مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

قوله تعالى : { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إم هذا لساحر مبين }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : أن كفار قريش تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمدا بالرسالة والوحي ، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك التعجب . أما بيان كون الكفار تعجبوا من هذا التخصيص فمن وجوه : الأول : قوله تعالى : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد } وإذا بلغوا في الجهالة إلى أن تعجبوا من كون الإله تعالى واحدا ، لم يبعد أيضا أن يتعجبوا من تخصيص الله تعالى محمدا بالوحي والرسالة ! والثاني : أن أهل مكة كانوا يقولون : إن الله تعالى ما وجد رسولا إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب ! والثالث : أنهم قالوا : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } وبالجملة فهذا التعجب يحتمل وجهين : أحدهما : أن يتعجبوا من أن يجعل الله بشرا رسولا ، كما حكى عن الكفار إنهم قالوا : { أبعث الله بشرا رسولا } والثاني : أن لا يتعجبوا من ذلك بل يتعجبوا من تخصيص محمد عليه الصلاة والسلام بالوحي والنبوة مع كونه فقيرا يتيما ، فهذا بيان أن الكفار تعجبوا من ذلك . وأما بيان أن الله تعالى أنكر عليهم هذا التعجب فهو قوله في هذه الآية : { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم } فإن قوله : { أكان للناس عجبا } لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الإنكار ، لأن يكون ذلك عجبا . وإنما وجب إنكار هذا التعجب لوجوه : الأول : أنه تعالى مالك الخلق وملك لهم والمالك والملك هو الذي له الأمر والنهي والإذن والمنع . ولا بد من إيصال تلك التكاليف إلى أولئك المكلفين بواسطة بعض العباد . وإذا كان الأمر كذلك كان إرسال الرسول أمرا غير ممتنع ، بل كان مجوزا في العقول . الثاني : أنه تعالى خلق الخلق للاشتغال بالعبودية كما قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقال : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه } وقال : { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } ثم إنه تعالى أكمل عقولهم ومكنهم من الخير والشر ، ثم علم تعالى أن عباده لا يشتغلون بما كلفوا به ، إلا إذا أرسل إليهم رسولا ومنبها . فعند هذا يجب وجوب الفضل والكرم والرحمة أن يرسل إليهم ذلك الرسول ، وإذا كان ذلك واجبا فكيف يتعجب منه . الثالث : أن إرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى شيئا من أزمنة وجود المكلفين منه ، كما قال : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } فكيف يتعجب منه مع أنه قد سبقه النظير ، ويؤكده قوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه } وسائر قصص الأنبياء عليهم السلام . الرابع : أنه تعالى إنما أرسل إليهم رجلا عرفوا نسبه وعرفوا كونه أمينا بعيدا عن أنواع التهم والأكاذيب ملازما للصدق والعفاف . ثم إنه كان أميا لم يخالط أهل الأديان ، وما قرأ كتابا أصلا البتة ، ثم إنه مع ذلك يتلو عليهم أقاصيصهم ويخبرهم عن وقائعهم ، وذلك يدل على كونه صادقا مصدقا من عند الله ، ويزيل التعجب ، وهو من قوله : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم } وقال : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } الخامس : أن مثل هذا التعجب كان موجودا عند بعثة كل رسول ، كما في قوله : { وإلى عاد أخاهم هودا } . { وإلى ثمود أخاهم صالحا } إلى قوله : { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم } السادس : أن هذا التعجب إما أن يكون من إرسال الله تعالى رسولا من البشر ، أو سلموا أنه لا تعجب في ذلك ، وإنما تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام بالوحي والرسالة .

أما الأول : فبعيد لأن العقل شاهد بأن مع حصول التكليف لا بد من منبه ورسول يعرفهم تمام ما يحتاجون إليه في أديانهم كالعبادات وغيرها .

وإذا ثبت هذا فنقول : الأولى أن يبعث إليهم من كان من جنسهم ليكون سكونهم إليه أكمل والفهم به أقوى ، كما قال تعالى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } وقال : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا } .

وأما الثاني : فبعيد لأن محمدا عليه الصلاة والسلام كان موصوفا بصفات الخير والتقوى والأمانة ، وما كانوا يعيبونه إلا بكونه يتيما فقيرا ، وهذا في غاية البعد ، لأنه تعالى غني عن العالمين فلا ينبغي أن يكون الفقر سببا لنقصان الحال عنده ، ولا أن يكون الغنى سببا لكمال الحال عنده . كما قال تعالى : { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } فثبت أن تعجب الكفار من تخصيص الله تعالى محمدا بالوحي والرسالة كلام فاسد .

المسألة الثانية : الهمزة في قوله : { أكان } لإنكار التعجب ولأجل التعجيب من هذا التعجب و { أن أوحينا } اسم كان وعجبا خبره ، وقرأ ابن عباس { عجب } فجعله اسما وهو نكرة و{ أن أوحينا } خبره وهو معرفة كقوله : يكون مزاجها عسل وماء . والأجود أن تكون «كان » تامة ، وأن أوحينا ، بدلا من عجب .

المسألة الثالثة : أنه تعالى قال : { أكان للناس عجبا } ولم يقل أكان عند الناس عجبا ، والفرق أن قوله : { أكان للناس عجبا } معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه وعينوه لتوجيه الطيرة والاستهزاء والتعجب إليه ! وليس في قوله : «أكان عند الناس عجبا » هذا المعنى .

المسألة الرابعة : { أن } مع الفعل في قولنا : { أن أوحينا } في تقدير المصدر وهو اسم كان وخبره ، هو قوله : { عجبا } وإنما تقدم الخبر على المبتدأ ههنا لأنهم يقدمون الأهم ، والمقصود بالإنكار في هذه الآية إنما هو تعجبهم ، وأما { أن } في قوله : { أن أنذر الناس } فمفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول ، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة ، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس .

المسألة الخامسة : أنه تعالى لما بين أنه أوحى إلى رسوله ، بين بعده تفصيل ما أوحى إليه وهو الإنذار والتبشير . أما الإنذار فللكفار والفساق ليرتدعوا بسبب ذلك الإنذار عن فعل ما لا ينبغي ، وأما التبشير فلأهل الطاعة لتقوى رغبتهم فيها . وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية ، وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي .

المسألة السادسة : قوله : { قدم صدق } فيه أقوال لأهل اللغة وأقوال المفسرين . أما أقوال أهل اللغة فقد نقل الواحدي في «البسيط » منها وجوها . قال الليث وأبو الهيثم : القدم السابقة ، والمعنى : أنهم قد سبق لهم عند الله خير . قال ذو الرمة :

وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة*** لهم قدم معروفة ومفاخر

وقال أحمد بن يحيى : القدم كل ما قدمت من خير ، وقال ابن الأنباري : القدم كناية عن العمل الذي يتقدم فيه ، ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء .

واعلم أن السبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني ، أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم ، فسمى المسبب باسم السبب ، كما سميت النعمة يدا ، لأنها تعطى باليد .

فإن قيل : فما الفائدة في إضافة القدم إلى الصدق في قوله سبحانه : { قدم صدق } .

قلنا : الفائدة التنبيه على زيادة الفضل وأنه من السوابق العظيمة ، وقال بعضهم : المراد مقام صدق . وأما المفسرون فلهم أقوال فبعضهم حمل { قدم صدق } على الأعمال الصالحة ؛ وبعضهم حمله على الثواب ، ومنهم من حمله على شفاعة محمد عليه الصلاة والسلام ، واختار ابن الأنباري هذا الثاني وأنشد :

صل لذي العرش واتخذ قدما*** بنجيك يوم العثار والزلل

المسألة السابعة : أن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم وأتاهم من عند الله تعالى بما هو اللائق بحكمته وفضله قالوا متعجبين { إن هذا لساحر مبين } أي إن هذا الذي يدعي أنه رسول هو ساحر . والابتداء بقوله : { قال الكافرون } على تقدير فلما أنذرهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ، قال القفال : وإضمار هذا ، غير قليل في القرآن .

المسألة الثامنة : قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي { إن هذا لساحر } والمراد منه محمد صلى الله عليه وسلم ، والباقون { لسحر } والمراد به القرآن .

واعلم أن وصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل على عظم محل القرآن عندهم ، وكونه معجزا . وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة ، فاحتاجوا إلى هذا الكلام .

واعلم أن إقدامهم على وصف القرآن بكونه سحرا ، يحتمل أن يكونوا ذكروه في معرض الذم ، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح ، فلهذا السبب اختلف المفسرون فيه . فقال بعضهم : أرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر ، ولكنه باطل في الحقيقة ، ولا حاصل له ، وقال أخرون : أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله ، جار مجرى السحر .

واعلم أن هذا الكلام لما كان في غاية الفساد لم يذكر جوابه ، وإنما قلنا إنه في غاية الفساد ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان منهم ، ونشأ بينهم وما غاب عنهم ، وما خالط أحدا سواهم ، وما كانت مكة بلدة العلماء والأذكياء ، حتى يقال : إنه تعلم السحر أو تعلم العلوم الكثيرة منهم فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن . وإذا كان الأمر كذلك ، كان حمل القرآن على السحر كلاما في غاية الفساد ، فلهذا السبب ترك جوابه .