قوله تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه } ، قرأ نافع { ميتاً } ، { ولحم أخيه ميتاً } [ الحجرات :12 ] و{ الأرض الميتة أحييناها } [ يس :33 ] بالتشديد فيهن ، وقرأ الآخرون بالتخفيف { فأحييناه } ، أي : كان ضالاً فهديناه ، كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان . قوله تعالى : { وجعلنا له نوراً } ، يستضيء به .
قوله تعالى : { يمشي به في الناس } ، على قصد السبيل ، قيل : النور هو الإسلام ، لقوله تعالى : { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] ، وقال قتادة : هو كتاب الله ، بينه من الله مع المؤمن ، بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي .
قوله تعالى : { كمن مثله في الظلمات } ، المثل صلة ، أي : كمن هو في الظلمات .
قوله تعالى : { ليس بخارج منها } ، يعني : من ظلمة الكفر .
قيل : نزلت هذه الآية في رجلين بأعيانهما ، ثم اختلفوا فيهما ، قال ابن عباس : { جعلنا له نوراً } يريد حمزة بن عبد المطلب ، { كمن مثله في الظلمات } يريد أبا جهل بن هشام ، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل ، وهو راجع من قنصه ، وبيده قوس ، وحمزة لم يؤمن بعد ، فأقبل غضبان حتى رمى أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ، ويقول : يا أبا يعلي ، أما ترى ما جاء به ؟ سفه عقولنا ، وسب آلهتنا ، وخالف آباءنا ، فقال حمزة : ومن أسفه منكم ؟ تعبدون الحجارة من دون الله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فأنزل الله هذه الآية . وقال الضحاك : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل . وقال عكرمة والكلبي : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل .
قوله تعالى : { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } ، من الكفر والمعصية . قال ابن عباس : يريد زين لهم الشيطان عبادة الأصنام .
ثم ضرب الله مثلا لحال المؤمن والكافر فقال :
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } .
الهمزة للاستفهام الإنكارى ، وهى داخلة على جملة محذوفة للعلم بها من الكلام السابق .
والتقدير : أأنتم أيها المؤمنون مثل أولئك المشركين الذين يجادلونكم بغير علم وهل يعقل أن من كان ميتاً فأعطيناه الحياة وجعلنا له نوراً عظيما يمشى به فيما بين الناس آمنا كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها .
فالآية الكريمة تمثيل بليغ للؤمن والكافر لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين بعد أن نهاهم صراحة عن طاعتهم قبل ذلك فى قوله { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .
فمثل المؤمن المهتدى إلى الحق كمن كان ميتا هالكا فأحياه الله وأعطاه نوراً يستضىء به فى مصالحه ، ويهتدى به إلى طرقه . ومثل الكافر الضال كمن هو منغمس فى الظلمات لا خلاص له منها فهو على الدوام متحير لا يهتدى فكيف يستويان ؟
والمراد بالنور : القرآن أو الإسلام ، والمراد بالظلمات : الكفر والجهالة وعمى البصيرة . فهو كقوله - تعالى - : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور وَلاَ الظل وَلاَ الحرور وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات } وقوله : { كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى : مثل ذلك التزيين الذى تضمنته الآية - وهو تزيين نور الهدى للمؤمنين وظلمات الشرك للضالين قد زين للكافرين ما كانوا يعملونه من الآثام كعداوة النبى صلى الله عليه وسلم وذبح القرابين لغير الله - تعالى - وتحليل الحرام ، وتحريم الحلال وغير ذلك من المنكرات .
وجمهور المفسرين يرون أن المثل فى الآية عام لكل مؤمن وكل كافر وقيل إن المراد بمن أحياه الله وهداه عمر بن الخطاب ، والمراد بمن بقى فى الظلمات ليس بخارج منها عمرو بن هشام ، فقد أخرج ابن أبى الشيخ أن الآية نزلت فيهما ، وقيل نزلت فى عمار بن ياسر وأبى جهل ، وقيل فى حمزة وأبى جهل .
