الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۭ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡـٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} (64)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قل} لهم يا محمد: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء}: كلمة العدل، وهي الإخلاص، {بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا}: من خلقه، {ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله}: لأنهم اتخذوا عيسى ربا. {فإن تولوا}: فإن أبوا التوحيد، {فقولوا} لهم أنتم: {اشهدوا بأنا مسلمون}: يعني مخلصين بالتوحيد...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قل يا محمد لأهل الكتاب وهم أهل التوراة والإنجيل: {تَعَالَوْا}: هلمّوا {إلى كَلِمَة سَوَاء}: إلى كلمة عدل {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} والكلمة العدل: هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه فلا نشرك به شيئا. {وَلا يَتّخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبابا}: ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله، ويعظمه بالسجود له، كما يسجد لربه. {فإنْ تَوَلّوْا}: فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها، فلم يجيبوك إليها، فقولوا أيها المؤمنون للمتولين عن ذلك: اشهدوا بأنا مسلمون.

واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية؛ فقال بعضهم: نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم الذين حاجوا في إبراهيم.

وقال آخرون: بل نزلت في الوفد من نصارى نجران، فدعاهم إلى النّصَف، وقطع عنهم الحجة.

وإنما قلنا: عنى بقوله: {يا أهْلَ الكِتابِ}: أهل الكتابين، لأنهما جميعا من أهل الكتاب، ولم يخصص جلّ ثناؤه بقوله: {يا أهْلَ الكِتابِ} بَعْضا دون بعض، فليس بأن يكون موجها ذلك إلى أنه مقصود به أهل التوراة بأولى منه، بأن يكون موجها إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دون غيرهم من أهل التوراة. وإذ لم يكن أحد الفريقين بذلك بأولى من الآخر، لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر، ولا أثر صحيح، فالواجب أن يكون كل كتابي معنيا به، لأن إفراد العبادة لله وحده، وإخلاص التوحيد له، واجب على كل مأمور منهيّ من خلق الله، وأهل الكتاب يعمّ أهل التوراة وأهل الإنجيل، فكان معلوما بذلك أنه عني به الفريقان جميعا.

{تَعالَوْا}: أقبِلوا وهلمّوا. {إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ}: الكلمة العدل، و«السواء»: من نعت «الكلمة».

وقال آخرون: هو قول لا إلَه إلا الله.

{ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ}: فإنّ «أنْ» في موضع خفض على معنى: تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله. {وَلا يَتّخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبابا}: اتخاذ بعضهم بعضا، هو ما كان بطاعة الأتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: {اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلها وَاحِدا}. إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة، وإن لم يُصَلّوا لهم.

وقال آخرون: اتخاذ بعضهم بعضا أربابا: سجود بعضهم لبعض. {فَإنْ تَوَلّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِمُونَ}: فإن تولى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا، فقولوا أنتم أيها المؤمنون لهم: اشهدوا علينا بأنا بما توليتم عنه من توحيد الله وإخلاص العبودية له، وأنه الإلَه الذي لا شريك له مسلمون؛ يعني خاضعون لله به متذللون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

أي تلك الكلمة عدل بيننا وبينكم، لأنهم كانوا يقرون أن خالق السموات والأرض الله، بقوله: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25 و..] وكذلك يقرون أن خالقهم الله بقوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87] لكن منهم من يعبدون [من دون] الله أوثانا، ويقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] ومنهم من يجعل له شركاء وأنداداً يشركهم في عبادته، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يجعلوا عبادتهم إلى الذي أنعم عليهم إذ العبادة لا تكون إلا لله الذي أقروا جميعا أنه خالق السموات والأرض، وأنه ربهم، وألا يصرفوا عبادتهم إلى غير الذي أنعم عليهم إذ العبادة هي تشكر وجزاء ما أنعم عليهم {ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله} لأن العبادة لواحد أهون وأخف من العبادة لعدد، وأن صرف العبادة إلى من أنعم عليكم أولى من صرفها إلى الذي لم ينعم عليكم؛ إذ ذاك جور وظلم في العقل أن ينعم أحد على آخر، فيشكر غيره...

