معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

قوله تعالى : { أكان للناس عجبا } ، العجب : حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة . وسبب نزول الآية : أن الله عز وجل لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا ، قال المشركون : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فقال تعالى : { أكان للناس } يعني : أهل مكة ، الألف فيه للتوبيخ ، { عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم } ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، { أن أنذر الناس } ، أي : أعلمهم مع التخويف ، { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } ، واختلفوا فيه : قال ابن عباس : أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم . قال الضحاك : ثواب صدق . قال الحسن عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : هو السعادة في الذكر الأول . وقال زيد بن أسلم : هو شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم . وقال عطاء : مقام صدق لا زوال له ، ولا بؤس فيه . وقيل : منزلة رفيعة . وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته ، كقولهم مسجد الجامع ، وحب الحصيد ، وقال أبو عبيدة : كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم ، يقال : لفلان قدم في الإسلام ، وله عندي قدم صدق وقدم سوء ، وهو يؤنث فيقال : قدم حسنة ، وقدم صالحة . { قال الكافرون إن هذا لساحر مبين } . قرأ نافع وأهل البصرة والشام : لسحر بغير ألف يعنون القرآن ، وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة : { لساحر } بالألف يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

ثم بين - سبحانه - موقف المشركين من دعوته فقال : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } . .

روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما بعث الله - تعالى - رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، فأنزل الله - تعالى - : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً . . . الآية } .

والهمزة في قوله " أكان " لإنكار تعجبهم ، ولتعجب السامعين منه لوقوعه في غير موضعه .

وقوله { لِلنَّاسِ } جار ومجرور حالا من قوله { عَجَباً } والمراد بهم مشركوا مكة ومن لف لفهم في إنكار ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله : { عَجَباً } خبر كان ، والعجب والتعجيب - استعظام أمر خفي سببه .

وقوله : { أَنْ أَوْحَيْنَآ } في تأويل مصدر أي : إيحاؤنا ، وهو اسم كان . والوحي : الإِعلام في خفاء ، والمقصود به ما أوحاه الله - تعالى - إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قرآن وغيره .

وقوله : { إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } أي إلى بشر من جنسهم يعرفهم ويعرفونه .

وقوله : { أَنْ أَنذِرِ الناس } الإِنذار إخبار معه تخويف في مدة تتسع التحفظ من المخوف منه ، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار ، وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله - تعالى - :

والمراد بالناس هنا : جميع الذين يمكنه - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغهم دعوته .

وقوله : { وَبَشِّرِ الذين آمنوا } البشارة : إخبار معه ما يسر فهو أخص من الخبر ، سمي بذلك لأن أثره يظهر على البشرة التي هي ظاهر الجلد .

وقوله : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } أي أن لهم سابقة ومنزلة رفيعة عند ربهم .

وأصل القدم العضو المخصوص . وأطلقت على السبق ، لكونها سببه وآلته ، فسمى المسبب باسم السبب من باب المجاز المرسل ، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطي باليد .

وأصل الصدق أن يكون في الأقوال ، ويستعمل أحيانا في الأفعال فيقال : فلان صدق في القتال ، إذا وفاه حقه ، فيعبر بصفة الصدق عن كل فعل فاضل .

وإضافة القدم إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة كقولهم : مسجد الجامع ، والأصل قدم صدق . أي محققة مقررة . وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق . ثم جعل الصدق كأنه صاحبها .

ويجوز أن تكون إضافة القدم إلى الصدق من باب إضافة المسبب إلى السبب ، وفي ذلك تنبيه إلى أن ما نالوه من منازل رفيعة عند ربهم . إنما هو بسبب صدقهم في أقوالهم وأفعالهم ونياتهم .

قال الإِمام ابن جرير ما ملخصه : واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { قَدَمَ صِدْقٍ } فقال بعضهم معناه : أن لهم أجرا حسنا بسبب ما قدموه من عمل صالح . .

وقال آخرون معناه : أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة .

وقال آخرون : معنى ذلك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - شفيع لهم .

ثم قال : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال معناه : أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستحقون بها منه الثواب ، وذلك أنه محكي عن العرب قولهم : هؤلاء أهل القدم في الإِسلام . أي هؤلاء الذين قدموا فيه خيرا ، فكان لهم فيه تقديم .

ويقال : لفلان عندي قدم صدق وقدم سوء ، وذلك بسبب ما قدم إليه من خير أو شر ، ومنه قول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - :

لنا القدم العليا إليك وخلفنا . . . لأولنا في طاعة الله تابع

ومعنى الآية الكريمة : أبلغ الجهل وسوء التفكير بمشركي مكة ومن على شاكلتهم ، أن كان إيحاؤنا إلى رجل منهم يعرفهم ويعرفونه لكي يبلغهم الدين الحق ، أمرا عجبا ، يدعوهم إلى الدهشة والاستهزاء بالموحى إليه - صلى الله عليه وسلم - حتى لكأن النبوة في زعمهم تتنافى مع البشرية .

