معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

قوله تعالى : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } ، أي : في مولاة الكفار ، فإنهم لن يعجزوا الله .

قوله تعالى : { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } ، وهم المنافقون .

قوله تعالى : { ومن الذين هادوا } ، يعني : اليهود .

قوله تعالى : { سماعون } ، أي : قوم سماعون .

قوله تعالى : { للكذب } ، أي قابلون للكذب ، كقول المصلي : سمع الله لمن حمده ، أي : قبل الله ، وقيل : سماعون لأجل الكذب ، أي يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون ويقولون : سمعنا منه كذا ، ولم يسمعوا ذلك منه .

قوله تعالى : { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } ، أي هم جواسيس ، يعني : بني قريظة { لقوم آخرين } وهم أهل خيبر . وذلك أن رجلاً وامرأةً من أشراف أهل خيبر زنيا ، وكانا محصنين ، وكان حدهما الرجم في التوراة ، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما ، فقالوا : إن هذا الرجل بيثرب ليس في كتابه الرجم ، ولكنه الضرب ، فأرسلوا إلى إخوانكم من بني قريظة فإنهم جيرانه ، وصلح له ، فليسألوه عن ذلك . فبعثوا رهطاً منهم مستخفين ، وقالوا لهم : سلوا محمداً عن الزانيين إذا أحصنا ما حدهما ؟ فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه ، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه ، وأرسلوا معهم الزانيين ، فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة والنضير ، فقالوا لهم : إنكم جيران هذا الرجل ، ومعه في بلده ، وقد حدث فينا حدث فلان وفلانة ، قد فجرا وقد أحصنا ، فنحب أن تسألوا لنا محمداً عن قضائه فيه ، فقالت لهم قريظة والنضير : إذاً والله يأمركم بما تكرهون . ثم انطلق قوم ، منهم كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وسعيد بن عمرو ، ومالك بن الصيف ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : هل ترضون بقضائي ؟ قالوا : نعم . فنزل جبريل عليه السلام بالرجم ، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به . فقال له جبريل عليه السلام : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، ووصفه له . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تعرفون شاباً أمرد ، أعور ، يسكن فدك ، يقال له ابن صوريا ؟ قالوا : نعم ، قال : فأي رجل هو فيكم ؟ فقالوا : هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام في التوراة . قال صلى الله عليه وسلم : فأرسلوا إليه ففعلوا ، فأتاهم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنت ابن صوريا ؟ قال : نعم ، قال : أنت أعلم اليهود ؟ قال : كذلك يزعمون ؟ قال : أتجعلونه بيني وبينكم ؟ قالوا : نعم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي نزل التوراة على موسى عليه السلام ، و أخرجكم من مصر ، وفلق لكم البحر ، وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، والذي ظلل عليكم الغمام ، وأنزل عليكم المن و السلوى ، وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه ، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن ؟ قال ابن صوريا : نعم ، والذي ذكرتني به لولا خشية أن تحرقني التوراة إن كذبت ، أو غيرت ما اعترفت لك ، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد ؟ قال : إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم . فقال ابن صوريا : والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله عز وجل في التوراة على موسى عليه السلام ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : فما كان أول ما ترخصتم به أمر الله ؟ ، قال : كنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ، ثم زنى رجل آخر في أسوة من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه ، فقالوا : والله لا يرجم حتى يرجم فلان لابن عم الملك فقلنا : تعالوا نجتمع فلنصنع شيئاً دون الرجم يكون على الوضيع والشريف ، فوضعنا الجلد والتحميم ، وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ، ثم يسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين ووجوههما من قبل دبر الحمار ، ويطاف بهما ، فجعلوا هذا مكان الرجم ، فقالت اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته به ، وما كنت لما أثنينا عليك بأهل ، ولكنك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك ، فقال لهم : إنه قد أنشدني بالتوراة ، ولولا خشية التوراة أن تهلكني لما أخبرته به ، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده ، وقال : ( اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال : إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها لآية الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله : ارفع يدك ، فرفع يده ، فإذا فيها آية الرجم ، قالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، فقال عبد الله بن عمر : فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة .

وقيل : سبب نزول هذه الآية القصاص ، وذلك أن بني النضير كان لهم فضل على بني قريظة ، فقال بنو قريظة : يا محمد إخواننا بنو النضير ، أبونا واحد ، وديننا واحد ، ونبينا واحد ، إذا قتلوا منا قتيلاً لم يقيدونا وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر ، وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل ، وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر ، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منا ، وبالرجل منهم الرجلين منا ، وبالعبد حرا منا ، وجراحتنا على التضعيف من جراحاتهم ، فاقض بيننا وبينهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والأول أصح . لأن الآية في الرجم . قوله : { ومن الذين هادوا سماعون للكذب } ، قيل : اللام بمعنى إلى ، وقيل : هي لام كي ، أي : يسمعون لكي يكذبوا عليك ، واللام في قوله : { لقوم } أي : لأجل قوم آخرين { لم يأتوك } وهم أهل خيبر .

قوله تعالى : { يحرفون الكلم } ، جمع كلمة .

قوله تعالى : { من بعد مواضعه } ، أي : من بعد وضعه موضعه ، وإنما ذكر الكناية رداً على لفظ الكلم .

قوله تعالى : { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } . أي : إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد والتحميم فاقبلوا .

قوله تعالى : { وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته } ، كفره وضلالته ، قال الضحاك : هلاكه ، وقال قتاده : عذابه .

قوله تعالى : { فلن تملك له من الله شيئاً } ، فلن تقدر على دفع أمر الله فيه .

قوله تعالى : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } ، وفيه رد على من ينكر القدر . قوله تعالى : { لهم في الدنيا خزي } . أي : للمنافقين واليهود ، فخزي المنافقين الفضيحة وهتك الستر بإظهار نفاقهم ، وخزي اليهود الجزية ، أو القتل ، والسبي ، أو النفي ، ورؤيتهم من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيهم ما يكرهون .

قوله تعالى : { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } ، الخلود في النار .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

وبعد أن بين - سبحانه - ما بين من تكاليف قويمة ، وشرائع حكيمة ، تهدي من اتبعها إلى السعادة في الدنيا والآخرة . أتبع ذلك بالحديث عن بعض الوسائل الخبيثة التي اتبعها اليهود وأشباههم لكيد الدعوة الإِسلامية ، فذكر تلاعبهم بأحكامه - تعالى - ، ومحاولتهم فتنة الرسول صلى الله عليه وسلم عند تقاضيهم أمامه ، وحذر - سبحانه - رسوله من مكرهم وساق له ما يسليه ويشرح صدره ، فقال - تعالى - :

{ ياأيها الرسول . . . }

وردت أحاديث متعددة في سبب نزول هذه الآيات الكريمة ، ومن ذلك : ما أخرجه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرواله أن رجلا منهم وامرأة قد زنيا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون . فقال عبد الله بن سلام : كذبتم . إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها .

فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال له عبدالله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد ؛ فيها آية الرجم . فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما .

فقال عبد الله بن عمر : فرأيت الرجل يميل نحو المرأة يقيها الحجارة .

وروى مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود - أي قد وضع الفحم الأسود على وجهه للتنكيل به - .

فدعاهم فقال . هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ فقالوا : نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال : انشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ فقال : لا والله ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، تجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه . وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد . فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع . فاجتمعنا على التحميم والجلد - مكان الرجم .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه قال : فأمر به فرجم . قال : فأنزل الله - تعالى : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ } .

وأخرج الإِمام أحمد عن ابن عباس قال : إن الله أنزل : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } { فأولئك هُمُ الظالمون } { فأولئك هُمُ الفاسقون } قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود . وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا . وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هاذ خوفا منكم ، فأما إذ قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم ، فكادت الحرب تهيج بينهما . ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما بينهم .