والذى نراه أن الآية عامة فى كل من هداه الله إلى الإيمان بعد أن كان كافراً ، وفى كل من بقى على ضلاله مؤثراً الكفر على الإيمان ويدخل فى ذلك هؤلاء المذكورون دخولا أوليا .
بعد ذلك يجيء شوط كامل عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان . وعن قدر الله في أن يجعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها . وعن الكبر الذي يحيك في نفوس هؤلاء المجرمين الأكابر . ويمنعهم من الإسلام . ويختم الشوط بالتصوير الرائع الصادق لحالة الإيمان التي يشرح الله لها الصدر ، وحالة الكفر التي يجعل الصدر فيها ضيقاً حرجاً مكروب الأنفاس ! . . فيتصل هذا الشوط كله بموضوع التحريم والتحليل في الذبائح اتصال الأصل القاعدي بالفرع التطبيقي ؛ ويدل على عمق هذا الفرع وشدة علاقته بالأصل الكبير :
( أو من كان ميتاً فأحييناه ، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ؟ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون . وإذا جاءتهم آية قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله . الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون . فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً كأنما يصعد في السماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) .
إن هذه الآيات في تصوير طبيعة الهدى وطبيعة الإيمان إنما تعبر تعبيراً حقيقياً واقعياً عن حقيقة واقعية كذلك . إن ما يبدو فيها من تشبيه ومجاز إنما هو لتجسيم هذه الحقيقة في الصورة الموحية المؤثرة ؛ ولكن العبارة في ذاتها حقيقية .
إن نوع الحقيقة التي تعبر هذه الآيات عنها هو الذي يقتضي هذه الايقاعات التصويرية . فهي حقيقة ، نعم . ولكنها حقيقة روحية وفكرية . حقيقة تذاق بالتجربة . ولا تملك العبارة إلا أن تستحضر مذاق التجربة ولكن لمن ذاقها فعلا !
إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت ؛ وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات . حياة يعيد بها تذوق كل شيء ، وتصور كل شيء ، وتقدير كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة . ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوره الإيمان .
هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ . يعرفها فقط من ذاقها . . والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة . لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها .
إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية ، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب . فهو موت . . وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله . . فهو موت . . وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . . فهو موت . .
والإيمان اتصال ، واستمداد ، واستجابة . . فهو حياة . .
إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراق الاستشراف والاطلاع . . فهو ظلمة . . وختم على الجوارح والمشاعر . . فهو ظلمة . . وتيه في التيه وضلال . . فهو ظلمة . .
وإن الإيمان تفتح ورؤية ، وإدراك واستقامة . . فهو نور بكل مقومات النور . .
إن الكفر انكماش وتحجر . . فهو ضيق . . وشرود عن الطريق الفطري الميسر . . فهو عسر . . وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن . . فهو قلق . .
وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود . .
وما الكافر ؟ إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور . . إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود ، فهو منقطع الصلة بالوجود . لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود . في أضيق الحدود . في الحدود التي تعيش فيها البهيمة . حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود !
إن الصلة بالله ، والصلة في الله ، لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد . ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة . . ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان . الموصولة على مدار الزمان . . فهو في ثراء من الوشائج ، وفي ثراء من الروابط . وفي ثراء من " الوجود " الزاخر الممتد اللاحب ، الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ، فتتكشف له حقائق هذا الدين ، ومنهجه في العمل والحركة ، تكشفا عجيبا . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور . . مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه . ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته . إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات . . إنما يبدو " تصميما " واحدا متداخلا متراكبا متناسقا . . متعاشقا يبدو حيا يتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة ، وفي حب ودود !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ؛ فتتكشف له حقائق الوجود ، وحقائق الحياة ، وحقائق الناس ، وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس . . تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر . . مشهد السنة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر . . ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة . . ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث . . يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته . ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سنة الله النافذة ، أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة ! ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله ، كأنه يقرأ من كتاب !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ، فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه ! ويجد الراحة في باله وحاله ومآله ! ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها ، وفي استقبال الأحداث واستدبارها ! ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين !
وهكذا يصور التعبير القرآني الفريد تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية :
( أو من كان ميتا فأحييناه ، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ؟ ) .
كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين . قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها ، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف . . كانت قلوبهم مواتا . وكانت أرواحهم ظلاما . . ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز ، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء ، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال ، وتلتقط الشارد ، وتطمئن الخائف ، وتحرر المستعبد ، وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد . الإنسان المتحرر المستنير ؛ الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد !
أفمن نفخ الله في روحه الحياة ، وأفاض على قلبه النور . . كمن حاله أنه في الظلمات ، لا مخرج له منها ؟ إنهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان ! فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض ؟
( كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ) . .
هذا هو السر . . إن هناك تزيينا للكفر والظلمة والموت ! والذي ينشئ هذا التزيين ابتداء هو مشيئة الله التي أودعت فطرة هذا الكائن الإنساني الاستعداد المزدوج لحب النور وحب الظلمة ، تبتليه بالاختيار للظلمة أو النور . فإذا اختار الظلمة زينت له ؛ ولج في الضلال حتى لا يخرج من الظلمة ولا يعود ، ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ، ويزينون للكافرين ما يعملون . . والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور ، يسمع في الظلمة للوسوسة ؛ ولا يرى ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق ! . . وكذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . .
تقدم في هذه الآية السالفة ذكر قوم مؤمنين أمروا بترك الإثم وباطنه وغير ذلك ، وذكر قوم كافرين يضلون بأهوائهم وغير ذلك ، فمثل الله عز وجل في الطائفتين بأن شبه الذين آمنوا بعد كفرهم بأموات أحيوا ، هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وشبه الكافرين وحيرة جهلهم بقوم في ظلمات يترددون فيها ولا يمكنهم الخروج منها ليبين عز وجل الفرق بين الطائفتين والبون بين المنزلتين .
وقرأ جمهور الناس «أوَ من » بفتح الواو فهي ألف استفهام دخلت على واو عطف جملة على جملة ، و { من } بمعنى الذي ، وقرأ طلحة بن مصرف : «أفمن » بالفاء ، والمعنى قريب من معنى الواو ، والفاء في قوله { فأحييناه } عاطفة ، و { نوراً } أمكن ما يعنى{[5076]} به الإيمان و { يمشي به } يراد به جميع التصرف في الأفعال والأقوال ، قال أبو علي : ويحتمل أن يراد النور الذي يؤتاه المؤمنون يوم القيامة ، و { في الناس } متعلق ب { يمشي }{[5077]} ، ويصح أن يتعلق ب { كان ميتاً } وقوله تعالى : { كمن مثله } بمنزلة كمن هو ، والكاف في قوله { كذلك زين } متعلقة بمحذوف يدل ظاهر الكلام عليه ، تقديره وكما أحيينا المؤمنين وجعلنا لهم نوراً كذلك زين للكافرين ، ويحتمل أن يتعلق بقوله { كمن مثله } أي كهذه الحال هو التزيين ، وقرأ نافع وحده «ميِّتاً » بكسر الياء وشدها ، وقرأ الباقون «ميْتاً » بسكون الياء ، قال أبو علي : التخفيف كالتشديد ، والياء المحذوفة هي الثانية المنقلبة عن واو أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب ، وقالت طائفة إن هذه الألفاظ التي مثل بها وإن كانت تعم كل مؤمن وكل كافر فإنما نزلت في مخصوصين ، فقال الضحاك : المؤمن الذي كان ميتاً فأحيي عمر بن الخطاب ، وحكى المهدوي عن بعضهم أنه حمزة بن عبد المطلب ، وقال عكرمة : عمار بن ياسر ، وقال الزجاج : جاء في التفسير أنه يعني به النبي عليه السلام .
قال القاضي أبو محمد : واتفقوا على أن الذي في الظلمات أبو جهل بن هشام ، إلى حاله وحال أمثاله هي الإشارة والتشبيه بقوله { وكذلك جعلنا في كل قرية } .
