليهود بل كان يهودياً وهم على دينه وأولى الناس به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه ، بل كان حنيفاً مسلما ، ً وأنا على دينه ، وأولى الناس به ، فاتبعوا دينه دين الإسلام ، فقالت اليهود : يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى رباً ؟ وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ؟ فأنزل الله تعالى : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة ) والعرب تسمي كل قصة لها شرح كلمة ، ومنه سميت القصيدة كلمة ( سواء ) عدل بيننا وبينكم مستوية ، أي أمر مستو يقال : دعا فلان إلى السواء ، أي إلى النصفة ، وسواء كل شيء وسطه ، ومنه قوله تعالى : ( فرآه في سواء الجحيم ) وإنما قيل للنصفة سواء لأن أعدل الأمور وأفضلها أوسطها سواء نعت لكلمة إلا أنه مصدر ، والمصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، فإذا فتحت السين مددت ، وإذا كسرت أو ضممت قصرت ، كقوله تعالى ( مكاناً سوى ) ثم فسر الكلمة فقال :
قوله تعالى : { أن لا نعبد إلا الله } ومحل ( أن ) رفع على إضمار هي ، وقال الزجاج : رفع بالابتداء ، وقيل : محله نصب بنزع حرف الصلة ، معناه بأن لا نعبد إلا الله ، وقيل : محله خفض بدلاً من الكلمة ، أي تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله .
قوله تعالى : { ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } كما فعلت اليهود والنصارى ، قال الله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) ، وقال عكرمة : هو سجود بعضهم لبعض ، أي لا نسجد لغير الله ، وقيل معناه : لا نطيع أحدا في معصية الله .
قوله تعالى : { فإن تولوا فقولوا اشهدوا } أي فقولوا أنتم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم لهم اشهدوا .
قوله تعالى : { بأنا مسلمون } مخلصون بالتوحيد .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو اليمان الحكم ابن نافع ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش ، وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش ، فأتوه وهو بإيلياء فدعاهم في مجلسة وحوله عظماء الروم ، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دحية بن خليفة الكلبي ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصري ، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم الإريسيين ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولا اشهدوا بأنا مسلمون ) " .
ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء عاما إلى أهل الكتاب دعاهم فيه - فى بضع آيات متوالية - إلى عبادة الله وحده ، وإلى ترك المحاجة الباطلة فى شأن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وإلى الإقلاع عن الكفر بآيات الله وعن تلبيس الحق بالباطل ، وعن كتمان الحق مع علمهم بأنه حق . .
استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه النداءات داعيا أهل الكتاب إلى كلمة الحق فيقول : { قُلْ يا أهل . . . } .
أنت ترى أن القرآن الكريم قد وجه إلى أهل الكتاب أربع نداءات فى هذه الآيات الكريمة أما النداء الأول فقد طلب منهم فيه أن يتوبوا إلى رشدهم ، وأن يخلصوا لله العبادة فقال { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } .
والسواء : العدل والنصفة ، أى قل يا محمد لأهل الكتاب : هلموا وأقبلوا إلى كلمة ذات عدل وإنصاف بيننا وبينكم .
أو السواء : مصدر مستوية أى هلموا إلى كلمة لا تختلف فيها الرسل والكتب المنزلة والعقول السليمة ، لأنها كلمة عادلة مستقيمة ليس فيها ميل عن الحق .
ثم بين - سبحانه - هذه الكلمة العادلة المستقيمة التى هى محل اتفاق بين الأنبياء فقال : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } أى نترك نحن وأنتم عبادة غير الله ، بأن نفرده وحده بالعبادة والطاعة والإذعان .
{ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } أى ولا نشرك معه أحدا فى العبادة والخضوع ، بأن نقول : فلان إله ، أو فلان ابن إله ، أو أن الله ثالث ثلاثة .
{ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } أى ولا يطيع بعضنا بعضا فى معصية الله . قال الآلوسى : ويؤيده ما أخرجه الترمذى وحسنه من حديث عدى بن حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قال : ما كنا نعبدهم يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : " أما كانوا يحلون منكم ويحرمون فتأخذون بقولهم ؟ قال : نعم . فقال صلى الله عليه وسلم هو ذاك " قيل إلى هذا أشار - سبحانه - بقوله : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } فالآية الكريمة قد نهت الناس جميعا عن عبادة غير الله ، وعن أن يشرك معه فى الألوهية أحد من بشر أو حجر أو غير ذلك ، وعن أن يتخذ أحد من البشر فى مقام الرب - عز وجل - بأن يتبع فى تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله أو حرمه .