ثم ذكرت العزيزة فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم . ولقد صدقوا . ما أعطونا هذا إلا خوفا منا . فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه . إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم لا تحكموه . فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوه أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا . فأنزل الله - تعالى - : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ } إلى قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } قال ابن كثير - بعد أن ساق هذه الأحاديث وغيرها - فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بما يوافق حكم التوراة . وليس هذا من باب الإِكرام لهم بما يعتقدون صحته ، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله - تعالى - إليه بذلك وسؤالهم إياه عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تنواطأوا على كتمانه وجحوده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة . فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه ، ظهر زيفهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوه لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ، ولهذا قالوا : { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ } أي : إن حكم بالجلد والتحميم فاقبلوا حكمه ، { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } أي : وإن لم يحكم بذلك فاحذروا من قبوله واتباعه .

وبمطالعتنا لهذه الأحاديث التي وردت في سبب نزول الآيات ، نراها جميعها قد وردت بأسانيدها صحيحة وفي كتب السنة المعتمدة ، وأن بعها قد حكى أن الآيات نزلت في شأن القضية التي تحاكم فيها اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها قد حكى أنها نزلت في قضية دماء . ولا تعارض بين هذه الأحاديث ، فقد يكون هذان السببان قد حصلا في وقت واحد ، أو متقارب ، فنزلت هذه الآيات فيهما معا . وقد قرر العلماء أنه لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات .

هذا ، وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بنداء من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال - سبحانه - : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هَادُواْ } .

قال القرطبي : قوله - تعالى - { لاَ يَحْزُنكَ } قرأ نفاع بضم الياء وكسر الزاي وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الزاي . والحزن خلاف السرور . ويقال : حزن الرجل - بالكسر - فهو حزن وحزين .

والمعنى : يأيها الرسول الكريم إن ربك يقول لك : لا تهتم ولا تبال بهؤلاء المنافقين ، وبأولئك اليهود الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة ، ويوقولن بأفواهم آمنا بك وصدقناك مع أن قلوبهم خالية من الإِيمان ، ومليئة بالنفاق والفسوق والعصيان .

. لا تهتم - أيها الرسول الكريم - بهؤلاء جميعا ، فإني ناصرك عليهم ، وكافيك شرهم .

وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة { ياأيها الرسول } تشريف له وتكريم وإشعار بأن وظيفته كرسول أن يبلغ رسالة الله دون أن يصرفه عن ذلك عناد المعاندين ، أو كفر الكافرين ، فإن تكاليف الرسالة تحتم عليه الصبر على أذى أعدائه حتى يحكم الله بينه وبينهم .

والنهي عن الحزن - وهو أمر نفسي لا اختيار للإِنسان فيه - المراد به هنا : النهي عن لوازمه ، كالإِكثار من محاولة تجديد شأن المصائب . وتعظيم أمرها ، وبذلك تتجدد الآلام ، وتعز السلوى .

وفي هذه الجملة الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيس لقلبه ، وإرشاد له إلى ما سيقع له من أعدائه من شرور حتى لا يتأثر بها عند وقوعها .

وفي التعبير بقوله : { يُسَارِعُونَ فِي الكفر } ذم لهم على انحدارهم في دركات الكفر بسرعة من غير مواناة ولا تدبر ولا تفكر . فهم يتنقلون بحركات سريعة في ثنايا الكفر ومداخلة دون أن يزعهم وازع من خلق أو دين .

قال صاحب الكشاف : يقال : اسرع فيه الشيب ، وأسرع في الفساد بمعنى : وقع فيه سريعا . فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه ، بحيث إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها .

وقال أبو السعود : والمسارعة في الشيء : الوقوع فيه بسرعة ورغبة . وإيثار كلمة ( في ) على كلمة إلى ، للإِيمان إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرحونه .

وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها ، كإظهار موالاة المشركين ، وإبراز آثار الكيد للإِسلام ونحو ذلك .

وقوله : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } بيان لأولئك المسارعين في الكفر .

والمتنقلين في دركاته من دركة إلى دركة .