الواو في قوله : { أو من كان ميتاً } عاطفة لجملة الاستفهام على جملة : { وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون } [ الأنعام : 121 ] لتضمّن قوله : { وإن أطعتموهم } أنّ المجادلة ، المذكورة من قَبْلُ ، مجادلة في الدّين : بتحسين أحوال أهل الشّرك وتقبيح أحكام الإسلام الّتي منها : تحريم الميتة ، وتحريم ما ذُكر اسم غير الله عليه . فلمّا حَذر الله المسلمين من دسائس أولياء الشّياطين ومجادلتهم بقوله : { وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون } [ الأنعام : 121 ] أعقَب ذلك بتفظيع حال المشركين ، ووصَفَ حسن حالة المسلمين حين فارقوا الشّرك ، فجاء بتمثيلين للحالتين ، ونفَى مساواة إحداهما للأخرى : تنبيها على سوء أحوال أهل الشّرك وحسننِ حال أهل الإسلام .
والهمزة للاستفهام المستعمل في إنكار تَماثل الحالتين : فالحالة الأولى : حالة الّذين أسلموا بعد أن كانوا مشركين ، وهي المشبّهة بحال مَن كان ميّتاً مودَعاً في ظلمات ، فصار حيّاً في نورٍ واضحٍ ، وسار في الطّريق الموصّلة للمطلوب بين النّاس ، والحالة الثّانية : حالةُ المشرك وهي المشبّهة بحالة من هو في الظلمات ليس بخارج منها ، لأنَّه في ظلمات .
وفي الكلام إيجازُ حذفٍ ، في ثلاثة مواضع ، استغناء بالمذكور عن المحذوف : فقوله : { أو من كان ميتاً } معناه : أَحَال مَن كان ميّتاً ، أو صِفة مَن كان ميّتاً . وقوله : { وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس } يدلّ على أنّ المشبّه به حال مَن كان ميّتاً في ظُلمات . وقوله : كمن مثله في الظلمات تقديره : كمن مثله مثَل ميّت فما صدْق ( مَن ) ميّت بدليل مقابلته بميّت في الحالة المشبّهة ، فيعلم أنّ جزء الهيئة المشبّهة هو الميّت لأنّ المشبّه والمشبّه به سواء في الحالة الأصليّة وهي حالة كون الفريقين مشركين . ولفظ ( مثَل ) بمعنى حالة . ونفيُ المشابهة هنا معناه نفي المساواة ، ونفي المساواة كناية عن تفضيل إحدى الحالتين على الأخرى تفضيلاً لا يلتبس ، فذلك معنى نفي المشابهة كقوله : { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظّلمات والنّور } [ الرعد : 16 ] وقوله { أفمَن كان مؤمناً كَمَن كان فاسقاً لا يستوون } [ السجدة : 18 ] . والكاف في قوله : { كمن مثله في الظلمات } كاف التّشبيه ، وهو تشبيه منفي بالاستفهام الإنكاري .
والكلام جار على طريقة تمثيل حال من أسْلَم وتخلَّص من الشرك بحال من كان ميّتا فأُحْيِي ، وتمثيللِ حال من هو باق في الشرك بحال ميت باق في قبره . فتضمّنت جملة : { أو من كان ميتاً } إلى آخرها تمثيل الحالة الأولى ، وجملة : { كمن مثله في الظلمات } الخ تمثيلَ الحالة الثّانية ، فهما حالتان مشبّهتان ، وحالتان مشبَّهٌ بهما ، وحصل بذكر كاف التّشبيه وهمزة الاستفهام الإنكاري أنّ معنى الكلام نفي المشابهة بين من أسلم وبين من بَقي في الشرك . كما حصل من مجموع الجملتين : أنّ في نظم الكلام تشبيهين مركَّبين .
ولكنّ وجودَ كاف التّشبيه في قوله : { كمن مثله } مع عدم التّصريح بذكر المشبَّهَيْن في التّركيبين أثارَا شُبهة : في اعتبار هذين التّشبيهين أهو من قبيل التّشبيه التّمثيلي ، أم من قبيل الاستعارة التّمثيلية ؛ فنحا القطب الرّازي في « شرح الكشاف » القبيلَ الأول ، ونحا التفتزاني القبيلَ الثّاني ، والأظهر ما نحاه التفتزاني : أنَّهما استعارتان تمثيليتان ، وأمّا كاف التّشبيه فهو متوجّه إلى المشابهة المنفيّة في مجموع الجملتين لا إلى مشابهة الحالين بالحالين ، فمورد كاف التّشبيه غير مورد تمثيل الحالين .
