معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

قوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } . نزلت في معاذ بن جبل ، وثعلبة ابن غنم الأنصاريين قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً ، ثم يزيد حتى يمتلئ نوراً ، ثم يعود دقيقاً كما بدأ ، ولا يكون على حاله ، فأنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الأهلة ) وهي جمع هلال ، مثل رداء وأردية سمي هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته ، من قولهم استهل الصبي ، إذا صرخ حين يولد ، وأهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية .

قوله تعالى : { قل هي مواقيت للناس والحج } . جمع ميقات ، أي فعلنا ذلك فعلنا ذلك ليعلم ذلك ليعلم الناس أوقات الحج ، والعمرة ، والصوم ، والإفطار ، وآجال الديون ، وعدد النساء ، وغيرها ، فلذلك خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة .

قوله تعالى : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } . قال أهل التفسير : كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج ، أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه . فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته ليدخل منه ويخرج ، أو يتخذ سلماً فيصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً ، إلا أن يكون من الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو مضر بن معاوية ، سموا حمساً لتشددهم في دينهم ، والحماسة الشدة والصلابة ، قالوا : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار ، فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن التابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم دخلت من الباب وأنت محرم : قال رأيتك دخلت فدخلت على أثرك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحمسي فقال الرجل : إن كنت أحمسياً فإني أحمسي ، رضيت بهديك ، وسمتك ودينك فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال الزهري : كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء ، وكان الرجل يخرج مهلاً بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت ، أن يحول بينه وبين السماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته ، حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة فدخل رجل على أثره من الأنصار ، من بني سلمة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم فعلت ذلك ؟ قال لأني رأيتك دخلت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أحمسي . فقال الأنصاري : وأنا أحمسي ، يقول وأنا على دينك ، فأنزل الله تعالى ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) . قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر : والبيوت ، والغيوب ، والجيوب ، والعيون ، وشيوخاً ، بكسر أوائلهن لمكان الياء ، وقرأ الباقون ، بالضم على الأصل ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي جيوب بكسر الجيم ، وقرأ أبو بكر وحمزة " العيوب " بكسر العين .

قوله تعالى : { ولكن البر من اتقى } . أي : البر : بر من اتقى .

قوله تعالى : { وأتوا البيوت من أبوابها } . في حال الإحرام .

قوله تعالى : { واتقوا الله لعلكم تفلحون } . أي في طاعة الله .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

ثم انتقل القرآن إلى الحديث عن الأهلة لما لها من صلة بالصيام وبالقتال في الأشهر الحرام وبمواقيت الحج فقال - تعالى - :

( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج وَلَيْسَ البر . . . )

ورد في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : " بلغنا أن بعض الناس قالوا : يا رسول الله ، لم خلقت الأهلة فنزلت " .

والأهلة : جمع الهلال ، وهو الكوكب الذي يبزغ في أول كل شهر ، ويسمى هلالا لثلثا ليال أو لسبع ليلا من ظهوره ، ثم يسمى بعد ذلك قمرا إلى أن يعود من الشهر الثاني .

قال بعضهم : وهو مشتق من استهل الصبي إذا بكى وصاح حين يولد ، ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، وسمى بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره أو بالتكبير ، ولهذا يقال أهل الهلال واستهل .

والمواقيت : جمع ميقات بمعنى الوقت ، وهو ما يقدر لعمل من الأعمال وقيل : الميقات منتهى الوقت .

والمعنى : يسألك بعض الناس عن الحكمة من خلق الأهلة ، قل لهم - يا محمد 0 إن الله - تعالى - قد خلقها لتكون معالم يوقت ويحدد بها الناس صومهم ، وزكاتهم ، وحجهم ، وعدة نسائهم ، ومدد حملهن ، ومدة الرضاع ، وغير ذلك مما يتعلق بأمور معاشهم .

قال - تعالى - : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وخص الجح بالكر مع أن الأهلة مواقيت لعبادات أخرى كالصوم والزكاة للتبيه على أن الحج مقصور وقد أدائه على الزمن الذي عينه الله - تعالى - وأنه لا يجوز نقله إلى وقت آخر كما كانت العرب تفعل ، إذ كانوا ينقلون ما شاؤوا من الأشهر الحرام الأربعة التي من جملتها ذو الحجدة إلى شهر آخر غير حرام ، وهو النسيء المشار إليه بقوله - تعالى - : { إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر } وخص الشارع المواقيت بالأهلة وأشهرها دون الشمس وأشهرها ، لأن الأشهر الهلالية تعرف برؤية الهلال ومحاقه ، وذلك ما لا يخفى على أحد من الخاصة أو العامة أينما كانوا بخلاف الأشهر الشمسية ، فإن معرفتها تنبني على النظر في حركات الفلك وهي لا تتيسر ألا للعارفين بدقائق علم الفلك .

هذا ، وم الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال : نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قالا : يا رسول الله . ما بال الهلال يبدو - أو يطلع - دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان ، لا يكون على حال واحد ؟ فنزلت .

وعلى هذه الرواية يكون الجواب بقوله - تعالى - : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } من قبيل أسلوب الحكيم ، وهو إجابة السائل بغير ما يتطلبه سؤاله ، بتنزيل سؤاله منزلة غيره ، تنبيها له على أن ذلك الغير هو الأولى بالسؤال لأنه هو المهم بالنسبة له .

فأنت ترى هنا أن السائلين قد سألأوا عن سبب اختلاف الأهلة بالزيادة والنقصان ، فأجيبوا ببيان الحكمة من خلقها ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : عليكم أن تسألوا عن الحكمة والفائدة من خلق الأهلة لأن هذا هو الأليق بحالكم وهو ما أجبتكم عليه ، لا أن تسألوا عن سبب تزايدها في أول الشهر وتناقصها في آخره ، لأن هذا من اختصاص علماء الهيئة ، وأنتم لستم في حاجة إلى معرفة ذلك في هذا الوقت .

ولعلماء البلاغة كلام جيد في مزايا ما يسمونه بأسلوب الحكيم ، فقد قال السكاكي ما ملخصه : " ولهذا النوع - أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر - أساليب متفننة ، ولكل من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها ، ولا كأسلوب الحكيم فيها . وهو تلقى المخاطب بغير ما يترقب ، أو السائل بغير ما يتطلب ، كما قال - تعالى - { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } الآية . قالوا في السؤال ما بال الهلال يبدوا دقيقاً . . ألخ فأجيبوا بما ترى . وإن هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور ، وأبرزه في معرض المسحور ، وهل ألان شكيمة " الحجاج الثقفي " لذلك الرجل الخارجي ، وسل سخيمته ، حتى آثر أن يحسن على أن يسيء غير أن سحره بهذا الأسلوب ؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله " لأحملنك على الأدهم " فقال الخارجي متغابيا : مثل الأمير بحمل على الأدهم الأشهب . مبرزاً وعيده في معرض الوعد ، متوصلا أن يريه بألطف وجه : أن رجلا مثله جدير بأن يعد لا أن يوعد " .

وقوله - تعالى - : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا } هذا القول الكريم نهى لجماعة المسلمين عن عادة كونا يفعلونها في الجاهلية ، وهي أنهم كانوا إذا عادوا من حجهم أو أحرموا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ، بل كانوا يدخلون من نقب ينقبونه في ظهور بيوتهم .

أخرج البخاري عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء - رضي الله عنه - يقول : نزلت هذه الآية فينا . كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عير بذلك فنزلت : { وَلَيْسَ البر } إلخ .

والمعنى : وليس من البر ما كنتم تفعلونهن في الجاهلية من دخولكم البيوت من ظهورها عند إحرامكم أو عودتكم من حجكم ، وكلن البر الحق الجامع لخصال الخير يكون في تقوى الله بأن تمتثلوا أوامرره وتجتنبوا نواهيه ، وإذا ثبت ذلك فعليكم أن تأتوا البيوت من أبوابها عند إحرامكم أو رجوعكم من حجكم .

وفي الأمر بأتيان البيوت من أبوابها إشعار بأن إيتانها من ظهورا ابسم الدين غير مأذون فيه ، وكل ما يفعل باسم الدين وليس له في الدين من شاهد فهو بدعة ، وكل بدعة ضلالة .

وفي الآية الكريمة تعريض بمن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة ، ولا تتوقف معرفته على الوحي ، فهذا السائل في سؤاله مثله كمثل من يدخل البيت من ظهره لا من بابه .

قال بعضهم : وذلك لأن العلم على ضربين : علم دنيوي يتعلق بأمر المعاش - كمعرفة الصنائع ومعرفة حركات ومعرفة المعادن والنبات ، وقد جعل الله لنا سبيلا إلى معرفة ذلك غير لسان بينه صلى الله عليه وسلم .

وعلم شرعي يتعلق بالعبادات والمعاملات والعقيدة ولا سبيل إلى أخذه إلا من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .

فلما جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما أمكنهم معرفته من غير جهته أجابهم . ثم بين لهم أن البر في التقوى وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين " .

قا صاحب الكشاف : فإن قلت . ما وجه اتصال قوله - تعالى - { وَلَيْسَ البر } إلخ بما قبله ؟ قلت : كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها : إن كل ما يفعله الله - تعالى - لا يكون إلا عن حكمة ومصلحة لعباده فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تعفلونهها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برا . ويجوز أن يكون ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج ، لأنه كان من أفعالهم في الحج . ويحتمل أن يكون هذا لتعكيسهم في سؤالهم وأن مثلهم كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره . والمعنى : ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البر بر من اتقى ذلبك وتجنبه ولم يجسر على مثله ثم قال : { وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا } أي : باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا ، والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب .

وقوله - تعالى - { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أمر بالتقوى التي تتضمن القيام بجميع الواجبات واجتناب البدع والمنكرات . أي : افعلوا ما أمركم الله به ، واجتنبوا ما نهاكم عنه ، لتكونوا من المفلحين ، وهم الفائزون بالحياة المطمئنة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة . وبذلك تكون الآية الكريمة قد رددت عقول الناس إلى النظر والتأمل في سنن الله وفي خلفه على النحو الذي ينشئ التقوى في النفوس ، ويوجه إلأى العمل الصالح الذي يرضى الله - تعالى - .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

قال العوفي عن ابن عباس : سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [ وَالْحَجِّ ]{[3373]} } يعلمون بها حِلَّ دَيْنهم ، وعدّة نسائهم ، ووقتَ حَجِّهم .

