فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

والاستفهام في قوله { أكان الناس عجبا أن أوحينا } لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ أي أكان إيحاؤنا عجبا للناس ، والعجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة ، وقيل العجب ما لا يعرف سببه والمراد بالناس هنا أهل مكة ، يعني قريشا .

{ على رجل منهم } أي من جنسهم وليس في هذا ما يقتضي العجب فلأنه لا يلابس الجنس ويرشده ويخبره عن الله سبحانه إلا من كان من جنسه ، ولو كان من غير جنسهم لكان من الملائكة أو من الجن ويتعذر المقصود حينئذ من الإرسال لأنهم لا يأنسون إليه ولا يشاهدونه ، ولو فرضنا تشكله لهم وظهوره فإما أن يظهر في غير شكل النوع الإنساني وذلك أوحش لقلوبهم وأبعد من أنسهم أو في الشكل الإنساني فلا بد من إنكارهم لكونه في الأصل غير إنسان .

هذا إن كان العجب منهم لكونه من جنسهم وإن كان لكونه يتيما أو فقيرا فذلك لا يمنع من أن يكون من كان كذلك جامعا من خصال الخير والشرف ما لا يجمعه غيره وبالغا في كمال الصفات إلى حد يقصر عنه من كان غنيا أو غير يتيم وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصطفيه الله بالرسالة من خصال الكمال عند قريش ما هو أشهر من الشمس وأظهر من النهار حتى كانوا يسمونه الأمين { أن أنذر الناس } أي خوفهم قيل : أن هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول وقيل مصدرية والإنذار إخبار مع تخويف كما أن البشارة إخبار مع سرور .

{ وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } من إضافة الموصوف إلى الصفة كمسجد الجامع وصلاة الأولى وحب الحصيد وفائدة هذه الإضافة التنبيه على زيادة الفضل ومدح القدم لأن كل شيء أضيف إلى الصدق فهو ممدوح ومثله مقعد صدق ومدخل صدق .

واختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق فقيل منزل صدق ، وقال الزجاج : درجة عالية وقال ابن الأعرابي : القدم المتقدم في الشرف وقال أبو عبيدة والكسائي ، كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم يقال لفلان قدم في الإسلام وله عندي قدم وصدق وقدم خير وقدم شر .

وقال ثعلب : القدم كل ما قدمت من خير . وقال ابن الأنباري : القدم كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء وقال قتادة : سلف صدق ، وقال الربيع والضحاك : ثواب صدق وقال الحسن : هو محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم ، ونحوه عن زيد ابن أسلم وهو قول قتادة .

وقال الحكيم الترمذي : قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود وقال مجاهد : الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم وقيل عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه . قاله الحسن .

وقال الليث وأبو الهيثم : القدم السابقة أي سبق لهم عند الله خير ، وقال مقاتل : أعمالا قدموها واختاره ابن جرير . قال ابن عباس : ما سبق لهم من السعادة في الذكر الأول يعني اللوح المحفوظ . وقال أيضا : أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم .

وعن ابن مسعود قال : القدم هو العمل الذي قدموه قال الله سبحانه { سنكتب ما قدموا وآثارهم } والآثار ممشاهم قال : مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أسطوانتين من مسجده ثم قال : هذا أثر مكتوب وقيل غير ما تقدم مما لا حاجة إلى التطويل بإيراده والروايات من التابعين وغيرهم في هذا كثيرة وقد قدمنا أكثرهم والسبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم ، فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطي باليد .

{ قال الكافرون إن هذا لسحر مبين } قرئ لساحر على أنهم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم الإشارة وقرئ لسحر على أنهم أرادوا القرآن وقد تقدم معنى السحر في البقرة والجملة مستأنفة كأنه قيل ماذا صنعوا بعد التعجب وقال القفال : فيه إضمار والتقدير فلما أنذرهم قال الكافرون ذلك .