{فإن تولوا} يحتمل {تولوا} عن طاعة الله وتوحيده وصرف العبادة إليه، فقل كذا، ويحتمل {فإن تولوا} عن المباهلة والملاعنة فقل: {اشهدوا بأن مسلمون} أي مخلصون العبادة له، والله أعلم...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

قوله تعالى: {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ}... ثم فسرها بقوله تعالى: {ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللهَ ولاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذْ بَعْضُنَا بَعْضاً أرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ} وهذه هي الكلمة التي تشهد العقول بصحتها، إذْ كان الناس كلهم عبيد الله لا يستحقّ بعضهم على بعض العبادة ولا يجب على أحد منهم طاعة غيره إلاّ فيما كان طاعة لله تعالى. وقد شَرَطَ الله تعالى في طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ما كان منها معروفاً، وإن كان الله تعالى قد علم أنه لا يأمر إلاّ بالمعروف؛ لئلاَّ يترخص أحد في إلزام غيره طاعة نفسه إلا بأمر الله تعالى، كما قال الله تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم في قصة المبايعات: {ولا يعصينك في معروف فبايعهن} [الممتحنة: 12] فشَرَطَ عليهنَّ تَرْكَ عصيان النبي صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي يأمرهن به تأكيداً، لئلا يلزم أحداً طاعة غيره إلا بأمر الله وما كان منه طاعة لله تعالى. {ولا يَتَّخِذْ بَعْضُنا بَعْضاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ}: أي لا يتبعه في تحليل شيء ولا تحريمه إلاّ فيما حلّله الله أو حرَّمه، وهو نظير قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم} [التوبة: 31].

وقد رَوَى عبد السلام بن حرب عن غُطَيْف بن أعْيَن عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فقال:"أَلْقِ هَذَا الوَثَنَ عَنْكَ" ثم قرأ: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} [التوبة: 31]، قلت: يا رسول الله ما كنّا نعبدهم! قال: "أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ الله عَلَيْهِمْ فَيُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ ما أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ فَيُحَرِّمُونَهُ؟". قال:"فتلك عبادتهم"؛ وإنما وصفهم الله تعالى بأنهم اتخذوهم أرباباً لأنهم أنزلوهم منزلة ربهم وخالقهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحلّله، ولا يستحق أحدٌ أن يُطاع بمثله إلاّ الله تعالى الذي هو خالقهم، والمكَلَّفُون كلهم متساوون في لزوم عبادة الله واتّباع أمره وتوجيه العبادة إليه دون غيره...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}: مستوية بيننا وبينكم، لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل. وتفسير الكلمة قوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله}: يعني تعالوا إليها حتى لا نقول: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، لأن كل واحد منهما بعضنا بشر مثلنا، ولا نطيع أحبارنا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله... {فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن التوحيد، {فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}: أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما: اعترف بأني أنا الغالب وسلم لي الغلبة. ويجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه: اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

«إلى كلمة عدل بيننا وبينكم»: قال بعض المفسرين: معناه إلى كلمة قصد...

والسواء والعدل والقصد مصادر وصف بها في هذه التقديرات كلها. والذي أقوله في لفظة {سواء} انها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون، صغيرهم وكبيرهم، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً فلم يكونوا على استواء حال فدعاهم بهذه الآية إلى ما تألفه النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه، ف {سواء} على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر: هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه. والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير اللفظة بعدل، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل، وعلى هذا الحد جاءت لفظة {سواء} في قوله تعالى: {فانبذ إليهم على سواء} على بعض التأويلات، ولو دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حراً مقاسماً لك في عيشك، لكنت قد دعوته إلى السواء، الذي هو استواء الحال على ما فسرته، واللفظ على كل تأويل فيها معنى العدل، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال، وهو عندي حسن، لأن النفوس تألفه، والله الموفق للصواب برحمته...

{فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}: أمر بتصريح مخالفتهم بمخاطبتهم ومواجهتهم بذلك، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد،...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض، ولا ميل فيه لأحد على صاحبه،... لما أورد الدلائل عليهم أولا، ثم باهلهم ثانيا، فعدل في هذا المقام إلى الكلام المبني على رعاية الإنصاف، وترك المجادلة، وطلب الإفحام والإلزام، ومما يدل عليه، أنه خاطبهم ههنا بقوله تعالى: {يا أهل الكتاب} وهذا الاسم من أحسن الأسماء وأكمل الألقاب حيث جعلهم أهلا لكتاب الله، ونظيره، ما يقال لحافظ القرآن يا حامل كتاب الله، وللمفسر يا مفسر كلام الله، فإن هذا اللقب يدل على أن قائله أراد المبالغة في تعظيم المخاطب وفي تطييب قلبه، وذلك إنما يقال عند عدول الإنسان مع خصمه عن طريقة اللجاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنصاف...

أما قوله تعالى: {إلى كلمة سواء بيننا} فالمعنى هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض، لا ميل فيه لأحد على صاحبه، والسواء هو العدل والإنصاف، وذلك لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف، فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف، فإذا أنصف وترك ظلمه أعطاه النصف فقد سوى بين نفسه وبين غيره وحصل الاعتدال، وإذا ظلم وأخذ أكثر مما أعطى زال الاعتدال فلما كان من لوازم العدل والإنصاف التسوية جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل...

المسألة الثانية: إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء: أولها: {أن لا نعبد إلا الله}. وثانيها: أن {لا نشرك به شيئا}. وثالثها: أن {لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله}. وإنما ذكر هذه الثلاثة لأن النصارى جمعوا بين هذه الثلاثة فيعبدون غير الله وهو المسيح، ويشركون به غيره وذلك لأنهم يقولون إنه ثلاثة: أب وابن وروح القدس، فأثبتوا ذوات ثلاثة قديمة سواء،... ولما أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلة فقد أشركوا، وأما إنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فيدل عليه وجوه: أحدها: إنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم. والثاني: إنهم كانوا يسجدون لأحبارهم. والثالث: قال أبو مسلم: من مذهبهم أن من صار كاملا في الرياضة والمجاهدة يظهر فيه أثر حلول اللاهوت، فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فهم وإن لم يطلقوا عليه لفظ الرب إلا أنهم أثبتوا في حقه معنى الربوبية. والرابع: هو أنهم كانوا يطيعون أحبارهم في المعاصي، ولا معنى للربوبية إلا ذلك، ونظيره قوله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} [الجاثية: 23] فثبت أن النصارى جمعوا بين هذه الأمور الثلاثة، وكان القول ببطلان هذه الأمور الثلاثة كالأمر المتفق عليه بين جمهور العقلاء وذلك، لأن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله، فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح على هذا الوجه، وأيضا القول بالشركة باطل باتفاق الكل، وأيضا إذا كان الخالق والمنعم بجميع النعم هو الله، وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والطاعة إلا إليه، دون الأحبار والرهبان، فهذا هو شرح هذه الأمور الثلاثة...

{فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}: إن أبوا إلا الإصرار، فقولوا إنا مسلمون، يعني أظهروا أنكم على هذا الدين، لا تكونوا في قيد أن تحملوا غيركم عليه.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

وفي قوله: بعضنا بعضاً، إشارة لطيفة، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل في البشرية، وما كان مثلك استحال أن يكون إلهاً، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوّة في قولهم: {إن أنتم إلا بشر مثلنا} {إن نحن إلا بشر مثلكم} {أنؤمن لبشرين مثلنا} فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعاداً: وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى، يؤكد بعضها بعضاً، إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام، لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير الله، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك،... فإن تولوا عن الكلمة السواء، فأشهدوهم أنكم منقادون إليها، وهذا مبالغة في المباينة لهم، أي: إذا كنتم متولين عن هذه الكلمة، فإنا قابلون لها ومطيعون. وعبر عن العلم بالشهادة على سبيل المبالغة، إذ خرج ذلك من حيز المعقول إلى حيز المشهود، وهو المحضر في الحسّ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما نكصوا عن المباهلة بعد أن أورد عليهم أنواع الحجج فانقطعوا، فلم تبق لهم شبهة وقبلوا الصغار والجزية، فعلم انحلالهم عما كانوا فيه من المحاجة ولم يبق إلا إظهار النتيجة، اقتضى ذلك عظم تشوفه صلى الله عليه وسلم إليها لعظم حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق، فأمره بأن يذكرها مكرراً إرشادهم بطريق أخف مما مضى بأن يؤنسهم فيما يدعوهم إليه بالمؤاساة، فيدعو دعاء يشمل المحاجين من النصارى وغيرهم ممن له كتاب من اليهود وغيرهم إلى الكلمة التي قامت البراهين على حقيتها ونهضت الدلائل على صدقها، دعاء لا أعدل منه، على وجه يتضمن نفي ما قد يتخيل من إرادة التفضل عليهم والاختصاص بأمر دونهم، وذلك أنه بدأ بمباشرة ما دعاهم إليه ورضي لهم ما رضي لنفسه وما اجتمعت عليه الكتب واتفقت عليه الرسل فقال سبحانه وتعالى: {قل} ولما كان قد انتقل من طلب الإفحام خاطبهم تلطفاً بهم بما يحبون فقال: {يا أهل الكتاب} إشارة إلى ما عندهم في ذلك من العلم {تعالوا} أي ارفعوا أنفسكم من حضيض الشرك الأصغر والأكبر الذي أنتم به {إلى كلمة} ثم وصفها بقوله: {سواء} أي ذات عدل لا شطط فيه بوجه

{بيننا وبينكم} ثم فسرها بقوله: {ألا نعبد إلا الله} أي لأنه الحائز لصفات الكمال، وأكد ذلك بقوله: {ولا نشرك به شيئاً} أي لا نعتقد له شريكاً وإن لم نعبده.

ولما كان التوجه إلى غير الله خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى عبر بصيغة الافتعال فقال: {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً} أي كعزير والمسيح والأحبار والرهبان الذين يحلون ويحرمون.

ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربي بنوع تربية نبه على أن المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد، والاجتراء على ما يختص به الله سبحانه وتعالى فقال: {من دون الله} الذي اختص بالكمال.

ولما زاحت الشكوك وانتفت العلل أمر بمصارحتهم بالخلاف في سياق ظاهره المتاركة وباطنه الإنذار الشديد المعاركة فقال -مسبباً عن ذلك مشيراً بالتعبير بأداة الشك إلى أن الإعراض عن هذا العدل لا يكاد يكون: {فإن تولوا} أي عن الإسلام له في التوحيد {فقولوا} أنتم تبعاً لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال: {أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] وامتثالاً لوصيته إذ قال: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132] {اشهدوا بأنا} أي نحن {مسلمون} أي متصفون بالإسلام منقادون لأمره، فيوشك أن يأمرنا نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالكم لنصرته عليكم جرياً على عادة الرسل، فنجيبه بما أجاب به الحواريون المشهدون بأنهم مسلمون، ثم نبارزكم متوجهين إليه معتمدين عليه، وأنتم تعرفون أيامه الماضية ووقائعه السالفة.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

لما بين جل شأنه القصص الحق في شأن عيسى والمختلفين فيه وأقام الحجة العقلية على الغالين فيه بجعله ربا وإلها، ثم ألزمهم من طريق الوجدان أو الضمير كما يقال بما دعاهم إلى المباهلة، لم يبق إلا أن يأمر نبيه بأن يدعوهم إلى الحق الواجب اتباعه في الإيمان وذلك قوله: {قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم}. قال الأستاذ الإمام: الكلام من أول السورة في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم والرد على المنكرين. وقد ظهر بالدعوة إلى المباهلة انقطاع حجاج المكابرين ودل نكولهم عنها على أنهم ليسوا على يقين من اعتقادهم ألوهية المسيح وفاقد اليقين يتزلزل عند ما يدعى إلى شيء يخاف عاقبته. فلما نكلوا دعاهم إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء وهو سواء بين الفريقين أي عدل ووسط لا يرجح فيه طرف على آخر.

وقد فسر بقوله: {ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله}، أقول المراد بهذا تقرير وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية وكلاهما متفق عليه بين الأنبياء... وعلى هذا درج جميع أنبياء بني إسرائيل حتى المسيح عليه وعليهم الصلاة والسلام... وكان يحتج على اليهود بعدم إقامتهم ناموس موسى (شريعته) وهو لم ينسخ من هذا الناموس إلا بعض الرسوم الظاهرة والتشديدات في المعاملة أما الوصايا العشر ورأسها التوحيد والنهي عن الشرك فلم ينسخ منها شيئا.

قال الأستاذ الإمام: المعنى أننا نحن وإياكم على اعتقاد أن العالم من صنع إله واحد والتصرف فيه لإله واحد، وهو خالقه ومدبره وهو الذي يعرفنا على ألسنة أنبيائه ما يرضيه من العمل وما لا يرضيه. فتعالوا بنا نتفق على إقامة هذه الأصول المتفق عليها ورفض الشبهات التي تعرض لها حتى إذا سلمنا أن فيما جاءكم من نبأ المسيح شيئا فيه لفظ ابن الله خرجناه جميعا على وجه لا ينقض الأصل الثابت العام الذي اتفق عليه الأنبياء. فإن سلمنا أن المسيح قال إنه ابن الله قلنا هل فسر هذا القول بأنه إله يعبد؟ وهل دعا إلى عبادته وعبادة أمه، أم كان يدعو إلى عبادة الله وحده؟ لا شك أنكم متفقون معنا على أنه كان يدعو إلى عبادة الله وحده والإخلاص له بالتصريح الذي لا يقبل التأويل.