وقال أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : بلغنا أنَّهم قالوا : يا رسول الله ، لم خُلِقَتْ الأهلة ؟ فأنزل الله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } يقول : جَعَلَهَا الله مواقيت لصَوْم المسلمين وإفطارهم ، وعدة نسائهم ، ومَحَلّ دَيْنهم .

وكذا رُوي عن عَطَاء ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، والربيع بن أنس ، نحو ذلك .

وقال عبد الرزاق ، عن عبد العزيز بن أبي رَوّاد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فَعُدُّوا ثلاثين يومًا " .

ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث ابن أبي رواد ، به{[3374]} . وقال : كان ثقة عابدًا مجتهدًا شريف النسب ، فهو صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .

وقال محمد بن جابر ، عن قيس بن طلق ؛ عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل الله الأهلَّة ، فإذا رأيتم الهلال فصُوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن أغْمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " {[3375]} . وكذا روي من حديث أبي هريرة ، ومن كلام عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنه{[3376]} {[3377]} .

وقوله : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } قال البخاري : حدثنا عبيد الله{[3378]} بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتَوْا البيت من ظهره ، فأنزل الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا }{[3379]} .

وكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كانت الأنصار إذا قدموا من سَفَر لم يدخل الرجل من قبل بابه ، فنزلت هذه الآية .

وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر : كانت قريش تدعى الحُمْس ، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذْ خرج من بابه ، وخرج معه قُطْبة بن عامر الأنصاري ، فقالوا : يا رسول الله ، إن قطبة ابن عامر رجل تاجر{[3380]} وإنه خرج معك من الباب . فقال له : " ما حملك على ما صنعت ؟ " قال : رأيتك فعلتَه ففعلتُ كما فعلتَ . فقال : " إني [ رجل ]{[3381]} أحمس " . قال له : فإن ديني دينك . فأنزل الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } رواه ابن أبي حاتم . ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه . وكذا روي عن مجاهد ، والزهري ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والسدي ، والربيع بن أنس .

وقال الحسن البصري : كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من بيته يُريد سفره الذي خرج له ، ثم بدا له بَعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره ، لم يدخل البيت من بابه ، ولكن يتسوّره من قبل ظهره ، فقال{[3382]} الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ]{[3383]} } الآية .

وقال محمد بن كعب : كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت ، فأنزل الله هذه الآية .

وقال عطاء بن أبي رباح : كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويَرَوْنَ أن ذلك أدنى إلى البر ، فقال الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا }

وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به ، واتركوا ما نهاكم عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } غدا إذا وقفتم بين يديه ، فيجزيكم{[3384]} بأعمالكم على التمام ، والكمال .


[3373]:زيادة من أ.
[3374]:المستدرك (1/423).
[3375]:رواه أحمد في المسند (4/23) من طريق محمد بن جابر به.
[3376]:في جـ: "عنهم".
[3377]:حديث أبي هريرة رواه البخاري في صحيحه برقم (1909) ومسلم في صحيحه برقم (1081).
[3378]:في أ: "عبد الله".
[3379]:صحيح البخاري برقم (4512).
[3380]:في جـ: "فاجر".
[3381]:زيادة من جـ، أ.
[3382]:في أ: "فأنزل".
[3383]:زيادة من جـ.
[3384]:في جـ، أ: "فيجازيكم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلََكِنّ الْبِرّ مَنِ اتّقَىَ وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ }

ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها ، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية جوابا لهم فيما سألوا عنه . ذكر الأخبار بذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسَ قال قتادة : سألوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك : لم جعلت هذه الأهلة ؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون : هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم ولعدّة نسائهم ومحلّ دَينهم في أشياء ، والله أعلم بما يصلح خلقه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذكر لنا أنهم قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : لم خلقت الأهلة ؟ فأنزل الله تعالى : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ وَالحَجّ }جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم ولحجهم ومناسكهم وعدّة نسائهم وحلّ ديونهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : مَوَاقِيتُ للّناسِ وَالحَجّ قال : هي مواقيت للناس في حجهم وصومهم وفطرهم ونسكهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال الناس : لم خلقت الأهلة ؟ فنزلت : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } لصومهم وإفطارهم وحجهم ومناسكهم . قال : قال ابن عباس : ووقت حجهم ، وعدة نسائهم ، وحلّ دينهم .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } فهي مواقيت الطلاق والحيض والحج .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : حدثنا الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } يعني حل دَينهم ، ووقت حجهم ، وعدّة نسائهم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : سأل الناس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } يعلمون بها حل دينهم ، وعدّة نسائهم ، ووقت حجهم .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد عن شريك ، عن جابر ، عن عبد الله بن يحيى ، عن عليّ أنه سئل عن قوله : { مَوَاقِيتُ للّناسِ } قال : هي مواقيت الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه فإذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غمّ عليكم فأتموا ثلاثين .

فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنه قوله في ذلك : يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرارها وتمامها واستوائها وتغير أحوالها بزيادة ونقصان ومحاق واستسرار ، وما المعنى الذي خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان ، فقل يا محمد خالف بين ذلك ربكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه ، مواقيت لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم ، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقها واستسرارها وإهلالكم إياها أوقات حل ديونكم ، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه ، وتصرّم عدة نسائكم ، ووقت صومكم وإفطاركم ، فجعلها مواقيت للناس .

وأما قوله : وَالحَجّ فإنه يعني وللحج ، يقول : وجعلها أيضا ميقاتا لحجكم تعرفون بها وقت مناسككم وحجكم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون } .

قيل : نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون إذا أحرموا بيوتهم من قبل أبوابها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء يقول : كانت الأنصار إذا حجوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها . قال : فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه ، فقيل له في ذلك ، فنزلت هذه الآية : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . }

حدثني سفيان بن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيوت من ظهورها ، ولم يأتوا من أبوابها ، فنزلت : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . . . }الآية .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود ، عن قيس بن حبير : أن ناسا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه ولا دارا من بابها أو بيتا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دارا . وكان رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن تابوت ، فجاء فتسوّر الحائط ، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج من باب الدار أو قال من باب البيت خرج معه رفاعة ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما حَمَلَكَ عَلى ذَلِكَ ؟ » قال : يا رسول الله رأيتك خرجت منه ، فخرجت منه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي رَجلٌ أحْمَسُ » ، فقال : إن تكن رجلاً أحمس فإن ديننا واحد . فأنزل الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها . }

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها }يقول : ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من كوّات في ظهور البيوت وأبواب في جنوبها تجعلها أهل الجاهلية . فنهوا أن يدخلوا منها وأمروا أن يدخلوا من أبوابها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : كان ناس من أهل الحجاز إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوا من ظهورها ، فنزلت : وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى الآية .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها } قال : كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم نقب كوّة في ظهر بيته فجعل سلما فجعل يدخل منها . قال : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ومعه رجل من المشركين ، قال : فأتى الباب ليدخل ، فدخل منه . قال : فانطلق الرجل ليدخل من الكوّة . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما شأنكَ ؟ » فقال : أني أحمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأنا أحْمَسُ » .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء يتحرّجون من ذلك ، وكان الرجل يخرج مُهلاّ بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فُتخرج إليه من بيته . حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلّ زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة ، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي أحْمَسُ » .

قال الزهري : وكان الحمس لا يبالون ذلك . فقال الأنصاري : وأنا أحمس ، يقول : وأنا على دينك . فأنزل الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . }

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ }الآية كلها . قال قتادة : كان هذا الحيّ من الأنصار في الجاهلية إذا أهلّ أحدهم بحجّ أو عمرة لا يدخل دارا من بابها إلا أن يتسوّر حائطا تسوّرا ، وأسلموا وهم كذلك . فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك ما تسمعون ، ونهاهم عن صنيعهم ذلك ، وأخبرهم أنه ليس من البرّ صنيعهم ذلك ، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها ، } فإن ناسا من العرب كانوا إذا حجوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها كانوا ينقبون في أدبارها ، فلما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم . فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم باب البيت احتبس الرجل خلفه وأبى أن يدخل قال : يا رسول الله إني أحمس يقول : إني محرم وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون الحُمْس . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأنا أيْضا أحْمَسُ فادْخُلْ » فدخل الرجل ، فأنزل الله تعالى ذكره : وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها . } وإن رجالاً من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدهم من عدوّه شيئا أحرم فأمن ، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته واتخذ نقبا من ظهر بيته . فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان بها رجل محرم كذلك ، وإن أهل المدينة كانوا يسمون البستان : الحُشّ . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بستانا ، فدخله من بابه ، ودخل معه ذلك المحرم ، فناداه رجل من ورائه : يا فلان إنك محرم وقد دخلت فقال : «أَنا أحْمَسُ » ، فقال : يا رسول الله إن كنتَ محرما فأنا محرم ، وإن كنتَ أحمس فأنا أحمس . فأنزل الله تعالى ذكره{ : وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها } إلى آخر الآية . فأحلّ الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيّع قوله : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها }قال : كان أهل المدينة وغيرهم إذا أحرموا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها ، وذلك أن يتسوروها ، فكان إذا أحرم أحدهم لا يدخل البيت إلا أن يتسوّره من قبل ظهره . وإن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم بيتا لبعض الأنصار ، فدخل رجل على أثره ممن قد أحرم ، فأنكروا ذلك عليه ، وقالوا : هذا رجل فاجر فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لِمَ دَخَلْتَ مِنَ البابِ وَقَدْ أحْرَمْتَ ؟ » فقال : رأيتك يا رسول الله دخلت فدخلت على أثرك . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي أحْمَسُ » وقريش يومئذ تدعى الحمس فلما أن قال ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم قال الأنصاريّ : إن ديني دينك . فأنزل الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . . } . الآية .

حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قلت لعطاء قوله : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها } قال : كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرونه برّا ، فقال «البرّ » ، ثم نعت البرّ ، وأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها .

قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : كانت هذه الآية في الأنصار يأتون البيوت من ظهورها يتبررون بذلك .