والمراد : ب { الظّلمات } ظلمةُ القبر لمناسبته للميِّت ، وبقرينة ظاهر { في } من حقيقة الظرفية وظاهر حقيقة فعل الخروج .
ولقد جاء التّشبيه بديعاً : إذ جعل حال المسلم ، بعد أن صار إلى الإسلام ، بحال من كان عديم الخير ، عديم الإفادة كالميّت ، فإنّ الشرك يحول دون التّمييز بين الحقّ والباطل ، ويصرف صاحبه عن السّعي إلى ما فيه خيره ونجاته ، وهو في ظلمة لو أفاق لم يعرف أين ينصرف ، فإذا هداه الله إلى الإسلام تغيرّ حاله فصار يميّز بين الحقّ والباطل ، ويعلم الصّالح من الفاسد ، فصار كالحي وصار يسعى إلى ما فيه الصّلاح ، ويتنكّب عن سبيل الفساد ، فصار في نور يمشي به في النّاس . وقد تبيّن بهذا التّمثيل تفضيل أهل استقامة العقول على أضدادِهم .
والباء في قوله : { يمشي به } باء السّببيّة . والنّاس المصرح به في الهيئة المشبه بها هم الأحياء الّذين لا يخلو عنهم المجتمع الإنساني . والنّاس المقدّر في الهيئة المشبهة هم رفقاء المسلم من المسلمين . وقد جاء المركب التّمثيلي تاماً صالحاً لاعتبار تشبيه الهيئة بالهيئة ، ولاعتبار تشبيه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّهِ بها ، كما قد علمته وذلك أعلى التّمثيل .
وجملة : { ليس بخارج منها } حال من الضّمير المجرور بإضافة ( مَثل ) ، أي ظلمات لا يرجى للواقع فيها تنوّر بنور ما دام في حالة الإشراك .
وجملة : { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } استئناف بياني ، لأنّ التّمثيل المذكور قبلها يثير في نفس السّامع سُؤالاً ، أن يقول : كيف رضوا لأنفسهم البقاء في هذه الضّلالات ، وكيف لم يشعروا بالبَون بين حالهم وحال الّذين أسلموا ؛ فإذا كانوا قبل مجيء الإسلام في غفلة عن انحطاط حالهم في اعتقادهم وأعمالهم ، فكيف لمّا دعاهم الإسلام إلى الحقّ ونصب لهم الأدلَّة والبراهين بَقُوا في ضلالهم لم يقلعوا عنه وهمْ أهل عقول وفطنة فكان حقيقاً بأن يبيّن له السّبب في دوامهم على الضّلال ، وهو أنّ ما عملوه كان تزيّنه لهم الشّياطين ، هذا التّزيين العجيب ، الّذي لو أراد أحد تقريبه لم يجد ضلالاً مزيَّناً أوضح منه وأعجبَ فلا يشبَّه ضلالُهم إلاّ بنفسه على حدّ قولهم : ( والسّفاهة كاسمها ) .
واسم الإشارة في قوله : { كذلك زين للكافرين } مشار به إلى التّزيين المأخوذ من فعل { زين } أي مثلَ ذلك التّزيين للكافرين العجيب كيداً ودِقَّةً زيّن لهؤلاء الكافرين أعمالهم على نحو ما تقدّم في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
وحُذف فاعل التّزيين فبني الفعل للمجهول : لأنّ المقصود وقوع التّزيين لا معرفة مَن أوقعه . والمزيّن شياطينهم وأولياؤهم ، كقوله : { وكذلك زَيَّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤُهم } [ الأنعام : 137 ] ، ولأنّ الشّياطين من الإنس هم المباشرون للتّزيين ، وشياطين الجنّ هم المُسَوّلون المزيّنون . والمراد بالكافرين المشركون الّذين الكلام عليهم في الآيات السّابقة إلى قوله : { وإنّ الشّياطين لَيُوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } [ الأنعام : 121 ] .