وأقول: إن كلامه عن نفسه كان أكثره من باب الكناية أو المجاز، بل كان بعضه من قبيل المعميات والألغاز، حتى إن تلاميذه لم يكونوا يفهموه إلا بعد تفسيره. ولقد كان هذا التفسير يتأخر أحيانا إلى أمد بعيد ولفظ ابن الله أطلق في كتب العهد العتيق على إسرائيل وغيره فهو مجاز قطعا. أما هذه النزاعات الوثنية التي دخلت على الدين فقد دخلت بعده وليس لواضعيها سند من كلامه وإنما يروجونها بأقيسة باطلة جرى عليها كثير من الوثنيين من قبل ومن بعد كقول مشركي العرب {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] وقولهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله}

[يونس: 18].

قلنا إن الآية قررت وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية فأما وحدانية الألوهية فهي قوله: {أن لا نعبد إلا الله} وأكده بقوله: {ولا نشرك به شيئا} والإله هو المعبود الذي توله العقول في معرفته وتدعوه وتصمد إليه لاعتقادنا أن السلطة الغيبية له وحده وأما وحدانية الربوبية فهي قوله: {ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله} فالرب هو السيد المربي الذي يطاع فيما يأمر وينهى. والمراد هنا من له حق التشريع والتحليل والتحريم كما ورد في حديث عدي بن حاتم قال:"أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [التوبة: 31] فقلت له يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فيحرمون ويحلون ما حرم الله فيستحلون؟ فقلت بلى وسئل حذيفة رضي الله عنه عن الآية فأجاب بمثل ذلك.

قال الأستاذ الإمام: كان اليهود موحدين ولكن كان عندهم شيء هو منبع شقائهم في كل حين وهو اتباع رؤساء الدين فيما يقررونه وجعله بمنزلة الأحكام المنزلة من الله تعالى وجرى النصارى على ذلك وزادوا مسألة غفران الخطايا وهي مسالة تفاهم أمرها في بعض الأزمان حتى ابتلعت بها الكنائس أكثر أملاك الناس. ومن الغلو فيها ولدت مسألة البروتستانت إذ قاموا فقالوا هلم بنا نترك هؤلاء الأرباب من دون الله ونأخذ الدين من كتابه لا نشرك معه في ذلك قول أحد.

قال تعالى: {فإن تولوا} وأعرضوا عن هذه الدعوة وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله باتخاذ الشركاء الذين يسمونهم وسطاء وشفعاء واتخاذ الأرباب الذين يحلون لهم ويحرمون {فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} نعبد الله وحده مخلصين له الدين لا ندعو سواه ولا نتوجه إلى غيره في طلب نفع ولا دفع ضر ولا نحل إلا ما أحله ولا نحرم إلا ما حرمه. قال الأستاذ الإمام: الآية حجة على أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ بقول أحد ما لم يسنده إلى المعصوم. أقول يعني في مسائل الدين البحتة: العبادات والحلال والحرام. أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فهي مفوضة بأمر الله إلى أولي الأمر؛ وهم رجال الشورى من أهل الحل والعقد. فما يقررونه يجب على حكام المسلمين أن ينفذوه وعلى الرعية أن يقبلوه. فما جرى عليه المقلدون من المسلمين من الأخذ بآراء بعض الفقهاء في العبادات والحلال والحرام هو عين ما أنكره كتاب الله تعالى على أهل الكتاب وجعله منافيا للإسلام بل جعل مخالفتهم فيه هي عين الإسلام فليعتبر المعتبرون. فإن هذه الآية أساس الدين المتين وأصله الأصيل ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها أهل الكتاب إلى الإسلام كما ثبت في كتبه إلى هرقل والمقوقس وغيرهما وهذا نص كتابه صلى الله عليه إلى هرقل عاهل الروم كما في رواية البخاري:

"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم اليريسيين و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا تعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا} الآية إلى آخرها.