فتأويل الآية إذا : وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها ، ولكن البرّ من اتقى الله فخافه ، وتجنب محارمه ، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها ، فأما إتيان البيوت من ظهورها فلا برّ لله فيه ، فأتوها من حيث شئتم من أبوابها وغير أبوابها ، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال ، فإن ذلك غير جائز لكم اعتقاده ، لأنه مما لم أحرّمه عليكم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون . }

يعني تعالى ذكره بذلك : واتقوا الله أيها الناس فاحذروه وارهبوه بطاعته فيما أمركم من فرائضه واجتناب ما نهاكم عنه لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه ، وتدركوا به البقاء في جناته والخلود في نعيمه . وقد بينا معنى الفلاح فيما مضى قبل بما يدلّ عليه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يسألونك عن الأهلة } سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم فقالا : ( ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ، ثم يزيد حتى يستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا ) { قل هي مواقيت للناس والحج } فإنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره ، فأمره الله أن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون معالم للناس يؤقتون بها أمورهم ، ومعالم للعبادات المؤقتة يعرف بها أوقاتها . وخصوصا الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء . والمواقيت : جمع ميقات ، من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان : أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها . والزمان : مدة مقسومة ، والوقت : الزمان المفروض لأمر . { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } وقرأ أبو عمرو وورش وحفص بضم الباء ، والباقون بالكسر . { ولكن البر من اتقى } وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف { ولكن } ورفع { البر } . كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا دارا ولا فسطاطا من بابه ، وإنما يدخلوا من نقب أو فرجة وراءه ، ويعدون ذلك برا ، فبين لهم أنه ليس ببر وإنما البر من اتقى المحارم والشهوات ، ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين . أو أنه لما ذكر أنها مواقيت الحج وهذا أيضا من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد ، أو أنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم النبوة ، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها ، أو أن المراد به التنبيه على تعكيسهم في السؤال بتمثيل حالهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه . والمعنى : وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله . { وأتوا البيوت من أبوابها } إذ ليس في العدول بر فباشروا الأمور من وجوهها . { واتقوا الله } في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله . { لعلكم تفلحون } لكي تظفروا بالهدى والبر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }( 189 )

وقوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } الآية ، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم : نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ؟ ، وجمع { الأهلّة } وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالاً في الآخر ، فإنما جمع أحواله( {[1763]} ) من الهلالية( {[1764]} ) ، والهلال ليلتان بلا خلاف ثم يقمر( {[1765]} ) ، وقيل ثلاث .

وقال الأصمعي : هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق( {[1766]} ) ، وقيل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع .

وقوله : { مواقيت } معناه لمحل( {[1767]} ) الديون وانقضاء العدد والأكرية وما أشبه هذا من مصالح العباد( {[1768]} ) ، ومواقيت الحج أيضاً يعرف بها وقته وأشهره ، و { مواقيت } لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الآحاد ، فهو جمع ونهاية إذ ليس يجمع ، وقرأ ابن أبي إسحاق «والحِج » بكسر الحاء في جميع القرآن ، وفي قوله «حج البيت » في آل عمران .

قال سيبويه : الحج كالرد والشد ، والحج كالذكر ، فهما مصدران بمعنى ، وقيل : الفتح مصدر والكسر الاسم .

وقوله تعالى : { وليس البر } الآية( {[1769]} ) ، قال البراء بن عازب والزهري وقتادة : سببها أن الأنصار كانوا إذا حجوا أو اعتمروا يلتزمون تشرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدرات ، وقيل : كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فتوحاً يدخلون منها ولا يدخلون من الأبواب ، وقيل غير هذا مما يشبهه فاختصرته ، فجاء رجل منهم فدخل من باب بيته فعيّر بذلك ، فنزلت الآية فيه( {[1770]} ) .

وقال إبراهيم : «كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز » .

وقال السدي : ناس من العرب ، وهم الذين يسمون الحمس ، قال : فدخل النبي صلى الله عليه وسلم باباً ومعه رجل منهم ، فوقف ذلك الرجل( {[1771]} ) وقال إني أحمس ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أحمس ، ونزلت الآية .

وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وخلفه رجل أنصاري فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم دخلت وأنت قد أحرمت ؟ ، قال : دخلت أنت فدخلت بدخولك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إني أحمس ، أي من قوم لا يدينون بذلك ، فقال الرجل : وأنا ديني دينك ، فنزلت الآية .

قال أبو عبيدة( {[1772]} ) : الآية ضرب مثل ، المعنى : ليس البر أن تسألوا الجهَّال ولكن اتقوا واسألوا العلماء ، فهذا كما يقال أتيت هذا الأمر من بابه .

وقال غير أبي عبيدة : «المعنى ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلّة وغيرها فتأتون الأمور على غير ما يجب »( {[1773]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتمل والأول أسدُّ( {[1774]} ) ، وأما ما حكاه المهدوي ومكي عن ابن الأنباري من أن الآية مثل في جماع النساء( {[1775]} ) فبعيد مغير نمط الكلام ، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي ونافع بخلاف عنه «البِيوت » بكسر الباء ، وقرأ بعض القراء «ولكنَّ البرَّ » بتشديد نون «لكنَّ » ونصب «البرَّ » ، وقد تقدم القول على { من } في قوله { من آمن بالله } [ البقرة : 177 ] { واتقوا } معناه اجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية ، و { لعلكم } ترجٍّ في حق البشر ، والفلاح درك البغية .


[1763]:- يعني أن جمعه باعتبار أحواله واختلاف زمانه تنزيلا لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات.
[1764]:- أي من صفاته الهلالية في كل شهر، أو في كل ليلة.
[1765]:- اختلف في تسميته هلالا بعد ليلتين، فقيل: يسمى هلالا ثلاث ليال، وبعدها يسمى قمراً وقيل يسمى هلالا إلى سبع ليال ثم يكون قمراً.
[1766]:- تفسير لما قبله.
[1767]:- المحِلّ (بكسر الحاء) أجل الدين.
[1768]:- أشار بهذا إلى قوله تعالى: (للناس) على حذف مضاف، أي: لمصالحهم ومقاصدهم، فالحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف تشكلاتها ما يتعلق بها من مصالح الدنيا والدين – وفي الآية دلالة على أن الصوم لا يثبت بالعدد، بل بالهلال لأنه سبحانه نص على أن الأهلة هي المعتبرة في المواقيت، ولذلك اختلف حالها عن حال الشمس. تنبيه: السؤال كان عن السبب في التشكلات والتغيّرات النورية حيث قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان ولا يكون على حال واحدة؟ ولما كان ذلك مبنيا على أمور عقلية خفية تدرك من علم الفلك والهيئة. والشريعة إنما جاءت لتعلم الناس ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم لا لتعلم علوم الفلك والطبيعة أجابهم إلى ما هو خير من طلبهم، ونبههم إلى أن السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم، ولو كان ما طلبوه مما يقصد شرعا لأجابهم إليه، وهذا الجواب يسمى عند علماء البيان بالأسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب، والمخاطب بغير ما يترقب رعاية لمصلحته، وتحقيقا لما يتوقف عليه في حياته. ونص القزويني في تلخيص المفتاح في هذا الموضوع: «ومن خلاف المقتضى تلقي (المخاطب) بغير ما يترقب، بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد كقول القبعثري للحجاج – وقد قال له متوعدا – لأحملنك على الأدهم: (مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب). أي من كان مثل الأمير في السلطان وبسطة اليد، فجدير بأن يصفُد لا أن يُصْفَد – أو السامع بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيهاً على أنه الأولى بحاله أو المهم له. كقوله تعالى: [يسألونك عن الأهلة قل: هي مواقيت للناس والحج]. قال سعد الدين التفتازاني رحمه الله بعد ذكر سبب الآية ما نصه: والأليق بحالهم أن يسألوا عن ذلك، أي عن الغرض والحكمة، لأنهم ليسوا ممن يطلعون بسهولة على دقائق علم الهيئة، ولا يتعلق لهم به غرض» ا. هـ. وهذه كلمة نابية في حق الصحابة رضوان الله عليهم، كيف وهم قادرون على إدراك ذلك وأكثر منه لفرط ذكائهم وسلامة فطرتهم وصفاء سريرتهم – فقد قال الإمام القرافي رحمه الله في كتاب الفروق: «أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بحاراً في العلوم على اختلاف أنواعها من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسيات والعلوم الباطنة والظاهرة، حتى يروى أن عليا رضي الله عنه جلس عند ابن عباس في الباء من (بسم الله) من العشاء إلى أن طلع الفجر، مع أنهم لم يدرسوا ورقة ولا قرؤوا كتاباً، ولا تفرغوا من الجهاد وقتال الأعداء، ومع ذلك كانوا على هذه الحالة حتى قال بعض الأصوليين: لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته» ا. هـ. وقال أيضا: من نوادر المسائل الفقهية التي يدخل فيها الحساب المسألة المحكية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أن رجلين كان لأحدهما خمسة أرغفة وللآخر ثلاثة أرغفة، فجلسا يأكلان فأكل معهما ثالث ثم بعد الفراغ من الأكل دفع لهما ثمانية دراهم وقال: اقسما هذه الدراهم – على قدر ما أكلته – لكما. فقال صاحب الثلاثة: إنه أكل نصف أكله من أرغفتي ونصف أكله من أرغفتك فأعطني النصف من الدراهم، فقال له الآخر: لا أعطيك إلا ثلاثة دراهم لأن لي خمسة أرغفة، ولك ثلاثة أرغفة فآخذ خمسة دراهم، وتأخذ ثلاثة دراهم، فحلف صاحب الثلاثة لا يأخذ إلا ما حكم به الشرع فترافعا إلى علي رضي الله عنه فحكم لصاحب الثلاثة بدرهم واحد، ولصاحب الخمسة بسبعة دراهم فشكا من ذلك صاحب الثلاثة، فقال له علي رضي الله عنه: الأرغفة ثمانية، وأنتم ثلاثة، أكل كل واحد منكم ثلاثة أرغفة إلا ثلثا بقي لك ثلث من أرغفتك أكله صاحب الدراهم، وأكل صاحبك من أرغفته ثلاثة إلا ثلثا وهي خمسة يبقى له رغيفان وثلث، وذلك سبعة أثلاث أكلها صاحب الدراهم فأكل لك ثلثا، وأكل له سبعة أثلاث، فلك درهم وله سبعة دراهم. فهذه مسألة من دقيق الحساب أدركها رضي الله عنه بمجرد الالتفات إليها، وكم له رضي الله عنه من جواب خاص في مسائل من الفرائض والمساحات كمسألة حفر البئر المشهورة. ومن هنا كان من الواجب طلب العلوم والاطلاع عليها، فإن كثيرا من مسائل الحياة لا تعلم إلا بالعمليات الحسابية والهندسية الدقيقة. والله أعلم.
[1769]:- لما ذكر الله سبحانه وقت الإحرام الذي هو من فوائد الأهلة بقوله: [يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج] استطرد منه إلى ذكر ما كانوا يفعلونه في الحج بقوله: [وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها]، وهذا الاستطراد موجود في كتاب الله عز وجل، ومن ذلك قوله تعالى: [يا أيها النبي اتّق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما، واتّبع ما يوحى إليك من ربّك إن الله كان بما تعملون خبيرا، وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا] أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتقواه، واتباع ما أوحى إليه والتوكل عليه دون غيره، ثم اتبع ذلك بقوله: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)، ويعني أن الإنسان ليس له إلا قلب واحد، وأن القلب ليس له إلا وجهة واحدة، فإن لم يتجه إلى تقوى ربه، واتباع وحيه، والتوكل عليه، ولم يفرد ربه بذلك، انصرف عنه إلى غيره، ثم استطرد من ذلك أن الله لم يجعل زوج الرجل أمه، ولم يجعل دعيَّه ابنه، وهذا من الوحي الذي يجب اتباعه ظاهرا والإيمان به باطنا، فانظر ما أحلى هذا الاستطراد وما أحسنه.
[1770]:- روى البخاري، وغيره، عن أبي اسحق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عُيِّر بذلك فنزلت: [وليس البر] الآية، وجاء في بعض الروايات تعيين الرجل وأنه قطبة بن عامر الأنصاري.
[1771]:- أي لم يدخل الباب لأنه من الحمس، وهذا على ما قاله السدي. وهناك قول آخر وهو أنهم لا يدينون بهذا الدين، وهو ترك الدخول من باب البيت كما يأتي عند ابن عطية في قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاري: (إني أحمس)، أي من قوم لا يدينون بذلك. ففي الحمس قولان – قيل: إنهم يفعلون ذلك، وقيل إنهم لا يدينون بذلك. وإنما سموا حمسا لتشددهم في دينهم، والحماسة الشدة، والحمس جمع أحمس وحمساء.
[1772]:- الآية حملت على معنى حقيقي ومعنى مجازي في إتيان البيوت من أبوابها، والمعنى الحقيقي هو ما شرح به ابن عطية أولا، ونقله عن البراء بن عازب، وقتادة، والزهري، والسدي، والربيع بن أنس، وقد أشار بقوله: «وقال أبو عبيدة» إلى حمل الآية على المعنى المجازي.
[1773]:- يعني أن إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح. وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح، وذلك أن الاستدلال بالعلوم على المظنون هو الطريق المستقيم، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلا الصواب، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة وذلك هو الطريق الصحيح، أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم فهو استدلال بالمجهول على المعلوم، فالمعنى أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق فقد أتيتم البيت من ظهره لا من بابه، وهذا غير ما يجب، فإن الواجب هو أن تستدلوا بالمعلوم على المجهول، لا بالمجهول على المعلوم. قال معناه (ح).
[1774]:- هو ما قاله أبو عبيدة: اطلبوا البر من أهله ووجهه، ولا تطلبوه من الجهلة المشركين فمن أتى البيت من بابه فقد أصاب، ومن أتاه من خلفه فقد أخطأ.
[1775]:- أي لا تأتوا النساء في أدبارهن بل في قبلهن.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