إن الذي يدعو إلى العجب حقا هو ما تعجبوا منه ، لأن الله - تعالى - اقتضت حكمته أن يجعل رسله إلى الناس من البشر ، لأن كل جنس يأنس لجنسه ، وينفر من غيره ، وهو - سبحانه - أعلم حيث يجعل رسالته .

قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : فما معننى اللام في قوله { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } وما الفرق بينه وبين قولك : كان عند الناس عجبا ؟

قلت : معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها . ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم ، وليس في " عند الناس " هذا المعنى .

والذي تعجبوا منه أو يوحي إلى بشر . وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم ، فقد كانوا يقولون : العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وأن يذكر لهم البعث . وينذر بالنار ويبشر بالجنة . وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب ، لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشر مثلهم .

وقال الله - تعالى - : { قُل لَوْ كَانَ في الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب - أيضاً - لأن الله - تعالى - إنما يختار من استحق الاختيار لجمعه أسباب الاستقلال لما ختير له من النبوة . والغنى والتقدم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء قال - تعالى - : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } والبعث للجزاء على الخير والشر . هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجبا إنما العجب والمنكر في العقول ، تعطيل الجزاء .

وقدم - سبحانه - خبر كان وهو { عَجَباً } على اسمها وهو { أَنْ أَوْحَيْنَآ } . لأن المقصود بالإِنكار في الآية إنما هو تعجبهم ودهشتهم من أن يكون الرسول بشراً .

وقدم - سبحانه - الإِنذار على التبشير ، لأن التخلية مقدمة على التحلية ، وإزالة مالا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي .

ولم ذكر المنذر به ، لتهويله وتعميمه حتى يزداد خوفهم وإقبالهم على الدين الحق ، الذي يؤدي اتباعه إلى النجاة من العذاب .

وخص التبشير بالمؤمنين لأنهم وحدهم المستحقون له ، بخلاف الإِنذار فإنه يشمل المؤمن والكافر . ولذا قال - سبحانه - { أَنْ أَنذِرِ الناس } أي جميع الناس .

وذكر - سبحانه - في جانب التبشير المبشر به - وهو حصولهم على المنزلة الرفيعة عند ربهم - لكي تقوى رغبتهم في طاعته . ومحبتهم لعبادته ، وبذلك ينالون ما بشرهم به .

ثم وضح - سبحانه - ما قاله الكافرون عند مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعوته فقال : { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } .

أي : قال الكافرون المتعجبون من أن يكون - صلى الله عليه وسلم - رسولا إليهم ، إن هذا الإِنسان الذي يدعى النبوة لساحر بيِّن السحر واضحه - حيث إنه استطاع بقوة تأثيره في النفوس أن يفرق بين الابن وأبيه ، والأخ وأخيه .

وعلى هذا القراءة التي وردت عن ابن كثير والكوفيين تكون الإِشارة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

وقرأ الباقون : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } أي : إن هذا القرآن لسحر واضح ، لأنه خارق للعادة في جذبه النفوس إلى الإِيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو حيان ما ملخصه : " ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحرا ظاهر الفساد ، لم يحتج إلى جواب ، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة ، وخلطتهم له ، - وأنه لا علم له بالسحر - وقد أتاهم بعد بعثته بكتاب إلهي مشتمل على مصالح الدنيا والآخرة مع الفصاحة والبلاغة التي أعجزتهم . .

وقولهم هذا ؛ هو دين الكفرة مع أنبيائهم . فقد قال فرعون وقومه في موسى - عليه السلام - { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } وقال قوم عيسى فيه عندما جاءهم بالبينات { هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } ودعوى السحر إنما هو على سبيل العناد والجحد .

وقال الآلوسى " وفي قولهم هذا اعتراف منهم بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر . نازل من حضرة خلاق القوى والقدر ، ولكنهم يسمونه سحرا تماديا في العناد ، كما هو شنشنة المكابر اللجوج ، وشنشنة المفحم المحجوج " .

وجاءت الجملة الكريمة بدون حرف عطف ، لكونها استئنافا مبنيا على سؤال مقدر ، فكأنه قيل : فماذا قالوا بعد هذا التعجب ؟ فكان الجواب : { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } .

ويرى الإِمام ابن جرير أن الآية فيها كلام محذوف ، فقال قال : - رحمه الله - : " وفي الكلام حذف استغنى بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره ، وتأويل الكلام : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا لهم أن هلم قدم صدق عند ربهم ، فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم وبشرهم وأنذرهم قال المنكرون لتوحيد الله ورسالة رسوله إن هذا الذي جاءنا به محمد - صلى الله عليه وسلم - لسحر مبين " .

وقد اشتملت جملة { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } على جملة من المؤكدات ، للإِشارة إلى رسوخهم في الكفر ، وإلى أنهم مع وضوح الأدلة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يزدادوا إلا جحودا وعنادا ، وصدق الله إذ يقول : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

وقوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } الآية ، يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر ، كما أخبر تعالى عن القرون الماضية من{[14047]} قولهم : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] وقال هود وصالح لقومهما : { أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ } [ الأعراف : 63 : 69 ] وقال تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس : لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد . قال : فأنزل الله عز وجل : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ }

وقوله : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } اختلفوا فيه ، فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ [ عِنْدَ رَبِّهِمْ ] } {[14048]} يقول : سبقت لهم السعادة في الذكر الأول .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } يقول : أجرا حسنا ، بما قدموا . وكذا قال الضحاك ، والربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وهذا كقوله تعالى : { لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } [ الكهف : 2 ، 3 ]

وقال مجاهد : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } قال : الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم .

[ وقال عمرو بن الحارث عن قتادة أو الحسن { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ] } {[14049]} قال : محمد صلى الله عليه وسلم شفيع لهم . وكذا قال زيد بن أسلم ، ومقاتل بن حيان .

وقال قتادة : سَلفُ صدق عند ربهم .

واختار ابن جرير قول مجاهد - أنها الأعمال الصالحة التي قدموها - قال : كما يقال : " له قدم في الإسلام " ومنه قول [ حسان ]{[14050]} رضي الله عنه :

لنا القَدَمُ{[14051]} العُليا إليك وخَلْفُنا *** لأوَّلِنا في طاعَة اللهِ تَابعُ

وقول ذي الرُّمة :

لكُم قَدَمٌ لا يُنْكرُ الناسُ أنها *** مَعَ الحسَبِ العَادِيّ طَمَّت على البَحْرِ{[14052]}

وقوله تعالى : { قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } {[14053]} أي : مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم ، رجلا من جنسهم ، بشيرا ونذيرا ، { قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } {[14054]} أي : ظاهر ، وهم الكاذبون في ذلك .


[14047]:- من ت ، أ : "في".
[14048]:- زيادة من ت ، أ.
[14049]:- زيادة من ت.
[14050]:- زيادة من ت ، أ.
[14051]:- في ت : "قدم".
[14052]:- تفسير الطبري (15/16).
[14053]:- في ت : "لسحر".
[14054]:- في ت : "لسحر".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

{ أكان للناس عجبا } استفهام إنكار للتعجب و{ عجبا } خبر كان واسمه : { أن أوحينا } وقرئ بالرفع على أن الأمر بالعكس أو على " أن كان " تامة و{ أن أوحينا } بدل من عجب ، واللام للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم يوجهون نحوه إنكارهم واستهزاءهم . { إلى رجل منهم } من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم . قيل كانوا يقولون العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة . هذا وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلا في المال وخفة الحال أعون شيء في هذا الباب ، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك . وقيل تعجبوا من أنه بعث بشرا رسولا كما سبق ذكره في سورة " الأنعام " . { أن أنذر الناس } أن هي المفسرة أو المخففة من الثقيلة فتكون في موقع مفعول أوحينا . { وبشّر الذين آمنوا } عمم الإنذار إذ قلما من أحد ليس فيه ما ينبغي أن ينذر منه ، وخصص البشارة بالمؤمنين إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به حقيقة { أن لهم } بأن لهم { قدم صدق عند ربهم } سابقة منزلة رفيعة سميت قدما لأن السبق بها كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد ، وإضافتها إلى الصدق لتحققها والتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية . { قال الكافرون إن هذا } يعنون الكتاب وما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام . { لسحرٌ مبين } وقرأ ابن كثير والكوفيون " لساحر " على أن الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أمورا خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة . وقرئ " ما هذا إلا سحر مبين " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

وقوله : { أكان للناس عجباً } الآية ، قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : نسبت هذه الآية أن قريشاً استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر ، وقال الزجاج : إنما عجبوا من إخباره أنهم يبعثون من القبور إذ النذارة والبشارة تتضمنان ذلك ، وكثر كلامهم في ذلك حتى قال بعضهم : أما وجد الله من يبعث إلا يتيم أبي طالب ، ونحو هذا من الأقاويل التي اختصرتها لشهرتها فنزلت الآية ، وقوله : { أكان } تقرير{[6000]} والمراد ب «الناس » قائلوا هذه المقالة ، و { عجباً } خبر كان واسمها { أن أوحينا } ، وفي مصحف ابن مسعود «أكان للناس عجب » وجعل الخبر في قوله { أن أوحينا } والأول أصوب لأن الاسم معرفة والخبر نكرة وهذا القلب لا يصح ولا يجيء إلا شاذاً{[6001]} ومنه قول حسان : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يكون مزاجها عسلٌ وماء{[6002]}

