فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

والاستفهام في قوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا } لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ ، واسم كان { أَنْ أَوْحَيْنَا } وخبرها { عَجَبًا } أي : أكان إيحاؤنا عجباً للناس . وقرأ ابن مسعود «عجب » على أنه اسم كان ، على أن كان تامة ، و { أَنْ أَوْحَيْنَا } بدل من عجب . وقرئ بإسكان الجيم من " رجل " في قوله : { إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ } أي : من جنسهم ، وليس في هذا الإيحاء إلى رجل من جنسهم ما يقتضي العجب ، فإنه لا يلابس الجنس ويرشده ويخبره عن الله سبحانه ، إلا من كان من جنسه ، ولو كان من غير جنسهم لكان من الملائكة ، أو من الجنّ ، ويتعذر المقصود حينئذ من الإرسال ؛ لأنهم لا يأنسون إليه ، ولا يشاهدونه . ولو فرضنا تشكله لهم وظهوره ، فإما أن يظهر في غير شكل النوع الإنساني ، وذلك أوحش لقلوبهم وأبعد من أنسهم ، أو في الشكل الإنساني ، فلا بدّ من إنكارهم لكونه في الأصل غير إنسان ، هذا إن كان العجب منهم لكونه من جنسهم ، وإن كان لكونه يتيماً أو فقيراً .

فذلك لا يمنع من أن يكون من كان كذلك جامعاً من خصال الخير والشرف ما لا يجمعه غيره ، وبالغاً في كمال الصفات إلى حدّ يقصّر عنه من كان غنياً ، أو كان غير يتيم . وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصطفيه الله بإرساله من خصال الكمال عند قريش ما هو أشهر من الشمس ، وأظهر من النهار ، حتى كانوا يسمونه الأمين . قوله : { أَنْ أَنذِرِ الناس } في موضع نصب بنزع الخافض ، أي بأن أنذر الناس . وقيل : هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول ، وقيل : هي المخففة من الثقيلة ، قوله : { قَدَمَ صِدْقٍ } أي : منزل صدق ، وقال الزجاج : درجة عالية ، ومنه قول ذي الرمة :

لكم قدم لا ينكر الناس أنها *** مع الحسب العالي طمت على البحر

وقال ابن الأعرابي : القدم المتقدّم في الشرف . وقال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق من خير أو شر ، فهو عند العرب قدم ، يقال : لفلان قدم في الإسلام ، وله عندي قدم صدق ، وقدم خير ، وقدم شرّ ، ومنه قول العجاج :

زلّ بنو العوام عند آل الحكم *** وترك الملك لملك ذي قدم

وقال ثعلب : القدم كل ما قدمت من خير ، وقال ابن الأنباري : القدم كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ، ولا إبطاء . وقال قتادة : سلف صدق . وقال الربيع : ثواب صدق ، وقال الحسن : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال الحكيم الترمذي : قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود ، وقال مقاتل : أعمالاً قدّموها واختاره ابن جرير ، ومنه قول الوضاح :

صلِّ لذي العرش واتخذ قوما *** ينجيك يوم الخصام والزلل

وقيل : غير ما تقدّم مما لا حاجة إلى التطويل بإيراده . قوله : { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } . قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، والأعمش ، وابن محيصن : { لساحر } على أنهم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم الإشارة . وقرأ الباقون «لسحر » على أنهم أرادوا القرآن ، وقد تقدّم معنى السحر في البقرة . وجملة : { قَالَ الكافرون } مستأنفة كأنه قيل : ماذا صنعوا بعد التعجب ؛ وقال القفال : فيه إضمار . والتقدير : فلما أنذرهم قال الكافرون ذلك .

/خ4