اعتراض بين شرائع الأحكام الراجعة إلى إصلاح النظام ، دعا إليه ما حدث من السؤال ، فقد روى الواحدي أنها نزلت بسبب أن أحد اليهود سأل أنصارياً عن الأهلة وأحوالها في الدقة إلى أن تصير بدراً ثم تتناقص حتى تختفي فسأل الأنصاري رسول الله فنزلت هذه الآية ، ويظهر أن نزولها متأخر عن نزول آيات فرض الصيام ببضع سنين ؛ لأن آية : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } متصلة بها . وسيأتي أن تلك الآية نزلت في عام الحديبية أو عام عمرة القضية . فمناسبة وضعها في هذا الموضع هي توقيت الصيام بحلول شهر رمضان ، فكان من المناسبة ذكر المواقيت لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه ، ومن كمال النظام ضبط الأوقات ، ويظهر أن هذه الآية أيضاً نزلت بعد أن شرع الحج أي بعد فتح مكة ، لقوله تعالى : { قل هي مواقيت للناس والحج } .

وابتدئت الآية ب { يسألونك } لأن هنالك سؤالاً واقعاً عن أمر الأهلة . وجميع الآيات التي افتتحت ب { يسألونك } هي متضمنة لأحكام وقع السؤال عنها فيكون موقعها في القرآن مع آيات تناسبها نزلت في وقتها أو قرنت بها . وروي أن الذي سأله عن ذلك معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة الأنصاري فقالا : ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يزيد حتى يمتلىء ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، قال العراقي لم أقف لهذا السبب على إسناد .

وجمع الضمير في قوله : { يسألونك } مع أن المروي أن الذي سأله رجلان نظراً لأن المسؤول عنه يهم جميع السامعين أثناء تشريع الأحكام ؛ ولأن من تمام ضبط النظام أن يكون المسؤول عنه قد شاع بين الناس واستشرف كثير منهم لمعرفته سواء في ذلك من سأل بالقول ومن سأل في نفسه .

وذكر فوائد خلق الأهلة في هذا المقام للإيماء إلى أن الله جعل للحج وقتاً من الأشهر لا يقبل التبديل وذلك تمهيداً لإبطال ما كان في الجاهلية من النسىء في أشهر الحج في بعض السنين .

والسؤال : طلب أحدٍ من آخر بذلَ شيء أو إخباراً بخبر ، فإذا كان طلب بذل عُدّي فعل السؤال بنفسه وإذا كان طلب إخبار عدي الفعل بحرف « عن » أو ما ينوب منابه .

وقد تكررت في هذه السورة آيات مفتتحة ب { يسألونك } وهي سبع آيات غير بعيد بعضها عن بعض ، جاء بعضها غير معطوف بحرف العطف وهي أربع وبعضها معطوفاً به وهي الثلاث الأواخر منها ، وأما غير المفتتحة بحرف العطف فلا حاجة إلى تبيين تجردها عن العاطف ؛ لأنها في استئناف أحكام لا مقارنة بينها وبين مضمون الجمل التي قبلها فكانت جديرة بالفصل دون عطف ، ولا يتطلب لها سوى المناسبة لمواقعها .

وأما الجمل الثلاث الأواخر المفتتحة بالعاطف فكل واحدة منها مشتملة على أحكام لها مزيد اتصال بمضمون ما قبلها فكان السؤال المحكي فيها مما شأنه أن ينشأ عن التي قبلها فكانت حقيقةً بالوصل بحرف العطف كما سيتضح في مواقعها .

والسؤال عن الأهلة لا يتعلق بذواتها إذ الذوات لا يسأل إلا عن أحوالها ، فيُعلم هنا تقدير وحذف أي عن أحوال الأهلة ، فعلى تقدير كون السؤال واقعاً بها غير مفروض فهو يحتمل السؤال عن الحكمة ويحتمل السؤال عن السبب ، فإن كان عن الحكمة فالجواب بقوله : { قل هي مواقيت للناس } جار على وفق السؤال ، وإلى هذا ذهب صاحب « الكشاف » ، ولعل المقصود من السؤال حينئذٍ استثبات كون المراد الشرعي منها موافقاً لما اصطلحوا عليه ؛ لأن كونها مواقيت ليس مما يخفى حتى يسأل عنه ، فإنه متعارف لهم ، فيتعين كون المراد من سؤالهم إن كان واقعاً هو تحقق الموافقة للمقصد الشرعي .

وإن كان السؤال عن السبب فالجواب بقوله : { قل هي مواقيت } غير مطابق للسؤال ، فيكون إخراجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بصرف السائل إلى غير ما يتطلب ، تنبيهاً على أن ما صرف إليه هو المهم له ، لأنهم في مبدأ تشريع جديد والمسؤول هو الرسول عليه الصلاة والسلام وكان المهم لهم أن يسألوه عما ينفعهم في صلاح دنياهم وأخراهم ، وهو معرفة كون الأهلة ترتبت عليها آجال المعاملات والعبادات كالحج والصيام والعدة ، ولذلك صرفهم عن بيان مسؤولهم إلى بيان فائدة أخرى ، لا سيما والرسول لم يجيء مبيناً لعلل اختلاف أحوال الأجرام السماوية ، والسائلون ليس لهم من أصول معرفة الهيئة ما يهيئهم إلى فهم ما أرادوا علمه بمجرد البيان اللفظي بل ذلك يستدعى تعليمهم مقدمات لذلك العلم ، على أنه لو تعرض صاحب الشريعة لبيانه لبين أشياء من حقائق العلم لم تكن معروفة عندهم ولا تقبلها عقولهم يومئذٍ ، ولكان ذلك ذريعة إلى طعن المشركين والمنافقين بتكذيبه ، فإنهم قد أسرعوا إلى التكذيب فيما لم يطلعوا على ظواهره كقولهم : { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة } [ سبأ : 7 ، 8 ] وقولهم : { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلاّ اختلاق } [ ص : 7 ] وعليه فيكون هذا الجواب بقوله : { هي مواقيت للناس والحج } تخريجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر كقول الشاعر . أنشده في « المفتاح » ولم ينسبه ولم أقف على قائله ولم أره في غيره :

أتت تشتكي منّي مزاولة القرى *** وقد رأت الأضياف يَنْحَوْن منزلـي

فقلت لها لمّا سمعت كلامهــا *** هم الضيف جِدِّي في قراهم وعجِّلي

وإلى هذا نحا صاحب « المفتاح » وكأنه بناه على أنهم لا يظن بهم السؤال عن الحكمة في خلق الأهلة لظهورها ، وعلى أن الوارد في قصة معاذ وثعلبة يشعر بأنهما سألا عن السبب إذ قالا : ما بال الهلال يبدو دقيقاً الخ .