فلولا أن هذه الآية الكريمة أساس الدين وعموده لما جعلها آية الدعوة إلى الإسلام فهل يعذر من يؤمن بها إذا هو أدخل فيها باجتهاده ما ليس منها فاتخذ له أندادا يدعوهم لكشف الضر وجلب النفع زاعما أنهم وسائط يقربونه إلى الله زلفى؛ ويشفعون له عنده في مصالح الدنيا، وهذا عين الإشراك في الألوهية بالاجتهاد الباطل، والقياس الفاسد، الذي يشبه به الخبير العليم، الرحمن الرحيم، بالملوك الجاهلين والأمراء المستبدين، ولا اجتهاد في العقائد، ولا قياس في أصل الإيمان، أم هل يعذر من يؤمن بها إذا هو اتخذ لنفسه أربابا سماهم العلماء الراسخين، أو الأئمة المجتهدين، فجعل كلامهم حجة في الدين، وشرعا متبعا في التحليل والتحريم، وذلك عين الإشراك في الربوبية، والخروج عن هداية الآية القرآنية، المؤيدة بمثل قوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21] وقوله: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} [النحل: 116] فالله تعالى قد حد الحدود وبين الحلال والحرام وسكت عن أشياء رحمة بنا غير نسيان منه عز وجل، ونهانا نبيه أن نبحث عما سكت عنه وأن نزيد في الدين برأينا واجتهادنا وإنما أباح لنا الاجتهاد لاستنباط ما تقوم به مصالحنا في الدنيا فهذا هو هدى الآية وما يعقلها إلا العالمون.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ومن ثم يتلو ذلك التهديد في السياق دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء: إلى عبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، وألا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله.. وإلا فهي المفاصلة التي لا مصاحبة بعدها ولا مجادلة:

(قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون)..

وإنها لدعوة منصفة من غير شك. دعوة لا يريد بها النبي [ص] أن يتفضل عليهم هو ومن معه من المسلمين.. كلمة سواء يقف أمامها الجميع على مستوى واحد. لا يعلو بعضهم على بعض، ولا يتعبد بعضهم بعضا. دعوة لا يأباها إلا متعنت مفسد، لا يريد أن يفيء إلى الحق القويم.

إنها دعوة إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئا. لا بشرا ولا حجرا. ودعوة إلى ألا يتخذ بعضهم بعضا من دون الله أربابا. لا نبيا ولا رسولا. فكلهم لله عبيد. إنما اصطفاهم الله للتبليغ عنه، لا لمشاركته في الألوهية والربوبية.

(فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون).

فإن أبوا عبادة الله وحده دون شريك. والعبودية لله وحده دون شريك. وهما المظهران اللذان يقرران موقف العبيد من الألوهية.. إن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون..

وهذه المقابلة بين المسلمين ومن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، تقرر بوضوح حاسم من هم المسلمون.

المسلمون هم الذين يعبدون الله وحده؛ ويتعبدون لله وحده؛ ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله.. هذه هي خصيصتهم التي تميزهم من سائر الملل والنحل؛ وتميز منهج حياتهم من مناهج حياة البشر جميعا. وإما أن تتحقق هذه الخصيصة فهم مسلمون، وإما ألا تتحقق فما هم بمسلمين مهما ادعوا أنهم مسلمون!

إن الإسلام هو التحرر المطلق من العبودية للعبيد. والنظام الإسلامي هو وحده من بين سائر النظم الذي يحقق هذا التحرر..

إن الناس في جميع النظم الأرضية يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله.. يقع هذا في أرقى الديمقراطيات كما يقع في أحط الديكتاتوريات سواء.. إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبد الناس. حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين.. وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس -في صورة من الصور- ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس -على أي وضع من الأوضاع- وهذه المجموعة التي تخضع الآخرين لتشريعها وقيمها وموازينها وتصوراتها هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أربابا من دون الله؛ ويسمحون لها بادعاء خصائص الألوهية والربوبية، وهم بذلك يعبدونها من دون الله، وإن لم يسجدوا لها ويركعوا. فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله.

وفي النظام الإسلامي وحده يتحرر الإنسان من هذه الربقة.. ويصبح حرا. حرا يتلقى التصورات والنظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين من الله وحده، شأنه في هذا شأن كل إنسان آخر مثله. فهو وكل إنسان آخر على سواء. كلهم يقفون في مستوى واحد، ويتطلعون إلى سيد واحد، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله.

والإسلام -بهذا المعنى- هو الدين عند الله. وهو الذي جاء به كل رسول من عند الله.. لقد أرسل الله الرسل بهذا الدين ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله. ومن جور العباد إلى عدل الله.. فمن تولى عنه فليس مسلما بشهادة الله. مهما أول المؤولون، وضلل المضللون.. (إن الدين عند الله الإسلام)..