ولفظة العجب هنا ليست بمعنى التعجب فقط بل معناه أَوَصَل إنكارهم وتعجبهم إلى التكذيب ؟ وقرأت فرقة «إلى رجل » بسكون الجيم ، ثم فسر الوحي وقسمه عل النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين ، و «القدم » هنا : ما قدم ، واختلف في المراد بها ها هنا فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم في موته ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ ، وهذا أليق الأقوال بالآية ، ومن هذه اللفظة قول حسان : [ الطويل ]

لنا القدم العليا إليك وخلْفَنا *** لأوّلنا في طاعةِ اللهِ تابعُ{[6003]}

وقول ذي الرمة : [ الطويل ]

لكم قدم لا ينكر الناس أنها*** مع الحسب العادي طمت على البحر{[6004]}

ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : «حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط »{[6005]} ، أي ما قدم لها من خلقه ، هذا على أن الجبار اسم الله تعالى ، ومن جعله اسم جنس كأنه أراد الجبارين من بني آدم ، ف «القدم » على التأويل الجارحة{[6006]} والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول رجل صدق ورجل سوء{[6007]} ، وقوله { قال الكافرون } يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله أكان وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا ، وذهب الطبري إلى أن في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا ، وقرأ جمهور الناس وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر «إن هذا لسحر مبين » ، وقرأ مسروق بن الأجدع وابن جبير والباقون من السبعة وابن مسعود وأبو رزين ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر بخلاف ، وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «إنه لساحر » والمعنى متقارب ، وفي مصحف أبي «قال الكافرون ما هذا إلا سحر مبين » ، وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم وحال بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله الساحر فظنوه من ذلك الباب .


[6000]:- قال القرطبي: "استفهام معناه التقرير والتوبيخ"، وقال الشوكاني: "لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ". وجعله الألوسي وأبو حيان للإنكار فقط.
[6001]:- قال أبو حيان: "وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية، وقيل: [كان] تامة، و[عجب] فاعل بها، والمعنى: أحدث للناس عجب لأن أوحينا؟ وهذا التوجيه حسن". فالشذوذ ناتج عنده عن فهم الزمخشري وابن عطية وليس في القراءة نفسها.
[6002]:-وهذا عجز بيت لحسان، وهو بتمامه: كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء والسبيئة: الخمر، وقد سبق الاستشهاد بهذا البيت عند تفسير قوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت} الآية (35) من سورة (الأنفال).
[6003]:- ورواه في (اللسان): "القدم الأولى"، والقدم: السابقة وما تقدموا فيه غيرهم من الخير، والخلف: الباقي بعد الهالك والتابع له، سمي به المتخلف والخالف لا على جهد البدل، وجمعه: خلوف مثل قرن وقرون، والخلف هنا محمود، أما في قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة} فهو مذموم. والبيت من قصيدة له يذكر فيها الأيام الأولى من تاريخ المسلمين في المدينة، وهي أحد عشر بيتا.
[6004]:- أنشد هذا البيت الزمخشري في "أساس البلاغة" (قدم) قال: "ولفلان قدم في هذا الأمر: سابقة وتقدم، وله قدم صدق، قالوا ذو الرمة: "لكم قدم..." وهو في الديوان وتفسير الطبري: "مع الحسب العادي"، وفي الديوان: "على الفخر"، ومعنى العادي: القديم. ومعنى البيت: لكم سوابق تقدمت من الخير والفضل والحسب ما يعدّه الإنسان من مفاخره.
[6005]:-رواه البخاري في تفسير سورة (ق)، وفي الإيمان، وفي التوحيد، وكذلك رواه مسلم، والترمذي، والإمام أحمد في مواطن كثيرة في مسنده، ولفظه كما في البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى في النار وتقول: هل من مزيد حتى يضع قدمه فيها فتقول: قط قط)، وروى مثله عن أبي هريرة في لفظ طويل، ومثله عن أبي هريرة أيضا بلفظ موجز.
[6006]:- هذا الاحتمال غير وارد لأن بعض روايات الحديث في مسلم تقول: (حتى يضع رب العزة)، ولأن معنى الحديث يرفضه.
[6007]:- رجل صدق بفتح الصاد.جاء في الصحاح: "رجل صدق اللقاء وصدق النظر وقوم صُدُقٌ بالضم، مثل فرس ورد وأفراس ورد، وجون وجون". وفي المعجم الوسيط: الصدق: الكامل من كل شيء، يقال: "رمح صدق: مستو صلب، ورجل صدق اللقاء: ثبت فيه". ويقال كذلك بالكسر: رجل صدق. وأما السوء فبفتح السين: "يقال: رجل سوء وعمل سوء، ورجل السوء والرجل السوء" (المعجم الوسيط).