والأهلة : جمع هلال وهو القمر في أول استقباله الشمس كل شهر قمري في الليلة الأولى والثانية ، قيل والثالثة ، ومن قال إلى سبع فإنما أراد المجاز ، لأنه يشبه الهلال ، ويطلق الهلال على القمر ليلة ست وعشرين وسبع وعشرين لأنه في قدر الهلال في أول الشهر ، وإنما سمي الهلال هلالاً لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم بالإخبار عنه ينادي بعضهم بعْضاً لذلك ، وإن هَلَّ وأهَلَّ بمعنى رفع صوته كما تقدم في قوله تعالى : { وما أهل به لغير الله } [ البقرة : 173 ] .

وقوله : { مواقيت للناس } أي مواقيت لما يُوقَّت من أعمالهم فاللام للعلة أي لفائدة الناس وهو على تقدير مضاف أي لأعمال الناس ، ولم تذكر الأعمال الموقَّتة بالأهلة ليشمل الكلام كل عمل محتاج إلى التوقيت ، وعطف الحج على الناس مع اعتبار المضاف المحذوف من عطف الخاص على العام للاهتمام به واحتياج الحج للتوقيت ضروري ؛ إذ لو لم يوقّت لجاء الناس للحج متخالفين فلم يحصل المقصود من اجتماعهم ولم يجدوا ما يحتاجون إليه في أسفارهم وحلولهم بمكة وأسواقها ؛ بخلاف الصلاة فليست موقتة بالأهلة ، وبخلاف الصوم فإن توقيته بالهلال تكميلي له ؛ لأنه عبادة مقصورة على الذات فلو جاء بها المنفرد لحصل المقصد الشرعي ولكن شُرع فيه توحيد الوقت ليكون أخف على المكلفين ، فإن الصعب يخف بالاجتماع وليكون حالهم في تلك المدة متماثلاً فلا يشق أحد على آخر في اختلاف أوقات الأكل والنوم ونحوهما .

والمواقيت جمع ميقات والميقات جاء بوزن اسم الآلة من وقَّت وسمى العرب به الوقت ، وكذلك سُمي الشهر شهراً مشتقاً من الشهرة ، لأن الذي يرى هلال الشهر يشهره لدى الناس . وسمى العرب الوقت المعيَّن ميقاتاً كأنه مبالغة وإلاّ فهو الوقت عينه . وقيل : الميقات أخص من الوقت ، لأنه وقت قُدّر فيه عمل من الأعمال ، قلت : فعليه يكون صوغه بصيغة اسم الآلة اعتباراً بأن ذلك العمل المعيَّن يكون وسيلة لتحديد الوقت فكأنه آلة للضبط والاقتصار على الحج دون العمرة لأن العمرة لا وقت لها فلا تكون للأهلة فائدة في فعلها .

ومجيء ذكر الحج في هاته الآية ، وهي من أول ما نزل بالمدينة ، ولم يكن المسلمون يستطيعون الحج حينئذٍ لأن المشركين يمنعونهم إشارة إلى أن وجوب الحج ثابت ولكن المشركين حالوا دون المسلمين ودونه{[177]} . وسيأتي عند قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } في [ سورة آل عمران : 97 ] وعند قوله : { الحج أشهر معلومات } [ البقرة : 197 ] في هذه السورة .

معطوفة على { يسألونك } وليست معطوفة على جملة { هي مواقيت } لأنّه لم يكن مما سألوا عنه حتى يكون مقولاً للمجيب . ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها أن سبب نزولها كان موالياً أو مقارناً لسبب نزول الآية التي قبلها وأن مضمون كلتا الجملتين كان مثار تردد وإشكال عليهم من شأنه أن يسأل عنه ، فكانوا إذا أحرموا بالحج أو العمرة من بلادهم جعلوا من أحكام الإحرام ألا يدخل المحرم بيته من بابه أو لا يدخل تحت سقف يحول بينه وبين السماء ، وكان المحرمون إذا أرادوا أخذ شيء من بيوتهم تسنَّموا على ظهور البيوت أو اتخذوا نقباً في ظهور البيوت إن كانوا من أهل المدر ، وإن كانوا من أهل الخيام دخلوا من خلف الخيمة ، وكان الأنصار يدينون بذلك ، وأما الحُمس فلم يكونوا يفعلون هذا ، والحمس جمع أحمس والأحمس المتشدد بأمر الدين لا يخالفه ، وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجُشم وبنو نصر ابن معاوية ومدلج وعَدوان وعَضْل وبنو الحارث بن عبد مناة ، وبنو عامر بن صعصعة وكلهم من سكان مكة وحرمها ما عدا بني عامر بن صعصعة فإنهم تحمسوا لأن أمهم قرشية .

ومعنى نفي البر عن هذا نفي أن يكون مشروعاً أو من الحنيفية ، وإنما لم يكن مشروعاً لأنه غلو في أفعال الحج ، فإن الحج وإن اشتمل على أفعال راجعة إلى ترك الترفه عن البدن كترك المخيط وترك تغطية الرأس إلاّ أنه لم يكن المقصد من تشريعه إعنات الناس بل إظهار التجرد وترك الترفه ، ولهذا لم يكن الحمس يفعلون ، ذلك لأنهم أقرب إلى دين إبراهيم ، فالنفي في قوله : { وليس البر } نفي جنس البر عن هذا الفعل بخلاف قوله المتقدم { ليس البر أن تولوا وجوهكم } [ البقرة : 177 ] والقرينة هنا هي قوله : { وأتوا البيوت من أبوابها } ولم يقل هنالك : واستقبلوا أية جهة شئتم ، والمقصود من الآيتين إظهار البر العظيم وهو ما ذكر بعد حرف الاستدراك في الآيتين بقطع النظر عما نفي عنه البر ، وهذا هو مناط الشبه والافتراق بين الآيتين .

روى الواحدي في « أسباب النزول » أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ عام الحديبية من المدينة وأنه دخل بيتاً وأن أحداً من الأنصار ، قيل : اسمه قطبة بن عامر وقيل : رفاعة بن تابوت . كان دخل ذلك البيت من بابه اقتداء برسول الله فقاله له النبي صلى الله عليه وسلم لم دخلت وأنْتَ قد أحرمت ؟ فقال له الأنصاري : دخلت أنت فدخلت بدخولك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إني أحمس فقال له الأنصاري : وأنا ديني دينك رضيت بهديك فنزلت الآية ، فظاهر هذه الروايات أن الرسول نهى غير الحُمس عن ترك ما كانوا يفعلونه حتى نزلت الآية في إبطاله ، وفي « تفسير ابن جرير وابن عطية » عن السدي ما يخالف ذلك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل باباً وهو محرم وكان معه رجل من أهل الحجاز فوقف الرجل وقال : إني أحمس فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : وأنا أحمس فنزلت الآية ، فهذه الرواية تقتضي أن النبي أعلن إبطال دخول البيوت من ظهورها .

وأن الحمس هم الذين كانوا يدخلون البيوت من ظهورها ، وأقول : الصحيح من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال : كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل فدخل من بابه فكأنَّه عبّر بذلك هذه الآية ، ورواية السدي وهَم ، وليس في الصحيح ما يقتضي أن رسول الله أمر بذلك ولا يظن أن يكون ذلك منه ، وسياق الآية ينافيه .

وقوله : { ولكن البر من اتقى } القول فيه كالقول في قوله تعالى : { ولكن البر من ءامن بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] .

و { اتقى } فعل منزل منزلة اللازم ؛ لأن المراد به من اتصف بالتقوى الشرعية بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات .

وُجر { بأن تأتوا } بالباء الزائدة لتأكيد النفي بلَيْس ، ومقتضى تأكيد النفي أنهم كانوا يظنون أن هذا المنفي من البر ظناً قوياً فلذلك كانَ مقتضى حالهم أن يؤكَّد نفيُ هذا الظن .

وقوله : { وأتوا البيوت من أبوابها } معطوف على جملة { وليس البر } عطف الإنشاء على الخبر الذي هو في معنى الإنشاء ؛ لأن قوله : { ليس البر } في معنى النهي عن ذلك فكان كعطف أمر على نهي .

وهذه الآية يتعين أن تكون نزلت في سنة خمس حين أزمع النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إلى العمرة في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة والظاهر أن رسول الله نوى أن يحج بالمسلمين إن لم يصده المشركون ، فيحتمل أنها نزلت في ذي القعدة أو قبله بقليل .

وقرأ الجمهور « البيوت » في الموضعين في الآية بكسر الباء على خلاف صيغة جمع فَعْل على فُعول فهي كسرةٌ لمناسبة وقوع الياء التحتية بعد حركة الضم للتخفيف كما قرأوا { عيون } [ الحجر : 45 ] . وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء على أصل صيغة الجمع مع عدم الاعتداد ببعض الثقل ؛ لأنه لا يبلغ مبلغ الثقل الموجب لتغيير الحركة ، قال ابن العربي في « العواصم » : والذي أَختاره لنفسي إذا قرأتُ أكسر الحروف المنسوبة إلى قالون إلاّ الهمزة فإني أتركه أصلاً إلاّ فيما يحيل المعنى أو يلبسه ولا أكسر باء بيوت ولا عَين عيون ، وأطال بما في بعضه نظر ، وهذا اختيار لنفسه بترجيح بعض القراءات المشهورة على بعض .

وقد تقدم خلاف القراء في نصب { البر } من قوله : { ليس البر } [ البقرة : 177 ] وفي تشديد نون { لكن } من قوله : { ولكن البر } .

وقوله { واتقوا الله لعلكم تفلحون } أي تظفَرون بمطلبكم من البر : فإن البر في اتباع الشرع فلا تفعلوا شيئاً إلا إذا كان فيه مرضاة الله ولا تتبعوا خطوات المبتدعين الذين زادوا في الحج ما ليس من شرع إبراهيم .

