قوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ } الهمزة للإنكار ، و " أَنْ أَوْحَيْنَآ " " أن " والفعل في تقدير المصدر وهو اسم " كان " ، و " عَجَباً " خبرها ، و " للنَّاس " متعلِّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من " عَجَباً " لأنه في الأصل صفة له ، أو متعلِّقٌ ب " عَجَباً " ، ولا يضُرُّ كونه مصدراً ؛ لأنَّه يُتَّسع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسع في غيرهما . وقيل : لأنَّ " عَجَباً " مصدرٌ واقعٌ موقع اسم الفاعل أو اسم المفعول ، ومتى كان كذلك جاز تقديمُ معموله . وقيل : هو متعلِّق ب " كَانَ " النَّاقصة ، وهذا على رأي مَنْ يُجيز فيها ذلك . وهذا مرتَّبٌ على الخلاف في دلالة " كان " النَّاقصة على الحدث ، فإن قلنا : إنَّها تدلُّ على ذلك فيجُوزُ وإلاَّ فلا . وقيل : هو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على التَّبيين ، والتقدير في الآية : أكان إيحاؤنا إلى رجُلٍ منهم عجباً لهم . و " منهم " صفة ل " رجُل " .
وقرأ رُؤبة{[18290]} " رَجْل " بسكون الجيم ، وهي لغة تميم ، يُسَكِّنُون " فَعُلاً " نحو : سبع وعضد .
وقرأ عبد الله{[18291]} بن مسعود " عَجَبٌ " . وفيه تخريجان ، أظهرهما : أنَّها التَّامة ، أي : أحدث للنَّاس عجب و " أنْ أوْحَيْنَا " متعلِّق ب " عجب " على حذف لامِ العلَّة ، أي : عجبٌ ل " أنْ أوْحَيْنَا " ، أو يكون على حذف " مِنْ " ، أي : مِنْ أنْ أوحينا . والثاني : أن تكون الناقصة ، ويكون قد جعل اسمها النَّكرة وخبرها المعرفة ، على حدِّ قوله : [ الوافر ]
. . . *** يكُونُ مزاجها علسلٌ ومَاءُ{[18292]}
وقال الزمخشري{[18293]} : والأجودُ أن تكون التَّامة ، و " أنْ أوحَيْنَا " : بدلٌ من " عَجَبٌ " . يعني به بدل اشتمال أو كل من كل ، لأنه جعل هذا نفس العجب مبالغة ، والتخريج الثاني لابن عطيَّة .
التعجُّب : حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة ، وسبب نزول هذه الآية : أنَّ الله - تعالى - لمَّا بعث محمَّداً صلى الله عليه وسلم رسولاً ، تعجَّب كفار قريش وقالوا : إنَّ الله أعظم من أن يكون رسُوله بشراً ، فأنكر الله عليهم ذلك التعجُّب ، أما بيان تعجُّبهم من تخصيص محمَّدٍ بالرسالة فمن وجوه :
الأول : قوله تعالى : { وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ ص : 4 ] إلى قوله : { إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] .
والثاني : أن أهل مكَّة كانوا يقولون : إنَّ الله تعالى ما وجد رسُولاً إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب .
والثالث : أنهم قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ؛ فأنكر الله عليهم هذا التعجُّب بقوله { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } فلفظه استفهام ؛ ومعناه الإنكار لأنْ يكون ذلك عجباً ، والمراد ب " النَّاس " : أهل مكة ، والألف فيه للتوبيخ .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : أكان عند الناس عجباً ، بل قال : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } ؟ .
فالجواب : أن قوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجَّبُون منها ، وعيَّبوه ونصَّبُوه للاستهزاء والتعجُّب إليه وليس في قوله : " أكان عند النَّاس عجباً " هذا المعنى .
وقوله : { أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم .
قوله : { أَنْ أَنذِرِ الناس } يجوز أن تكون المصدريَّة ، وأن تكون التفسيريَّة ، ثم لك في المصدريَّة اعتباران :
أحدهما : أن تجعلها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشَّأن محذوف .
كذا قال أبو حيَّان{[18294]} ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ أخبارَ هذه الحروف لا تكون جملة طلبيَّة ، حتى لو ورد ما يوهمُ ذلك يُؤوَّلُ على إضمار القول ؛ كقول الشاعر : [ البسيط ]
ولوْ أصَابَتْ لقالتْ وهيَ صَادِقَةٌ *** إِنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشَّيبِ{[18295]}
إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سيِّدهُمْ *** لا تَحْسَبُوا ليْلَهُمْ عنْ ليْلِكُمْ نَامَا{[18296]}
وأيضاً فإنَّ الخبر في هذا الباب إذا وقع جملة فعلية ، فلا بد من الفصل بأشياء تقدَّمت في المائدة . ولكن ذلك الفاصل هنا متعذِّرٌ .
والثاني : أنَّها التي بصدد أن تنصب الفعل المضارع ، وهي توصل بالفعل المتصرِّف مطلقاً ، نحو : " كَتبتُ إليْه بأنْ قُمْ " . وقد تقدم البحث في [ النساء 66 ] ، ولم يذكر المنذرُ به وذكر المُبَشَّرَ به ؛ لأنَّ المقام يقتضي ذلك ، وقدَّم الإنذار على التَّبشير ، لأنَّ إزالة ما لا ينبغي مقدَّم في الرتبة على ما لا ينبغي ، والإنذار للكفَّار والفساق ليرتدعوا عن فعل ما لا ينبغي ، والتَّبشير لأهلِ الطَّاعةِ ؛ لتقوى رغبتهم فيها .