ولقد كانت رسالة الأنبياء جميعا متفقة فى دعوة الناس إلى عبادة الله وحده ، وقد حكى القرآن فى كثير من الآيات هذا المعنى ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } ثم أرشد الله - تعالى - المؤمنين إلى ما يجب عليهم أن يقولوه إذا مالج الجاحدون فى طغيانهم فقال : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } .
أى فإن أعرض هؤلاء الكفاء عن دعوة الحق ، وانصرفوا عن موافقتكم بسبب ما هم عليه من عناد وجحود فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم ، بل قولوا لهم : اشهدوا : بأنا مسملون مذعنون لكلمة الحق ، بخلافكم أنتم فقد رضيتم بما أنتم فيه من باطل .
قال صاحب الكشاف وقوله { فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أى لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم . وذلك كما يقول الغالب للمغلوب فى جدال وصراع أو غيرهما : اعترف بأنى أنا الغالب وسلم لى بالغلبة . ويجوز أن يكون من باب التعريض ومعنا : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره " .
هذا وتعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التى تهدى الناس إلى طريق الحق بأسلوب منطقى رصين ، ولذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يكتبها في بعض رسائله التى أرسلها إلى الملكوك والرؤساء ليدعوهم إلى الإسلام - .
فقد جاء فى كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى هرقل - ملك الروم - " من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى .
أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام . أسلم تسليم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، { ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } إلخ الآية " .
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ومن جرى مجراهم { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ } والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا . ثم وصفها بقوله : { سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي : عدل ونصف ، نستوي نحن وأنتم فيها . ثم فسرها بقوله : { أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } لا وَثَنا ، ولا صنما ، ولا صليبا ولا طاغوتا ، ولا نارًا ، ولا شيئًا{[5147]} بل نُفْرِدُ العبادة لله وحده لا شريك له . وهذه دعوة جميع الرسل ، قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] . [ وقال تعالى ]{[5148]} { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] . ثم قال : { وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } وقال ابن جُرَيْج : يعني : يطيع بعضنا بعضا في معصية الله . وقال عكرمة : يعني : يسجد بعضنا لبعض .
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : فإن تولوا عن هذا النَّصَف وهذه الدعوة فأشْهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم .
وقد ذكرنا في شرح البخاري ، عند روايته من طريق الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن أبي سفيان ، في قصته حين دخل على قيصر ، فسألهم عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه ، فأخبره بجميع ذلك على الجلية ، مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مُشْركًا لم يُسْلم بعد ، وكان ذلك بعد صُلْح الحُدَيْبِيَة وقبل الفتح ، كما هو مُصَرّح به في الحديث ، ولأنه لما قال{[5149]} هل يغدر ؟ قال : فقلت : لا ونحن منه في مُدة لا ندري ما هو صانع فيها . قال : ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئا سوى هذه : والغرض أنه قال : ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ، فإذا فيه :
" بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ ، سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى . أَمَّا بَعْدُ ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَك مَرَّتَيْنِ فَإِن{[5150]} تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأريسيِّين ، و { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }{[5151]} .
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صَدْر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وَفْد نجْران ، وقال الزهري : هم أول من بَذَلَ الجزية . ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح ، فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل الفتح إلى هِرقْل في جملة الكتاب ، وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري ؟ والجواب من وجُوه :
أحدها : يحتمل أن هذه الآية نزلت مرتين ، مَرّةً قبل الحديبية ، ومرة بعد الفتح .
الثاني : يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى عند هذه الآية ، وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك ، ويكون قول ابن إسحاق : " إلى بضع وثمانين آية " ليس بمحفوظ ، لدلالة حديث أبي سفيان .
الثالث : يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية ، وأن الذي بذلوه مُصَالحةً عن المباهلة لا على وجه الجزية ، بل يكون من باب المهادنة والمصالحة ، ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك كما جاء فرض الخمس والأربعة الأخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر ، ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك .
الرابع : يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكَتْب هذا [ الكلام ]{[5152]} في كتابه إلى هرقل لم{[5153]} يكن أنزل بعد ، ثم نزل القرآن موافقة له كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحجاب وفي الأسارى ، وفي عدم الصلاة على المنافقين ، وفي قوله :
{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] وفي قوله : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } الآية [ التحريم : 5 ] .
{ قل يا أهل الكتاب } يعم أهل الكتابين . وقيل يريد به وفد نجران ، أو يهود المدينة . { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } لا يختلف فيها الرسل والكتب ويفسرها ما بعدها { ألا نعبد إلا الله } أن نوحده بالعبادة ونخلص فيها . { ولا نشرك به شيئا } ولا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد . { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } ولا نقول عزير ابن الله ، ولا المسيح ابن الله ، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم بعضنا بشر مثلنا روي أنه لما نزلت { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } قال عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله ، قال : " أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم ، قال : نعم ، قال : هو ذاك " . { فإن تولوا } عن التوحيد . { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم ، أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل .
( تنبيه ) انظر إلى ما راعى في هذه القصة من المبالغة في الإرشاد وحسن التدرج في الحجاج بين : أولا ، أحوال عيسى عليه الصلاة والسلام وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية ، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم ، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ، ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد وسلك طريقا أسهل ، وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ، ثم لما لم يجد ذلك أيضا عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم أعرض عن ذلك وقال { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .
رجُوع إلى المجادلة ، بعد انقطاعها بالدعاء إلى المباهلة ، بعَثَ عليه الحرصُ على إيمانهم ، وإشارة إلى شيءٍ من زيغ أهل الكتابين عن حقيقة إسلامِ الوجه لله كما تقدم بيانه . وقد جيء في هذه المجادلة بحجة لا يجدون عنها موئلاً وهو دعوتهم إلى تخصيص الله بالعبادة ونبذ عقيدة إشراك غيره في الإلهية . فجملة { قل يا أهل الكتاب } بمنزلة التأكيد لجملة { فقل تعالوا ندع أبناءنا } [ آل عمران : 61 ] لأنّ مدلول الأولى احتجاج عليهم بضعف ثقتهم بأحقّية اعتقادهم . ومدلول هذه احتجاج عليهم بصحة عقيدة الإسلام ، ولذلك لم تعطف هذه الجملة . والمراد بأهل الكتاب هنا النصارى : لأنهم هم الذين اتخذوا المخلوق ربّاً وعبدوه مع الله .
وتعالوا هنا مستعملة في طلب الاجتماع على كلمة سواء وهو تمثيل : جعلت الكلمة المجتمع عليها بشبه المكان المراد الاجتماع عنده . وتقدم الكلام على ( تعالوا ) قريباً .
والكلمة هنا أطلقت على الكلام الوجيز كما في قوله تعالى : { كلا إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] .
وسواء هنا اسم مصدر الاستواء ، قيل بمعنى العدل ، وقيل بمعنى قصدٍ لا شطط فيها ، وهذان يكونان من قولهم : مكان سَواء وسِوَى وسَوى بمعنى متوسّط قال تعالى : { فرءاه في سواء الجحيم } [ الصافات : 55 ] . وقال ابن عطية : بمعنى ما يستوي فيه جميع الناس ، فإنّ اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً ، لا يكون على استواء حال وهو قول حسن . وعلى كل معنى فالسواء غير مؤنث ، وصف به { كلمة } ، وهو لفظ مؤنث ، لأنّ الوصف بالمصدر واسم المصدر لا مطابقة فيه .
و { ألا نعبد } بدل من { كلمة } ، وقال جماعة : هو بدل من سَواء ، وردّه ابن هشام ، في النوع الثاني من الجهة السادسة من جهات قواعد الإعراب من مغني اللبيب ، واعترضه الدماميني وغيره .
والحق أنه مردود من جهة مراعاة الاصطلاح لا من جهة المعنى ؛ لأنّ سَواء وصف لِكلمة وألاّ نعبد لو جعل بدلاً من سواء ءال إلى كونه في قوة الوصف لكلمة ولا يحسن وصف كلمة به .
وضمير بيننا عائد على معلوم من المقام : وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، ولذلك جاء بعده : { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .
ويستفاد من قوله : { ألا نعبد إلا الله } إلى آخره ، التعريضُ بالذين عبدوا المسيح كُلِّهم .
وقوله : { فإن تولوا } جيء في هذا الشرط بحرف إنْ لأنّ التولِّي بعد نهوض هذه الحجة وما قبلها من الأدلة غريب الوقوع ، فالمقام مشتمل على ما هو صالح لاقتلاع حصول هذا الشرط ، فصار فعل الشرط من شأنه أن يكون نادر الوقوع مفروضاً ، وذلك من مواقع ( إن ) الشرطية فإن كان ذلك منهم فقد صاروا بحيث يُؤيَس من إسلامهم فأعرِضوا عنهم ، وأمسكوا أنتم بإسلامكم ، وأشهدوهم أنكم على إسلامكم . ومعنى هذا الإشهاد التسْجيل عليهم لئلاّ يُظهروا إعراض المسلمين عن الاسترسال في محاجتهم في صورة العجز والتسليم بأحقية ما عليه أهل الكتاب فهذا معنى الإشهاد عليهم بأنا مسلمون .