وقد قيل في تفسير الآية وجوه واحتمالات أخرى كلها بعيدة : فقيل إن قوله { وليس البر } مثل ضربه الله لما كانوا يأتونه من النسيء قاله أبو مسلم وفيه بعد حقيقة ومجازاً ومعنى ؛ لأن الآيات خطاب للمسلمين وهم الذين سألوا عن الأهلة ، والنسيء من أحوال أهل الجاهلية ، ولأنه يئول إلى استعارة غير رشيقة ، وقيل : مثل ضرب لسؤالهم عن الأهلة من لا يعلم وأمرهم بتفويض العلم إلى الله وهو بعيد جداً لحصول الجواب من قبل ، وقيل : كانوا ينذرون إذا تعسر عليهم مطلوبهم ألاّ يدخلوا بيوتهم من أبوابها فنهوا عن ذلك وهذا بعيدٌ معنى ، لأن الكلام مع المسلمين وهم لا يفعلون ذلك ، وسَنَداً ، إذ لم يروِ أحد أن هذا سبب النزول .


[177]:فيه نظر, إذ الأظهر أن هذه الآية نزلت بعد فرض الحج كما قدمنا قريبا.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{يسألونك عن الأهلة}: نزلت في معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنمة، وهما من الأنصار، فقال معاذ: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ فيستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، فأنزل الله عز وجل: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس}:في أجل دينهم، وصومهم، وفطرهم، وعدة نسائهم، والشروط التي بينهم إلى أجل.

ثم قال عز وجل: {والحج}: وقت حجهم والأهلة مواقيت لهم. وذلك قوله سبحانه: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها}؛ وذلك أن الأنصار في الجاهلية وفي الإسلام كانوا إذا أحرم أحدهم بالحج أو بالعمرة، وهو من أهل المدن، وهو مقيم في أهله لم يدخل منزله من باب الدار، ولكن يوضع له سلم إلى ظهر البيت فيصعد فيه، وينحدر منه، أو يتسور من الجدار، وينقب بعض بيوته، فيدخل منه ويخرج منه، فلا يزال كذلك حتى يتوجه إلى مكة محرما، وإذا كان من أهل الوبر دخل وخرج من وراء بيته.

وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوما نخلا لبني النجار، ودخل معه قطبة بن عامر الأنصاري من قبل الجدار، وهو محرم، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الباب وهو محرم، خرج قطبه من الباب، فقال رجل: هذا قطبة خرج من الباب وهو محرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما حملك أن تخرج من الباب وأنت محرم؟"، قال: يا نبي ا الله، رأيتك خرجت من الباب وأنت محرم، فخرجت معك، وديني دينك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خرجت لأني من أحمس"، فقال قطبة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت أحمسيا فإني أحمسي، وقد رضيت بهديك ودينك فاستننت بسنتك، فأنزل الله في قول قطبة بن عامر للنبي صلى الله عليه وسلم: {وليس البر}، يعني التقوى، {بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى} الله واتبع أمره. ثم قال عز وجل: {وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله}: ولا تعصوه، يحذركم {لعلكم}: لكي {تفلحون}، والحمس قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، الذين لا يسلون السمن ولا يأكلون الأقط ولا يبنون الشعر والوبر.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية جوابا لهم فيما سألوا عنه عن قتادة قوله:"يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسَ" قال: سألوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: لم جعلت هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون: "هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ"؛ فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم ولعدّة نسائهم ومحلّ دَينهم في أشياء، والله أعلم بما يصلح خلقه...

فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنه قوله في ذلك: يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرارها وتمامها واستوائها وتغير أحوالها بزيادة ونقصان ومحاق واستسرار، وما المعنى الذي خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان، فقل يا محمد خالف بين ذلك ربكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه، مواقيت لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقها واستسرارها وإهلالكم إياها أوقات حل ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه، وتصرّم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها مواقيت للناس.

"وَالحَجّ": وللحج، يقول: وجعلها أيضا ميقاتا لحجكم تعرفون بها وقت مناسككم وحجكم.

{وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون}.

قيل: نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون إذا أحرموا بيوتهم من قبل أبوابها... عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: كانت الأنصار إذا حجوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها. قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية: {وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها.}

فتأويل الآية إذا: وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها، ولكن البرّ من اتقى الله فخافه، وتجنب محارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها، فأما إتيان البيوت من ظهورها فلا برّ لله فيه، فأتوها من حيث شئتم من أبوابها وغير أبوابها، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال، فإن ذلك غير جائز لكم اعتقاده، لأنه مما لم أحرّمه عليكم.

{وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون.}: واتقوا الله أيها الناس فاحذروه وارهبوه بطاعته فيما أمركم من فرائضه واجتناب ما نهاكم عنه لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه، وتدركوا به البقاء في جناته والخلود في نعيمه. وقد بينا معنى الفلاح فيما مضى قبل بما يدلّ عليه.

تفسير ابن خويزمنداد 390 هـ :

{وَلَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَن تَاتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس برا وقربة أن ينظر في ذلك العمل؛ فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة، قال وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هو أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروه فليتكلم وليستظلّ وليقعد وليتم صومه). فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته، وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن)...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وَلَيْسَ الْبِّرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} فيه ستة أقاويل:...

والرابع: أن الرجل كان إذا خرج لحاجته، فعاد ولم ينجح لم يدخل من بابه، ودخل من ورائه، تطيراً من الخيبة، فأمرهم الله أن يأتوا بيوتهم من أبوابها.

والخامس: معناه ليس البر أن تطلبوا الخير من غير أهله، وتأتوه من غير بابه، وهذا قول أبي عبيدة.

والقول السادس: أنه مثلٌ ضَربه الله عز وجل لهم، بأن يأتوا البر من وجهه، ولا يأتوه من غير وجهه...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَلَيْسَ البِرُّ بِأَن تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا واتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: ليس البر مراعاة الأمور الظاهرة، بل البر تصفية السرائر وتنقية الضمائر...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{و لَّيْسَ البر} بتحرّجكم من دخول الباب {ولكن البر} برّ {مَنِ اتقى} ما حرّم الله.

فإن قلت: ما وجه اتصاله بما قبله؟ قلت: كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها معلوم -: أنّ كل ما يفعله الله عزّ وجلّ لا يكون إلا حكمة بالغة ومصلحة لعباده، فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البرّ في شيء وأنتم تحسبونها برّاً. ويجوز أن يجري ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج، لأنه كان من أفعالهم في الحج. ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره. والمعنى: ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البرّ برّ من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله. ثم قال: {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها} أي وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا. والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب، من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه؛ لما في السؤال من الاتهام بمقارفة الشك {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 21].

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

...

...

...

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْحَجِّ}. مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَجِّ آخِرًا مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ؟ وَهِيَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحُجُّ بِالْعَدَدِ وَتُبَدِّلُ الشُّهُورَ؛ فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِعْلَهُمْ وَقَوْلَهُمْ، وَجَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالرُّؤْيَةِ.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

قوله تعالى:"قل هي مواقيت للناس والحج" تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه، وهو زوال الإشكال في الآجال والمعاملات والإيمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والأكرية، إلى غير ذلك من مصالح العباد.

ونظيره قوله الحق: "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب "[الإسراء: 12] وقوله: "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب" [يونس: 5]. وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أتم سبحانه وتعالى البيان لما أراده مما شرعه في شهر الصوم ليلاً ونهاراً وبعض ما تبع ذلك وكان كثير من الأحكام يدور على الهلال لا سيما أحد قواعد الإسلام الحج الذي هو أخو الصوم، وكانت الأهلة كالحكام توجب أشياء وتنفي غيرها كالصيام والديون والزكوات وتؤكل بها الأموال حقاً أو باطلاً، وكان ذكر الشهر وإكمال العدة قد حرك العزم للسؤال عنه بين ذلك بقوله تعالى: {يسئلونك}... وهذه الآية كالجامعة الموطئة لما ذكر بعدها من أمر توقيت القتال الذي كانوا عليه كما كان من أمر الجاهلية حكم التحرج من القتال في الأشهر الحرم والتساهل فيه في أشهر الحل مع كونه عدوى بغير حكم حق فكان فيه عمل بالفساد وسفك الدماء... فمحا سبحانه ما أصلوه من ذلك بما شرعه من أمر القتال لكونه جهاداً...

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب، أعني قوله: {قُلْ هِي مَوَاقِيتُ} من الأسلوب الحكيم، وهو: تلقي المخاطب بغير ما يترقب، تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها، ونقصانها، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة، والنقصان لأجلها لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل وأحق بأن يتطلع لعلمه...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ذكر الله تعالى حكم الأموال عقب ذكر أحكام الصيام لما تقدم من المناسبة، والصيام عبادة موقوتة لا يتعدى فرضها شهر رمضان، والأموال وسيلة لعبادة الحج وهو يكون في الأشهر الحرم، ولعبادة القتال مدافعة عن الملة والأمة، وهي قد كانت ممنوعة في هذه الأشهر، فناسب أن يعقب بعد أحكام الصيام والأموال بذكر ما يشرع في الأشهر الحرم من الحج ومن القتال عند الاعتداء على المسلمين، ويبدأ ذلك بذكر حكمة اختلاف الأهلة.

قال {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} أي مواقيت لهم في صيامهم وحجهم من العبادات، وفي نحو عدة النساء وآجال العقود من المعاملات، فإن التوقيت بها يسهل على العالم بالحساب والجاهل به، وعلى أهل البدو والحضر، فهي مواقيت لجمع الناس وأما السنة الشمسية فإن شهورها تعرف بالحساب فهي لا تصلح إلا للحاسبين، ولم يقدروا على ضبطها إلا بعد ارتقاء العلوم الرياضية بزمن طويل. وقد ورد في أسباب نزول الآية أن بعضهم سأل النبي عن الأهلة مطلقا وأن بعضهم سأل لم خلقت؟ والروايتان عند ابن أبي حاتم. وأخرج أبو نعيم وابن عساكر من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنيمة قالا يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت.

وقد اشتهر هذا السبب لأن علماء البلاغة يذكرونه في مطابقة الجواب للسؤال وعدمها، وزعموا أن مراد السائلين بيان السبب الطبيعي لهذا الاختلاف، وأن الجواب إنما جاء ببيان الحكمة دون بيان العلة لأنه موضوع الدين، جاريا على ما يسمى في البلاغة أسلوب الحكيم أو الأسلوب الحكيم.