قوله : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ } " أنَّ " وما في حيَّزها هي المُبشَّرُ بها ، أي : بشِّرهُم باستقرارِ قدمِ صدْق ، فحذفت الباءُ ، فجرى في محلِّها المذهبان ، والمرادُ ب " قدم صِدْقٍ " : السابقةُ والفضلُ والمنزلةُ الرَّفيعة ، وإليه ذهب الزجاج والزمخشريُّ ؛ ومنه قولُ ذِي الرُّمَّة : [ الطويل ]
لَكُم قدمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أنَّهَا *** مَعَ الحسَبِ العَاديِّ طمَّتْ على البَحْرِ{[18297]}
لمَّا كان السعي والسبقُ بالقدم سُمِّي السَّعي المحمود قدماً ، كما سُمِّيت اليدُ نعمةً لمَّا كانت صادرةً عنها ، وأضيف إلى الصدق دلالةً على فضله ، وهو من باب " رجُلُ صدقٍ ، ورجلُ سوءٍ " .
وقيل : هو سابقةُ الخير التي قدَّمُوها ؛ ومنه قول وضَّاح اليمن : [ المنسرح ] .
مَالكَ وضَّاحُ دَائِمَ العَزَلِ *** ألَسْتَ تَخْشَى تقارُبَ الأجَلِ
صلِّ لذي العَرْشِ واتَّخِذْ قَدَماً *** يُنْجِيكَ يَوْمَ العَثَارِ والذَّلَلِ{[18298]}
وقيل : هو التقدُّم في الشرف ؛ ومنه قول العجَّاج : [ الرجز ]
ذَلَّ بنُو العوَّامِ عنْ آلِ الحَكَمْ *** وتَرَكُوا المُلْكَ لملكٍ ذي قَدَمْ{[18299]}
قال ابن عبَّاس : أجراً حسناً بما قدَّمُوا من أعمالهم{[18300]} ، وروى عليُّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو السعادة في الذكر الأول{[18301]} .
وقال زيد بن أسلم : هو شفاعة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام -{[18302]} .
وقال عطاء : مقام صدق ، لا زوال له ، ولا بؤس فيه . وأضيف القدمُ إلى الصِّدق وهو نعته ، كقولهم : مَسْجِد الجَامِع ، { وَحَبَّ الحصيد } [ ق : 9 ] .
وقال أبُو عبيد : كل سابق في خير أو شرٍّ فهو عند العرب قدم ، يقال لفُلان قدم في الإسلام ، وله عندي قدم صدق وقدم سوءٍ{[18303]} ، وهو يؤنثُ . وقد يذكر ، فيقال : قدم حسن ، وقدم صالحة . و " لَهُمْ " خبر مقدَّم ، و " قَدَمَ " اسمها ، و " عِندَ ربِّهِمْ " صفة ل " قَدَمَ " ، ومنْ جوَّز أن يتقدَّم معمُولُ خبر " أنَّ " على اسمها إذا كان حرف جرٍّ ؛ كقوله : [ الطويل ]
فَلاَ تَلْحَنِي فيهَا فإنَّ بحُبِّهَا *** أخاكَ مُصَابُ القَلْبُ جَمٌّ بلابِلُهْ{[18304]}
قال : ف " بِحُبِّهَا " متعلقٌ ب " مُصَاب " ، وقد تقدَّم على الاسم ، فكذلك " لَهُمْ " يجوز أن يكون متعلقاً ب " عِنْدَ ربِّهِمْ " لمَا تضمَّن من الاستقرار ، ويكونُ " عندَ ربِّهِمْ " هو الخبر .
قوله : { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } لمَّا جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشَّرهُم قالوا مُتعجِّبين : " إنَّ هذا لسَاحِرٌ مُبِينٌ " ، وقرأ نافع{[18305]} ، وأبو عمرو ، وابن عامر " لسِحْرٌ " والباقون " لَسَاحر " ، ف " هَذَا " يجوزُ أن يكون إشارةً للقرآن ، وأن يكون إشارةً للرسُول على القراءة الأولى ، ولكن لا بد من تأويل على قولنا : هو إشارة للرسول ، أي : ذو سحر أو جعلوه إيَّاه مبالغةً ، وعلى القراءة الثانية فالإشارةُ للرَّسول - عليه الصلاة والسلام - فقط .
واعلم أنَّ إقدامهم على وصف القرآن بأنَّه سحرٌ ، يحتمل أنَّهم ذكروه في معرض الذَّمِّ ، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح ، فلهذا قال بعضُ المُفَسِّرين : أرَادُوا به أنَّه كلام مزخرف حسن الظَّاهر ، لكنه باطِل في الحقيقة ، ولا حاصل له ، وقال آخرون : أرادُوا به أنَّه لكمال فصاحته ، وتعذر مثله ، جارٍ مجرى السِّحْر . وهذا كلام فَاسِد ، فلهذا لم يذكر جوابه ، وبيان فساده : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان منهم ، ونشأ بينهم ، وما غَابَ عنهم ، ولم يُخالط أحداً سواهم ، ولم تكن مكَّة بلدة العُلماء ، حتى يقال : إنَّه تعلَّم السحر منهم ، أو تعلم العلوم الكثيرة منهم ، فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن . وإذا كان الأمر كذلك ، كان حمل القرآن على السِّحْر كلاماً في غايةِ الفسادِ ، فلهذا السَّبب ترك جوابه .