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وكان النداء في هذا عاما؛ لأن العيب عام فيهم،والدواء واحد؛ فلوحدة الداء ووحدة الدواء كان النداء عاما؛ ذلك ان عيبهم هو التعصب لما عندهم تعصبا أعماهم عن الحق عند غيرهم،فهم يظنون انهم وحدهم أهل علم النبوة لا ينزل على غيرهم ولا يدينون به لسواهم،فهم يزعمون انهم أبناء الله وأحباؤه،وكل يتعصب لما عنده،فاليهود يقولون:ليست النصارى على شيء،والنصارى يقولون:ليست اليهود على شيء،وكلاهما يقولون:ليس غيرنا على شيء،والدواء واحد أيضا،وهو طلب الحق لذات الحق من غير إذعان لهوى،ولا إفراط في العصبية،وحتى لا تؤدى إلى الانحراف. وناداهم سبحانه:ب"أهل الكتاب" مع انهم حرفوا فيه الكلم عن مواضعه،وانحرفوا عن مبادئه، وفرقوا في أحكامه،وتفرقوا في فهمه؛ والسبب في هذا النداء هو اولا توبيخهم على ما كان منهم؛ لأن علمهم بالكتاب كان يوجب عليهم الإذعان للحق بدل التفرق فيه، {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.14} [الشورى] ثم هناك سبب آخر،وهو أن علمهم بالكتاب في الجملة يجعل الاحتكام إلى ما بقي منه عندهم كافيا لإذعانهم إن كانت عندهم أثارة من إيمان بالحق وطلب له مع ما هم فيه من تعصب...

وكانت الدعوة إلى أخذ دين الله من ينبوعه الصافي فيهما فائدتان: إحداهما:ألا يتزيدوا على ما امر الله تعالى وما نهى عنه. والثانية:أن أولئك المجادلين هم الذين يبثون في نفوس أتباعهم التعصب العمى،محافظة على سلطانهم ان يزول؛ فكانوا في زعامتهم بمنزلة زعماء قريش وأشباههم من انهم خشوا على سلطانهم من أتباع النبي الكريم صلى اله عليه وسلم. وإذا كان قد دعاهم إلى هذا الإنصاف وإلى ترك التعصب جانبا،وعدم الخضوع لأسبابه،فإن حال الذين يخاطبهم إحدى حالين:غما ان يخلصوا في طلب الحق،ويجيبوا داعية،وتلك خير الخصلتين، وإما ان لا يجيبوا داعية وتلك هي السوءة،فإن كانت الأولى فتلك هداية الله،وإن كانت الثانية فإن الله تعالى قد كتب عليهم الشقوة،ولا سبيل لن يدخل النور قلوبهم،فإن من طلب منه الإنصاف فأعرض عنه فلا سبيل إلى هدايته،والجدل معه لا يجدي؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: {إن تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون}: أي فإن اعرضوا ونأوا بجانبهم عن إجابة داعي الإنصاف،والدعوة بالتي هي أحسن فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم،فإن الجدل مع من لم يجب داعي العدالة لا يزيده إلا لجاجة وعنادا؛ وإن الحقائق تتبعثر على ألسنة المتجادلين،...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

في هذه الآية حديث مع أهل الكتاب في أسلوب جديد من أساليب الحوار التي أراد اللّه للنبيّ محمَّد (ص) في ما خاطبه به في وحيه، أن يواجه به هؤلاء الذين يريد الإسلام الوصول معهم إلى نقطة اللقاء على أساس القناعة في الفكرة الواحدة، أو التعايش في موقف التفاهم وإقامة الحجّة الواضحة التي لا ريب فيها ولا التباس. ولعلّ قيمة هذه الآية في ما تعالج من أسلوب، أنَّها تمثِّل للإنسان الداعية منهجاً للحوار والعمل في كلِّ مواقفه العملية في الحياة، فإنَّ القرآن عندما يطرح أيّة قضية في أيّ مجال من مجالات الحوار مع الآخرين، سواء أكانوا من المشركين أم كانوا من أهل الكتاب، لا يتحدّث عن التاريخ لمجرّد حكاية التاريخ، بل يريد أن يفسح المجال للمفاهيم العامّة الحيّة كي تتحرّك في الساحة من خلال النموذج الحي، الذي ينقل إلينا الفكرة والتجربة معاً، لتكون الفكرة جاهزة للحياة وللحركة في ضوء حركتها الفاعلة في التاريخ...