وقوله ( بأفواههم ) متعلق بقوله : ( قالوا ) وقوله : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } جملة حالية من ضمير ، قالوا .

وقوله : { وَمِنَ الذين هَادُواْ } معطوف على قوله : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِم } وعليه فيكون الذين هادوا داخلين في الذين يسارعون في الكفر .

أي أن المسارعين في الكفر فريقان : فريق المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وفريق اليهود الذين تميزوا بهذا الإِسم واشتركوا مع المنافقين في نفاقهم والمعنى : لا تهتم يا محمد بأولئك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود الذين من صفاتهم أنهم يظهرون الإِيمان على أطراف ألسنتهم والحال أن قلوبهم خالية منه .

وعلى هذا المعنى يكون الكلام قد تم عند قوله - تعالى - { وَمِنَ الذين هَادُواْ } ويكون ما بعده وهو قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } . إلخ . من أوصاف الفريقين معا ، لأنهم مشتركون في المسارعة في الكفر .

ومنهم من يرى أن قوله تعالى : { وَمِنَ الذين هَادُواْ } جملة مستأنفة لبيان أحوال فريق آخر من الناس وهم اليهود ، وأن قوله - تعالى - بعد ذلك { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } إلخ .

من أوصاف هؤلاء اليهود ، وأن الكلام قد تم عند قوله - تعالى - { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } وأن البيان بقوله : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } لفريق المنافقين .

قال الفخر الرازي : قوله { وَمِنَ الذين هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } ذكر الفراء والزجاج ها هنا وجهين :

الأول : أن الكلام إنما يتم عند قوله : { وَمِنَ الذين هَادُواْ } ثم يبدأ الكلام من قوله { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ } وتقدير الكلام لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين للكذب .

الثاني : أن الكلام تم عند قوله - تعالى - : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ثم ابتدأ من قوله : { وَمِنَ الذين هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } وعلى هذا التقدير فقوله ( سماعون ) صفة لمحذوف .

والتقدير : ومن الذين هادوا قوم سماعون .

قال الجمل : الأولى والأحسن أن يكون قوله : و { وَمِنَ الذين هَادُواْ } معطوفا على البيان وهو قوله : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا } فيكون البيان بشيئين المنافقين واليهود . أما على القول الثاني فيكون البيان بشيء واحد وهو المنافقون .

وقوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } صفتان أخريان لأولئك الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة .

وقوله : ( سماعون ) جمع سماع . وهو صيغة مبالغة جيء بها لا فادة أنهم كثيروا السماع للكذب ، وأنهم لفساد نفوسهم يجدون لذة في الاستماع إليه من رؤسائهم وأحبارهم ، ومن هم على شاكلتهم في العناد والضلال .

واللام في قوله : ( للكذب ) للتقوية أي : أنهم يسمعون الكذب كثيراً سماع قبول وتلذذ ، ويأخذونه ممن يقوله من أعداء الإِسلام على أنه حقائق ثابتة لا مجال للريب فيها .

وقيل إن اللام للتعليل أي أنهم كثيرو السماع لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولأخباره من أجل الكذب عليه ، عن طريق تغيير وتبديل ما سمعوه على حسب ما تهواه نفوسهم المريضة .

وقوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } بيان لمسلك آخر من مسالكهم الخبيثة بعد بيان احتفالهم بالأخبار الكاذبة ، وتقبلها بفرح وسرور .

أي : أن هؤلاء المسارعين في الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم أنهم كثيروا السماع للأكاذيب التي يروجها أعداء الدعوة الإِسلامية ضدها كثيرو السماع والقبول والاستجابة لما يقوله عنها قوم آخرون من أعدائها لم يحضروا مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تكبرا وعتوا ويجوز أن يكون المعنى : أنهم كثيروا السماع للكذب عن محبة ورغبة ، وأنهم كثيروا السماع لما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم لينقلوه إلى قوم آخرين - من أشباههم في الكفر والعناد - ولم يحضروا مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم أنفة وبغضاً فأنت ترى أن القرآن قد وصفهم بفساد بواطنهم حيث استحبوا الكذب على الصدق .

كما وصفهم بضعف نفوسهم حيث صاروا مطايا لغيرهم يطيعون أمرهم ويبلغون أخبار المسلمين ، فهم عيون على المسلمين ليبلغوا أخبارهم إلى زعماء الكفر والنفاق .

وإلى هذين المعنيين أشار صاحب الكشاف بقوله : ومعنى { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } : قابلون لما بفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه ، من قولك : الملك يسمع كلام فلان ، ومنه سمع الله لمن حمده .

وقوله : { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } يعني اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرد فيهم من شدة البغضاء . وتبالغ من العداوة ، أي : قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك وقيل : سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه ، بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وجهودهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه .

وقوله : { يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } صفة أخرى للقوم الآخرين الذين لم يأتوا إلى مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم أنفة وبغضاً . أو للمسارعين في الكفر من الفريقين .

وقوله : { يُحَرِّفُونَ } من التحريف وأصله من الحرف وهو طرف الشيء .

ومعناه إمالة الكلام عن معناه ، وإخراجه عن أطرافه وحدوده .

والكلم : اسم جنس جمعي للفظ كلمة ومعناه الكلام .

أي أن هؤلاء القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلسك نفورا منك ، أو هم والمسارعون في الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم ودأبهم تحريف جنس الكلم عن مواضعه . فهو يحرفون كلامك يا محمد ، ويحرفون التوراة ، ويحرفون معاني القرآن حسب أهوائهم وشهواتهم ويحرفون الحق الذي جئت به تارة تحريفاً لفظياً ، وتارة تحريفاً معنوياً ، وتارة بغير ذلك من وجوه التحريف والتبديل .

وقوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي : يحرفون الكلم من بعد استقرار مواضعه وبيان حلالها وحرامها .

وعبر هنا " من بعد مواضعه " وفي مواطن أخرى بقوله { عَن مَّوَاضِعِهِ } لأن المقام هنا للحديث عن الأحكام المستقرة الثابتة التي حاول أولئك المسارعون في الكفر تغييرها وإحلال أحكام أخرى محلها تبعاً لأهوائهم كما حدث في قضية الزنا وفي غيرها من القضايا التي تحاكموا فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من المناسب هنا التعبير بقوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي : من بعد استقرار مواضعه وثبوتها لا يقبل التحريف أو التغيير أو الإِهمال .

وقوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } بيان لما نطقت به أفواه أولئك الذين لم يحضروا مجالس رسول الله من مكر وخداع وضلال .

أي : أن أولئك القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عنادا وتكبرا لم يكتفوا بتحريف الكلم عن مواضعه هم وأشياعهم .

بل كانوا إلى جانب ذلك يقولون لمطاياهم السامعين منهم أو السامعين من أجلهم : يقولن لهم عندما أرسلوهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ } أي : إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم يمثل هذا الذي نفتيكم به - كالجلد والتحميم بدل الرجم - فاقبلوا حكمه وخذوه واعملوا به { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } أي : وإن أفتاكم بغير ما أفتيناكم به فاحذروا قبول حكمه ، وإياكم أن تستجيبوا له ، أو تميلوا إلى ما قاله لكم .

واسم الإِشارة هذا في قوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا } يعود إلى القول المحرف الذي تواضع أحبار اليهود على الإِفتاء به تبعاً لأهوائهم . كما حدث منهم في قضية الزنا حيث غيروا حكم الرجم بحكم آخر هو الجلد والتحميم .

وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف ، إشارة إلى تخوفهم الشديد من ميل أتباعهم إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يحذرونهم بشدة من الاستماع إلى ما يقوله لهم مما يخالف ما تواضعوا عليه من أباطيل .

وقوله : { إِنْ أُوتِيتُمْ } مفعول لقوله : ( يقولون ) واسم الإِشارة ( هذا ) مفعول ثان " لأوتيتم " والأول نائب الفاعل وقوله : ( فخذوه ) جواب الشرط ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

أي : ومن يقض الله بكفره وضلاله ، فلن تملك له - أيها الرسول الكريم - شيئا من الهداية لتدفع بها ضلالة وكفره ، أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة لم يرد الله - تعالى - أن يطهر قلوبهم من النفاق والضلال ؛ لأنهم استحبوا العمى على الهدى ، { لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ } أي : فضيحة وهوان بسبب ظهور كذبهم ، وفساد نفوسهم ، وانتشار تعاليم الإسلام التي يحاربونها ويشيعون الأباطيل حولها وحول من جاء بها صلى الله عليه وسلم .

{ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو خلودهم في النار بسبب اجتراحهم السيئات ، ومحاربتهم لمن جاءهم بالحق والهدى والسعادة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

41

{ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ } أي : أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وقلوبهم خراب خاوية منه ، وهؤلاء هم المنافقون . { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أعداء الإسلام وأهله . وهؤلاء كلهم { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي : يستجيبون{[9833]} له ، منفعلون عنه { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي : يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون{[9834]} مجلسك يا محمد . وقيل : المراد أنهم يتسمعون الكلام ، ويُنْهُونه إلى أقوام آخرين ممن لا يحضر عندك ، من أعدائك { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ }{[9835]} أي : يتأولونه على غير تأويله ، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا }

قيل : نزلت في أقوام من اليهود ، قتلوا قتيلا وقالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد ، فإن أفتانا بالدية فخذوا ما قال ، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه .

والصحيح أنها نزلت في اليهوديَّيْن{[9836]} اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، من الأمر برجم من أحْصن منهم ، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين . فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .

وقد وردت الأحاديث بذلك ، فقال مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ " فقالوا : نفضحهم ويُجْلَدون . قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ{[9837]} ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا{[9838]} صدق{[9839]} يا محمد ، فيها آية الرجم ! فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما{[9840]} فرأيت الرجل يَحْني على المرأة يقيها الحجارة .

وأخرجاه{[9841]} وهذا لفظ البخاري . وفي لفظ له : " فقال لليهود : ما تصنعون بهما ؟ " قالوا : نُسخّم وجوههما ونُخْزِيهما . قال : { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 93 ] فجاءوا ، فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعورَ : اقرأ ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه ، قال : ارفع يدك . فرفع ، فإذا آية الرجم تلوح ، قال : يا محمد ، إن فيها آية الرجم ، ولكنا نتكاتمه بيننا . فأمر بهما فَرُجما . {[9842]}

وعند مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يَهُود ، فقال : " ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ " قالوا : نُسَوّد وجوههما ونُحَمّلهما ، ونخالف بين وجوههما ويُطَاف بهما ، قال : { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال : فجاءوا بها ، فقرأوها ، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم ، وقرأ ما بين يديها وما وراءها . فقال له عبد الله بن سَلام - وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - : مُرْه فلْيرفع يده . فرفع يده ، فإذا تحتها آيةُ الرجم . فأمر بهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرُجما . قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه . {[9843]}

وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن سعيد الهَمْداني ، حدثنا ابن وَهْب ، حدثنا هشام بن سعد ؛ أن زيد بن أسلم حَدثه ، عن ابن عمر قال : أتَى نفر من اليهود ، فدعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القُفِّ فأتاهم في بيت المِدْارس ، فقالوا : يا أبا القاسم ، إن رجلا منا زنى بامرأة ، فاحكم قال : ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة ، فجلس عليها ، ثم قال : " ائتوني بالتوراة " . فأتي بها ، فنزع الوسادة من تحته ، ووضع التوراة عليها ، وقال : " آمنت بك وبمن أنزلك " . ثم قال : " ائتوني بأعلمكم " . فأتي بفتى شاب ، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع . {[9844]}

وقال الزهري : سمعت رجلا من مُزَيْنَة ، ممن يتبع العلم ويعيه ، ونحن عند ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : زنى رجل من اليهود بامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا إلى هذا النبي ، فإنه بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفُتْيا دون الرجم قبلناها ، واحتججنا بها عند الله ، قلنا : فتيا نبي من أنبيائك ، قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مِدْارسهم ، فقام على الباب فقال : " أنْشُدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحْصنَ ؟ قالوا : يُحَمَّم ، ويُجبَّه ويجلد . والتجبية : أن يحمل الزانيان على حمار ، وتقابل أقفيتهما ، ويطاف بهما . قال : وسكت شاب منهم ، فلما رآه رسول الله{[9845]} صلى الله عليه وسلم سكت ، ألَظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّشْدة ، فقال : اللهم إذ نشدتنا ، فإنا نجد في التوراة الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فما أول ما ارتخصتم أمر الله ؟ " قال : زنى ذُو قرابة من ملك من ملوكنا ، فأخَّر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في إثره من الناس ، فأراد رجمه ، فحال قومه دونه وقالوا : لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه ! فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإني أحكم بما في التوراة " فأمر بهما فرجما . قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم .

رواه أحمد ، وأبو داود - وهذا لفظه - وابن جرير{[9846]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن مُرّة ، عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمَّم مجلود ، فدعاهم فقال : " أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ " فقالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم فقال : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حَدَّ الزاني في كتابكم ؟ " فقال : لا والله ، ولولا أنك نَشَدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريفَ تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئًا نقيمه على الشريف والوَضِيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " . قال : فأمر به فرجم ، قال : فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } إلى قوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ } يقولون : ائتوا محمدًا ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، إلى قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : في اليهود إلى قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } قال : في اليهود{[9847]} { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } قال : في الكفار كلها .

انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من غير وجه ، عن الأعمش ، به . {[9848]}

وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي في مسنده : حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة ، عن مُجالد بن{[9849]} سعيد الهَمْدَاني ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله قال : زنى رجل من أهل فَدَك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدًا عن ذلك ، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه ، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه ، تسألوه عن ذلك ، قال : " أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم " . فجاءوا برجل أعور - يقال له : ابن صوريا - وآخر ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " أنتما أعلم من قبلكما ؟ " . فقالا قد دعانا قومنا لذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما : " أليس عندكما التوراة فيها حكم الله ؟ " قالا بلى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأنشدكم بالذي فَلَق البحر لبني إسرائيل ، وظَلّل عليكم الغَمام ، وأنجاكم من آل فرعون ، وأنزل المن والسَّلْوى على بني إسرائيل : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ " فقال أحدهما للآخر : ما نُشدْتُ بمثله قط . قالا نجد ترداد النظر زنية والاعتناق زنية ، والقبل زنية ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد ، كما يدخل الميل في المُكْحُلة ، فقد وجب الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هو ذاك " . فأمر به فَرُجمَ ، فنزلت : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }{[9850]}

ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث مُجالد ، به{[9851]} نحوه . ولفظ أبي داود عن جابر قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال : " ائتوني بأعلم رجلين منكم " . فأتوا بابني صوريا ، فنشدهما : " كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ " قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المُكْحُلة رجما ، قال : " فما يمنعكم أن ترجموهما ؟ " قالا ذهب سلطاننا ، فكرهنا القتل . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود ، فجاءوا أربعة ، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما .

ثم رواه أبو داود ، عن الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي ، مرسلا{[9852]} ولم يذكر فيه : " فدعا بالشهود{[9853]} فشهدوا " .

فهذه أحاديث{[9854]} دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة ، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته ؛ لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله ، عز وجل{[9855]} إليه بذلك ، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم ، مما تراضوا{[9856]} على كتمانه وجحده ، وعدم العمل{[9857]} به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع عَملهم{[9858]} على خلافه ، بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم ، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به لهذا قالوا{[9859]} { إِنْ }{[9860]} أُوتِيتُمْ هَذَا والتحميم { فَخُذُوهُ } أي : اقبلوه { وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } أي : من قبوله واتباعه .