قال الأستاذ الإمام: كأنه قال كان عليكم أن تسألوا عن الحكمة والفائدة في اختلاف الأهلة إن لم تكونوا تعرفونها، وإلا فعليكم الاكتفاء بها وعدم مطالبة الشارع بما ليس من الشرع. ففي الكلام تعريض بأن سؤالهم في غير محله، ولو توجه هذا السؤال ممن يتعلم علم الفلك إلى أستاذه فيه لما عد قبيحا ولا قيل إنه في غير محله، ولكنه موجه من أمي، إلى نبي لا إلى فلكي، فهو قبيح من هذا الوجه لا لذاته، وإلا لكان النظر في السموات والأرض لأجل الوقوف على أسرار الخليقة وأسباب ما فيها من الآيات والعبر مذموما، وكيف يذم وقد أرشدنا الله تعالى إليه، وحثنا في كتابه عليه: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من الفروج} (ق: 6) والآيات في هذا المعنى كثيرة.

وأقول: إن الرواية عن ابن عباس ضعيفة، بل قالوا إن رواية الكلبي عن أبي صالح هي أوهى الطرق عنه. على أن السؤال غير صريح في طلب بيان العلة، وحمله على طلب الحكمة والفائدة ولو مع العلة غير بعيد، فالمختار أن الجواب مطابق للسؤال وقد بين الأستاذ الإمام بمناسبة القول المشهور في السؤال وأنه عن العلة ما بعث الأنبياء لبيانه فهم يسألون عنه وما ليس كذلك فقال ما مثاله:

العلوم التي نحتاج إليها في حياتنا على أقسام: منها ما لا نحتاج فيه إلى أستاذ كالمحسوسات والوجدانات فهذا هو القسم الأول.

ومنها ما لا نجد له أستاذا لأنه مما لا مطمع للبشر في الوصول إليه البتة وهو كيفية التكوين والإيجاد الأول المعبر عنه بسر القدر يمكن للنباتي أن يعرف ما يتكون منه النبات وكيف ينبت وينمو ويتغذى. وللطبيب أن يعرف كيفية تولد الحيوان والأطوار التي يتدرج فيها منذ يكون نطفة إلى أن يكون إنسانا مستقلا عاقلا، ولكن لا يعرف نباتي ولا طبيب كيف وجدت أنواع النبات وأنواع الحيوان أو مادتهما لأول مرة، ولا كيف وجد غيرهما من المخلوقات، ومن هنا تعلمون أن العلاقة بين الخالق والمخلوق من هذه الجهة جهة الإيجاد والخلق لا يمكن اكتناهها. وكذلك لا يمكن اكتناه ذات الله تعالى وصفاته. وهذا هو القسم الثاني.

ومنها ما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصناعية والهيئة الفلكية، ومنها أسباب أطوار الهلال، وتنقله من حال إلى حال، أي المعبر عنه بقوله تعالى: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} (يس: 39) وهذا هو القسم الثالث.

القسم الرابع: ما يجب علينا للخالق العظيم الذي أودع في فطرنا الشعور بسلطانه وهدى عقولنا إلى الإيمان به بما نراه من آياته في الآفاق وفي أنفسنا. فإن هذا الشعور وهذه الهداية مبهمان لا سبيل لنا إلى تحديدهما من حيث ما يجب اعتقاده في الله تعالى وفي حكمة خلقنا ومراده منا وما يتبع ذلك من أمر مصيرنا ومن حيث ما يجب له من الشكر والعبادة. وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بطريق صناعي أو كسب بشري، فقد وقعت الأمم في الحيرة والخطأ في مسائله لجهلهم بالصلة والنسبة بين المخلوق والخالق، فمنهم من وصفه تعالى بما لا يصح أن يوصف به، ومنهم من توهم أن أعمالنا تفيده أو تؤلمه، وأنه ينعم علينا أو ينتقم منا بالمصائب لأجل ذلك. ومنهم من توهم أن الحياة الأخرى تكون بهذه الأجساد والجزاء فيها يكون بهذا المتاع، فاخترعوا الأدوية لحفظ أجسامهم ومتاعهم. وإذا كان الإنسان عاجزا عن تحديد ما يجب عليه ويحتاج إليه من الإيمان بالله وبالحياة الأخرى وما يجب عليه في الحياة الأولى شكرا لله واستعدادا لتلك الحياة لأن الحواس والعقل لا يدركان ذلك، فلا شك أنه محتاج إلى عقل آخر يدرك به ما يعوز أفراده من هذه الأمور، وهذا العقل هو النبي المرسل.

وبقي القسم الخامس: وهو ما يستطيع العقل البشري إدراك الفائدة منه ولكنه عرضة للخطأ فيه دائما لما يعرض له من الأهواء والشهوات التي تلقي الغشاوة على الأبصار والبصائر، فتحول دون الوصول إلى الحقيقة، أو تشبه النافع بالضار، وتلبس الحق بالباطل، مثال ذلك السعاية والمحل يدرك العقل ما فيه من الضرر والقبح ولكنه إذا رأى لنفسه فائدة من السعاية بشخص زينها له هواه فيراها حسنة من حيث يخفى عليه ضررها لذاتها، وكذلك شرب الخمر والحشيش وقد يعرف الإنسان مضرتها في غيره ولكن الشهوة تحجبه عن إدراك ذلك في نفسه فيؤثر حكم لذته على حكم عقله الذي ينهاه عن كل ضار، فصار محتاجا إلى معلم آخر ينصر العقل على الهوى، ووازع يكبح من جماح الشهوة ليكون على هدى.

فما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه، لا يطالب الأنبياء ببيانه، ومطالبتهم به جهل بوظيفتهم وإهمال للمواهب والقوى التي وهبه الله إياها ليصل بها إلى ذلك، وكذلك لا يطالبون بما يستحيل على البشر الوصول إليه كقول بعض بني إسرائيل لموسى: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} (البقرة: 55) وأما ما كان إدراكه ممكنا، وكسبه بالحس والعقل متعذرا أو تحديده متعسرا، فهو الذي نحتاج فيه إلى هاد الخير عن الله تعالى لنأخذه عنه بالإيمان والتسليم، ولذلك قلنا إن الرسول عقل للأمة وهداية وراء هداية الحواس والوجدان والعقل.

لو كان من وظيفة النبي أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل، وينزع الاستقلال من الإنسان، ويلزم بأن يتلقى كل فرد من أفراده كل شيء بالتسليم، ولوجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها في كل زمن كل ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم، وإن شئت فقل لوجب أن لا يكون الإنسان هذا النوع الذي نعرفه، نعم إن الأنبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما يزيد منافعهم ومعارفهم التي ترتقي بها نفوسهم، ولكن مع وصلها بالتنبيه على ما يقوي الإيمان ويزيد في العبرة. وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ قال (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ومن ههنا كان السؤال عن حقيقة الروح خطأ وقد أمر الله نبيه أن يجيب السائلين بقوله: {قل الروح من أمر ربي} (الإسراء: 85) أي أنها من المخلوقات التي لا يسأل النبي عنها كما كان السؤال عن علة اختلاف أطوار الأهلة خطأ لا يصح مجاراة السائل عليه بل عده القرآن من قبيل إتيان البيوت من ظهورها كما في تتمة الآية.

فإن قيل إن التاريخ من العلوم التي يسهل على البشر تدوينها والاستغناء بها عن الوحي فلماذا كثر سرد الأخبار التاريخية في القرآن وكانت في التوراة أكثر؟ والجواب ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها، وإنما هي الآيات والعبر تجلت في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم، لبيان سنن الله تعالى فيهم، إنذارا للكافرين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيتا لقلبه وقلوب المؤمنين به... ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفصيلها، وإنما يذكر موضع العبرة فيها {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (يوسف: 120) {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} (هود: 120) وكل ما تراه في هذه التوراة التي عند القوم من القصص المسهبة والتاريخ المتصل من ذكر خلق آدم وما بعده فهي مما ألحق بالتوراة بعد موسى بقرون، بل كتب أكثر تواريخ العهد القديم بعد السبي ورجوع بني إسرائيل من بابل ومن أراد كمال البيان في وظائف الرسل فعليه برسالة التوحيد للأستاذ الإمام.

وإذا كان ما ورد في السؤال عن الأهلة لم يصح سندا كما تقدم فلا ينفي ذلك أن السؤال قد وقع بالفعل، ولا أن الرواية التي قالوها هي في نفسها صحيحة، فما كل ما لم يصح سنده باطل، ولا كل ما صح سنده واقع، فرب سند قالوا إنه صحيح لأنهم لا يعرفون جارحا في أحد من رجاله وهو غير صحيح لأن فيهم من خفي كذبه واستتر أمره. يدل على السؤال في الجملة قوله {يسألونك} ويستأنس لقول من قال إن السؤال كان على العلة والسبب قوله تعالى: {وليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها} فإن فيه تعريضا بأن من يسأل النبي عما لم يبعث النبي لبيانه ولا يتوقف عرفاته على الوحي فهو في طلبه الشيء من غير مطلبه كمن يطلب دخول البيت في ظهره دون بابه. وبهذا التقرير يكون الاتصال والالتحام بين أجزاء الآية أحكم وأقوى. ولولا أن هذا مفيد لحكم من أحكام الحج الذي يعرف ميقاته بالأهلة لكان لا معنى له إلا تأديب السائلين بتمثيل ذلك السؤال بمثل لا يرتضيه عاقل، وهو إتيان البيوت من ظهورها، وإرشادهم إلى ما ينبغي أن ينبغي أن يستفيدوه وتحسينه لهم بجعله كإتيان البيوت من أبوابها.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور، أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب، الذي قد جعل له موصلا، فالآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، ينبغي أن ينظر في حالة المأمور، ويستعمل معه الرفق والسياسة، التي بها يحصل المقصود أو بعضه، والمتعلم والمعلم، ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله، يحصل به مقصوده، وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه، فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذا الدرس -كسابقه- استطراد في بيان فرائض هذه الأمة وتكاليفها، ونظم حياتها، وأحكام شريعتها فيما بينها، وشريعتها مع غيرها من الأمم حولها.