والآن، نحن مع الآية في هذا الأسلوب الجديد من منهج الحوار. إنَّها تطرح مع أهل الكتاب فكرة اللقاء على قاعدة مشتركة، لنتمكّن من خلال ذلك من اكتشاف وجود لغة وقناعات مشتركة ومشاعر قريبة إلى بعضها البعض، ما يوحي بوجود أساس واقعي للتفاهم، لأنَّ القضايا المسلّمة لدى كلّ فريق يمكن أن تتدخل لتحسم الخلاف في القضايا المتنازع فيها، فهي تدعونا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، فنحن نؤمن بالوحدانية كما تؤمنون، وبذلك نلتقي معاً في نطاق عبادة اللّه الواحد، فلا نشرك في العقيدة ولا نشرك في العبادة. وعلى ضوء ذلك، نلتقي على عدم اتخاذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللّه، لأنَّ ذلك يعني الشرك للّه في خلقه، فلا مجال لأن نحلّ ما حرّمه اللّه علينا، أو نحرّم ما أحلّه اللّه لنا، إذا أمرنا هؤلاء بذلك، فإنَّ ذلك يعني الخضوع والعبادة اللذين يؤديان إلى الشرك في نهاية المطاف...

[تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم] لتكون قاعدة اللقاء على الأرض الفكرية العقيدية المشتركة التي نلتزمها معاً، على أساس وحدة المبدأ من دون الدخول في التفاصيل التي تثير النزاع في الجزئيات هنا وهناك. وإذا شئتم المبدأ العام في اللقاء، فإنَّه قد يُحدث جوّاً نفسياً إيجابياً ملائماً، يفسح المجال للانفتاح على الآخر من موقع الإيحاء بأنَّ هناك فرصةً للقاء في ما يختلف فيه، على أساس واقعية اللقاء من خلال ما اتفق عليه، ليكون الحوار من مواقع اللقاء أقرب إلى حل المشكلة الفكرية والعملية من الانطلاق من مواقع الاختلاف،...

وربَّما كانت قيمة هذا الأسلوب في الإعلان عن الموقف بعد إقامة الحجّة على الطرف الآخر، هو الإيحاء بقوّة الموقف، وعدم الانهزام أمام الحالات السلبية أو الأوضاع الاستعراضية التي يقوم بها الطرف الآخر من أجل تحطيم أعصاب الداعين إلى اللّه والعاملين في سبيله. وهكذا يُعطي الإسلام للحوار خاتمته من دون أن يُغلق بابه أو يسيء إلى الآخرين، بل كلّ ما هناك أنَّه يحاول التأكيد لهم بأنَّ إعراضهم لا يغيّر من الموقف شيئاً، لأنَّه لم ينطلق من خلال قناعات الآخرين وتشجيعهم، بل من داخل القناعة الذاتية المرتكزة على وضوح الرؤية، ما يجعل من استمراره نقطة تحدٍّ حاسمة. وفي ضوء ما قلنا آنفاً، ليس هذا الطرح في أسلوب الحوار منطلقاً من خصوصية أهل الكتاب، بل هو مستمدٌّ من المنهج العام للأسلوب الإسلامي الذي يؤكّد على نقاط اللقاء في رحلة الوصول إلى الحقيقة، ولا يؤكّد على نقاط الخلاف إلاَّ في نهاية المطاف...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الإسلام (بكلّ تفاصيله). ولكنّ الدعوة هذه المرّة تتّجه إلى النقاط المشتركة بين الإسلام وأهل الكتاب. وبهذا يعلّمنا القرآن درساً، مفاده: أنّكم إذا لم توفّقوا في حمل الآخرين على التعاون معكم في جميع أهدافكم، فلا ينبغي أن يقعد بكم اليأس عن العمل، بل اسعوا لإقناعهم بالتعاون معكم في تحقيق الأهداف المشتركة بينكم، كقاعدة للانطلاق إلى تحقيق سائر أهدافكم المقدّسة (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلاَّ الله ولا نشرك به شيئاً). هذه الآية تعتبر نداء «الوحدة والاتّحاد» إلى أهل الكتاب، فهي تقول لهم: إنّكم تزعمون بل تعتقدون أنّ التثليث (أي الاعتقاد بالآلهة الثلاثة) لا ينافي التوحيد، لذلك تقولون بالوحدة في التثليث. وهكذا اليهود يدعون التوحيد وهم يتكلّمون بكلام فيه شرك ويعتبرون «العزير» ابن الله. يقول لهم القرآن: إنّكم جميعاً ترون التوحيد مشتركاً، فتعالوا نضع يداً بيد لنحيي هذا المبدأ المشترك بدون لفّ أو دوران، ونتجنّب كلّ تفسير يؤدّي إلى الشرك والابتعاد عن التوحيد...

ولابدّ من الإشارة إلى أنّ «أرباب» جمع، لذلك لا يمكن أن نقول إنّ المقصود هو النهي عن عبادة عيسى وحده. ولعلّ النهي يشمل عبادة عيسى وعبادة العلماء المنحرفين...