قال الله تعالى : { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

/خ44


[9833]:في د، أ: "مستجيبون".
[9834]:في أ: "لم يأتون" وهو خطأ؛ لأن الفعل مجزوم.
[9835]:في أ: "من بعض" وهو خطأ.
[9836]:في أ: "في اليهود".
[9837]:في ر: "فقال".
[9838]:في ر، أ: "قالوا".
[9839]:في أ: "صدقت".
[9840]:في ر: "فرجمهما".
[9841]:الموطأ (2/819) وصحيح البخاري برقم (3635، 6841) وصحيح مسلم برقم (1699).
[9842]:صحيح البخاري برقم (7543).
[9843]:صحيح مسلم برقم (1699).
[9844]:سنن أبي داود برقم (4449).
[9845]:في أ: "النبي".
[9846]:المسند برقم (7747) ط (شاكر) وسنن أبي داود برقم (4450) وتفسير الطبري (10/305) وانظر: حاشية العلامة أحمد شاكر على المسند.
[9847]:في أ: "النصارى".
[9848]:صحيح مسلم برقم (1700) وسنن أبي داود برقم (4448) وسنن النسائي الكبرى برقم (7218) وسنن ابن ماجة برقم (2558).
[9849]:في ر: "عن".
[9850]:مسند الحميدي (2/541).
[9851]:سنن أبي داود برقم (4452) وسنن ابن ماجة برقم (2328).
[9852]:سنن أبي داود برقم (4453).
[9853]:في ر: "الشهود".
[9854]:في أ: "الأحاديث".
[9855]:في أ: "الله تعالى".
[9856]:في ر: "تواصوا".
[9857]:في ر: "العلم".
[9858]:في ر: "علمهم".
[9859]:في ر: "قال".
[9860]:في ر: "وإن".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } أي صنيع الذين يقعون في الكفر سريعا أي في إظهاره إذا وجدوا منه فرصة . { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } أي من المنافقين والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا والواو تحتمل الحال والعطف . { ومن الذين هادوا } عطف على { من الذين قالوا } { سماعون للكذب } خبر محذوف أي هم سماعون ، والضمير للفريقين ، أو للذين يسارعون ويجوز أن يكون مبتدأ ومن الذين خبره أي ومن اليهود قوم سماعون واللام في للكذب ، إما مزيدة للتأكيد أو لتضمين السماع معنى القبول أي ؛ قابلون لما تفتريه الأحبار ، أو للعلة والمفعول محذوف أي : سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه . { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } أي لجمع آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبرا وإفراطا في البغضاء ، والمعنى على الوجهين أي مصغون لهم قابلون كلامهم ، أو سماعون منك لأجلهم والإنهاء إليهم ، ويجوز أن تتعلق اللام بالكذب لأن سماعون الثاني مكرر للتأكيد أي : سماعون ليكذبوا لقوم آخرين : { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ، إما لفظا : بإهماله أو تغيير وضعه ، وإما معنى : بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده ، والجملة صفة أخرى لقوم أو صفة لسماعون أو حال من الضمير فيه أو استئناف لا موضع له ، أو في موضع الرفع خبرا لمحذوف أي هم يحرفون وكذلك { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } أي إن أوتيتم هذا المحرف فاقبلوه واعملوا به . { وإن لم تؤتوه } بل أفتاكم محمد بخلافه { فاحذروا } أي احذروا قبول ما أفتاكم به . روي ( أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وكانا محصنين فكرهوا رجمهما ، فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم فأقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا ، فأمرهم بالرجم فأبوا عنه ، فجعل ابن صوريا حكما بينه وبينهم ، وقال له : أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ، ورفع فوقكم الطور ، وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن ، قال : نعم فوثبوا عليه فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب المسجد ) . { ومن يرد الله فتنته } ضلالته أو فضيحته . { فلن تملك له من الله شيئا } فلن تستطيع له من الله شيئا في دفعها . { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } من الكفر وهو كما ترى نص على فساد قول المعتزلة . { لهم في الدنيا خزي } هو أن بالجزية والخوف من المؤمنين { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وهو الخلود في النار ، والضمير للذين هادوا إن استأنفت بقوله ومن الذين وإلا فللفريقين .