ويتضمن هذا الدرس بيانا عن الأهلة -جمع هلال- كما يتضمن تصحيحا لعادة جاهلية وهي إتيان البيوت من ظهورها بدلا من أبوابها في مناسبات معينة، ثم بيانا عن أحكام القتال عامة، وأحكام القتال في الأشهر الحرم، وعند المسجد الحرام خاصة. وفي النهاية بيانا لشعائر الحج والعمرة كما أقرها الإسلام وهذبها، وعدل فيها كل ما يمت إلى التصورات الجاهلية.

وهكذا نرى هنا -كما رأينا في الدرس السابق- أحكاما تتعلق بالتصور والاعتقاد، وأحكاما تتعلق بالشعائر التعبدية، وأحكاما تتعلق بالقتال.. كلها تتجمع في نطاق واحد، وكلها يعقب عليها تعقيبات تذكر بالله وتقواه. في موضوع إتيان البيوت من ظهورها يجيء تعقيب يصحح معنى البر، وأنه ليس في الحركة الظاهرة إنما هو في التقوى: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون}..

وفي القتال بصفة عامة يوجههم إلى عدم الاعتداء، ويربط هذا بحب الله وكرهه. {إن الله لا يحب المعتدين).. وفي القتال في الشهر الحرام يعقب بتقوى الله: (واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين).. وفي الإنفاق يعقب بحب الله للمحسنين: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}..

وفي التعقيب على بعض شعائر الحج يقول: {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} وفي التعقيب الآخر على بيان مواقيت الحج والنهي عن الرفث فيه والفسوق والجدال يقول: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}.. وحتى في توجيه الناس لذكر الله بعد الحج يجيء التعقيب: {واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون)}..

وهكذا نجد هذه الأمور المتعددة مرتبطة ارتباطا وثيقا، ناشئا من طبيعة هذا الدين، الذي لا تنفصل فيه الشعائر التعبدية، عن المشاعر القلبية، عن التشريعات التنظيمية، ولا يستقيم إلا بأن يشمل أمور الدنيا وأمور الآخرة، وشؤون القلب وشؤون العلاقات الاجتماعية والدولية، وإلا أن يشرف على الحياة كلها، فيصرفها وفق تصور واحد متكامل، ومنهج واحد متناسق، ونظام واحد شامل، وأداة واحدة هي هذا النظام الخاص الذي يقوم على شريعة الله في كافة الشؤون. دلالات من سؤال الصحابة للرسول عن شؤون حياتهم.

وهناك ظاهرة في هذه السورة تطالعنا منذ هذا القطاع. تطالعنا في صورة مواقف يسأل فيها المسلمون نبيهم [ص] عن شؤون شتى، هي الشؤون التي تصادفهم في حياتهم الجديدة، ويريدون أن يعرفوا كيف يسلكون فيها وفق تصورهم الجديد، ووفق نظامهم الجديد. وعن الظواهر التي تلفت حسهم الذي استيقظ تجاه الكون الذي يعيشون فيه.. فهم يسألون عن الأهلة.. ما شأنها؟ ما بال القمر يبدو هلالا، ثم يكبر حتى يستدير بدرا، ثم يأخذ في التناقص حتى يرتد هلالا، ثم يختفي ليظهر هلالا من جديد؟ ويسألون ماذا ينفقون؟ من أي نوع من مالهم ينفقون؟ وأي قدر وأية نسبة مما يملكون؟ ويسألون عن القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام. هل يجوز؟ ويسألون عن الخمر والميسر ما حكمهما؟ وقد كانوا أهل خمر في الجاهلية وأهل ميسر! ويسألون عن المحيض؟ وعلاقتهم بنسائهم في فترته. ثم يسألون عن أشياء في أخص علاقاتهم بأزواجهم، وأحيانا تسأل فيها الزوجات أنفسهن. وقد وردت أسئلة أخرى في موضوعات متنوعة في سور أخرى من القرآن أيضا..

وهذه الأسئلة ذات دلالات شتى:

فهي أولا دليل على تفتح وحيوية ونمو في صور الحياة وعلاقاتها، وبروز أوضاع جديدة في المجتمع الذي جعل يأخذ شخصيته الخاصة، ويتعلق به الأفراد تعلقا وثيقا؛ فلم يعودوا أولئك الأفراد المبعثرين، ولا تلك القبائل المتناثرة. إنما عادوا أمة لها كيان، ولها نظام، ولها وضع يشد الجميع إليه؛ ويهم كل فرد فيه أن يعرف خطوطه وارتباطاته.. وهي حالة جديدة أنشأها الإسلام بتصوره ونظامه وقيادته على السواء.. حالة نمو اجتماعي وفكري وشعوري وإنساني بوجه عام.

وهي ثانيا دليل على يقظة الحس الديني، وتغلغل العقيدة الجديدة وسيطرتها على النفوس، مما يجعل كل أحد يتحرج أن يأتي أمرا في حياته اليومية قبل أن يستوثق من رأي العقيدة الجديدة فيه، فلم تعد لهم مقررات سابقة في الحياة يرجعون إليها، وقد انخلعت قلوبهم من كل مألوفاتهم في الجاهلية، وفقدوا ثقتهم بها؛ ووقفوا ينتظرون التعليمات الجديدة في كل أمر من أمور الحياة..

وهذه الحالة الشعورية هي الحالة التي ينشئها الإيمان الحق. عندئذ تتجرد النفس من كل مقرراتها السابقة وكل مألوفاتها، وتقف موقف الحذر من كل ما كانت تأتيه في جاهليتها، وتقوم على قدم الاستعداد لتلقي كل توجيه من العقيدة الجديدة، لتصوغ حياتها الجديدة على أساسها، مبرأة من كل شائبة. فإذا تلقت من العقيدة الجديدة توجيها يقر بعض جزئيات من مألوفها القديم تلقته جديدا مرتبطا بالتصور الجديد. إذ ليس من الحتم أن يبطل النظام الجديد كل جزئية في النظام القديم؛ ولكن من المهم أن ترتبط هذه الجزئيات بأصل التصور الجديد، فتصبح جزءا منه، داخلا في كيانه، متناسقا مع بقية أجزائه.. كما صنع الإسلام بشعائر الحج التي استبقاها. فقد أصبحت تنبثق من التصور الإسلامي، وتقوم على قواعده، وأنبتت علاقتها بالتصورات الجاهلية نهائيا.

والدلالة الثالثة تؤخذ من تاريخ هذه الفترة؛ وقيام اليهود في المدينة والمشركين في مكة بين الحين والحين بمحاولة التشكيك في قيمة النظم الإسلامية، وانتهاز كل فرصة للقيام بحملة مضللة على بعض التصرفات والأحداث -كما وقع في سرية عبد الله بن جحش وما قيل من اشتباكها في قتال مع المشركين في الأشهر الحرم- مما كان يستدعي بروز بعض الاستفهامات والإجابة عليها، بما يقطع الطريق على تلك المحاولات؛ ويسكب الطمأنينة واليقين في قلوب المسلمين..

ومعنى هذه الدلالة أن القرآن كان دائما في المعركة. سواء تلك المعركة الناشئة في القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام؛ والمعركة الناشئة في الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين يتربصون بها من كل جانب. هذه المعركة كتلك ما تزال قائمة. فالنفس البشرية هي النفس البشرية؛ وأعداء الأمة المسلمة هم أعداؤها.. والقرآن حاضر.. ولا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة المسلمة إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة، ليخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة..

وما لم يستيقن المسلمون من هذه الحقيقة فلا فلاح لهم ولا نجاح! وأقل ما تنشئه هذه الحقيقة في النفس.. أن تقبل على هذا القرآن بهذا الفهم وهذا الإدراك وهذا التصور. أن تواجهه وهو يتحرك ويعمل وينشىء التصور الجديد، ويقاوم تصورات الجاهلية، ويدفع عن هذه الأمة، ويقيها العثرات. لا كما يواجهه الناس اليوم نغمات حلوة ترتل، وكلاما جميلا يتلى، وينتهي أمر.. إنه لأمر غير هذا نزل الله القرآن.. لقد نزله لينشىء حياة كاملة، ويحركها، ويقودها إلى شاطىء الأمان بين الأشواك والعثرات، ومشقات الطريق؛ التي تتناثر فيها الشهوات كما تتناثر فيها العقبات. والله المستعان..

وسواء [أكانت] هذه عادتهم في السفر بصفة عامة، [أم] في الحج بصفة خاصة وهو الأظهر في السياق، فقد كانوا يعتقدون أن هذا هو البر -أي الخير أو الإيمان- فجاء القرآن ليبطل هذا التصور الباطل، وهذا العمل المتكلف الذي لا يستند إلى أصل، ولا يؤدي إلى شيء. وجاء يصحح التصور الإيماني للبر.. فالبر هو التقوى. هو الشعور بالله ورقابته في السر والعلن. وليس شكلية من الشكليات التي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان. ولا تعني أكثر من عادة جاهلية.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وهذا أسلوب جديد من أساليب القرآن في التربية، وهو أسلوب إثارة السؤال من خلال ما يقدّمه الآخرون من القضايا التي تدور في تفكيرهم، فيحاولون معرفتها بهذه الطريقة، وقد أراد اللّه للنبيّ (ص) أن يهتم بكلّ الأسئلة التي تطرح عليه، لأنَّ من حقّ النّاس عليه أن يبتدئهم بالمعرفة إذا لم يسألوه، وأن يجيبهم إذا توجهوا إليه بالسؤال، لأنَّ اللّه قد أرسله من أجل أن يزكيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، ويفتح لهم أبواب المعرفة على أوسع مدى وأرحب مجال. وقد يكون هذا التأكيد على الأسئلة التي كانت توجّه إلى النبيّ محمَّد (ص) من المسلمين، والأجوبة التي كان يقدّمها إليهم، ونقل ذلك في القرآن، إيحاءً بأنَّ الإسلام ينفتح على كلّ علامات الاستفهام التي تدور في أذهان النّاس في القضايا التي تشغل تفكيرهم في حياتهم الخاصة والعامة، فمن حقّ النّاس أن يطلقوا كلّ الأسئلة أمام القيادة الإسلامية، حتى إذا كانت في مستوى النبوة المتمثّلة بالنبيّ محمَّد (ص)، لأنَّ ذلك هو الذي يحرّك الإنسان في خطوات المعرفة...

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :

من الهداية:

- أن يسأل المرء عما ينفعه، ويترك السؤال عما لا يعنيه.