البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

والهمزة في أكان للاستفهام على سبيل الإنكار لوقوع العجب من الإيحاء إلى بشر منهم بالإنذار والتبشير ، أي : لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة ، أوحى إلى رسلهم الكتب بالتبشير والإنذار على أيدي من اصطفاه منهم .

واسم كان أن أوحينا ، وعجباً الخبر ، وللناس فقيل : هو في موضع الحال من عجباً لأنه لو تأخر لكان صفة ، فلما تقدَّم كان حالاً .

وقيل : يتعلق بقوله : عجباً وليس مصدراً ، بل هو بمعنى معجب .

والمصدر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول .

وقيل : هو تبيين أي أعنى للناس .

وقيل : يتعلق بكان وإن كانت ناقصة ، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإنها إنْ تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها .

وقرأ عبد الله : عجب ، فقيل : عجب اسم كان ، وأنْ أوحينا هو الخبر ، فيكون نظير : يكون مزاجها عسل وماء ، وهذا محمول على الشذوذ ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية .

وقيل : كان تامة ، وعجب فاعل بها ، والمعنى : أحدث للناس عجب لأن أوحينا ، وهذا التوجيه حسن .

ومعنى للناس عجباً : أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ، ونصبوه علماً لم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم .

وقرأ رؤبة : إلى رجل بسكون الجيم وهي لغة تميمية يسكنون فعلاً نحو سبع وعضد في سبع وعضد .

ولما كان الإنذار عاماً كان متعلقه وهو الناس عامًّا ، والبشارة خاصة ، فكان متعلقها خاصاً وهو الذين آمنوا .

وأن أنذر : أن تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة ، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس ، قالهما الزمخشري : ويجوز أنْ تكون أنْ المصدرية الثنائية الوضع ، لا المخففة من الثقيلة لأنّها توصل بالماضي والمضارع والأمر ، فوصلت هنا بالأمر ، وينسبك منها معه مصدر تقديره : بإنذار الناس .

وهذا الوجه أولى من التفسيرية ، لأنّ الكوفيين لا يثبتون لأنّ أن تكون تفسيرية .

ومن المصدرية المخففة من الثقيلة لتقدير حذف اسمها وإضمار خبرها ، وهو القول فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر ، ولأنّ التأصيل خير من دعوى الحذف بالتحفيف .

وبشر الذين آمنوا أن لهم أي : بأن لهم ، وحذفت الباء .

وقدم صدق قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات .

وقال الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن عباس وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ .

وقال مقاتل : سابقة خير عند الله قدموها .

وإلى هذا المعنى أشار وضاح اليمن في قوله :

مالك وضاح دائم الغزل *** ألست تخشى تقارب الأجل

صل لذي العرش واتخذ قدماً *** ينجيك يوم العثار والزلل

وقال قتادة أيضاً : سلف صدق .

وقال عطاء : مقام صدق .

وقال يمان : إيمان صدق .

وقال الحسن أيضاً : ولد صالح قدموه .

وقيل : تقديم الله في البعث لهذه الأمة وفي إدخالهم الجنة ، كما قال : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة » وقيل : تقدم شرف ، ومنه قول العجاج :

ذل بني العوام من آل الحكم *** وتركوا الملك لملك ذي قدم

وقال الزجاج : درجة عالية وعنه منزلة رفيعة .

ومنه قول ذي الرمة :

لكم قدم لا ينكر الناس أنها *** مع الحسب العادي طمت على البحر

وقال الزمخشري : قدم صدق عند ربهم سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة ، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً ، كما سميت النعمة يداً ، لأنها تعطى باليد وباعاً لأن صاحبها يبوع بها فقيل لفلان : قدم في الخير ، وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة .

وقال ابن عطية : والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول : رجل صدق .

وعن الأوزاعي : قدم بكسر القاف تسمية بالمصدر قال : الكافرون .

ذهب الطبري إلى أنّ في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره : فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا .

قال ابن عطية : قال الكافرون : يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله : أكان للناس وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا .

وقرأ الجمهور والعربيان ونافع : لسحر إشارة إلى الوحي ، وباقي السبعة ، وابن مسعود ، وأبو رزين ، ومسروق ، وابن جبير ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وابن محيصن ، وابن كثير ، وعيسى بن عمرو بخلاف عنهما لساحر إشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي مصحف أبي ما هذا إلا سحر .

وقرأ الأعمش أيضاً : ما هذا إلا ساحر .

قال ابن عطية : وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق كلمتهم ، وحال بين القريب وقريبه ، فأشبه ذلك ما يفعله الساحر ، وظنوه من ذلك الباب .

وقال الزمخشري : وهذا دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً .

ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحراً ظاهر الفساد ، لم يحتج قولهم إلى جواب ، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة وخلطتهم له وما كانت قلة علم ، ثم أتى به من الوحي المتضمن ما لم يتضمنه كتاب إلهي من قصص الأولين والأخبار بالغيوب والاشتمال على مصالح الدنيا والآخرة ، مع الفصاحة والبراعة التي أعجزتهم إلى غير ذلك من المعاني التي تضمنها يقضي بفساد مقالتهم ، وقولهم ذلك هو ديدن الكفرة مع أنبيائهم إذ أتوهم بالمعجزات كما قال : فرعون وقومه في موسى عليه السلام : { إن هذا لساحر عليم } { قالوا ساحران تظاهران } وقوم عيسى عليه السلام : { إن هذا إلا سحر مبين } ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد .