قوله تعالى : { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة ، فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة ، فتحروا القبلة وصلوا ، فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا ، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية . وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : نزلت في المسافر يصلي التطوع حيث ما توجهت به راحلته .
أخبرنا محمد بن محمد السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم ابن عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك . عن عبد الله بن دينار . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيث ما توجهت به " .
وقال عكرمة : نزلت في تحويل القبلة ، قال أبو العالية : لما صرفت القبلة إلى الكعبة ، عيرت اليهود المؤمنين وقالوا : ليست لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هكذا وتارة هكذا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقال مجاهد والحسن : لما نزلت { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } قالوا : أين ندعوه فأنزل الله عز وجل :{ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله } يعني أينما تحولوا وجوهكم فثم أي : هناك وجه الله ، قال الكلبي فثم الله يعلم ويرى " والوجه " صلة كقوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } أي إلا هو ، وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان : فثم قبلة الله ، والوجه والوجهة والجهة القبلة ، وقيل : رضا الله تعالى .
قوله تعالى : { إن الله واسع } . أي غني يعطي في السعة ، قال الفراء : الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء ، قال الكلبي : واسع المغفرة .
ثم أخذ القرآن في تسلية المسلمين الذين أخرجوا من مكة وفارقوا المسجد الحرام ، مبيناً لهم أن الجهات كلها لله - تعالى - فقال : { وَللَّهِ المشرق والمغرب . . . }
المشرق والمغرب : مكان شروق الشمس وغروبها ، والمراد بهما هنا جمع جهات الأرض .
واللام في قوله : { وَللَّهِ } تفيد معنى الملك .
والتولية : التوجه من جهة إلى أخرى . و ( ثم ) اسم إشارة للمكان .
والوجه : الجهة ، فوجه الله الجهة التي ارتضاها وأمر بالتوجه إليها وهي القبلة .
والمعنى : أن جميع الأرض ملك لله وحده ، ففي أي مكان من المشرق والمغرب توليتم شطر القبلة التي أمركم الله بها ورضيها لكم ، فهناك جهته - سبحانه - التي أمرتم بها ، والتي تبرأ ذممكم باستقبالها .
ومعنى هذا : الإذن بإقامة الصلاة في أي مكان من الأرض دون أن تختص بها المساجد ، ففي الحديث الشريف : " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " .
وكأن الآية تومى ، إلى أن سعى أولئك الظالمين في منع المساجد من ذكره - تعالى - وتخريبها ، لا يمنع من أداء العبادة لله - تعالى - : لأن له المشرق والمغرب وما بينهما ، فأينما حل الإِنسان وتحرى القبلة المأمور بالتوجه إليها فهناك جهة الله المطلوب منه استقبالها .
وذيلت الآية بقوله { إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } لإِفادة سعة ملكه أو سعة تيسيره على عباده في أمر الدين : أي : إن الله يسع خلقه جميعاً برحمته وتيسيره وجوده وهو عليم بأعمالهم لا يخفى عليه عمل عامل أنيما كان وكيفما كان .
والذي يجعلنا نرجح أن الآيتين نزلتا في مناسبة تحويل القبلة ، هو الآية الثانية منهما :
( ولله المشرق والمغرب ، فأينما تولوا فثم وجه الله ، إن الله واسع عليم ) .
فهي توحي بأنها جاءت ردا على تضليل اليهود في ادعائهم إن صلاة المسلمين إذن إلى بيت المقدس كانت باطلة ، وضائعة ولا حساب لها عند الله ! والآية ترد عليهم هذا الزعم ، وهي تقرر أن كل اتجاه قبلة ، فثم وجه الله حيثما توجه إليه عابد . وإنما تخصيص قبلة معينة هو توجيه من عند الله فيه طاعة ، لا أن وجه الله - سبحانه - في جهة دون جهة . والله لا يضيق على عباده ، ولا ينقصهم ثوابهم ، وهو عليم بقلوبهم ونياتهم ودوافع اتجاهاتهم . وفي الأمر سعة . والنية لله ( إن الله واسع عليم ) . . .
{ ولله المشرق والمغرب } يريد بهما ناحيتي الأرض ، أي له الأرض كلها لا يختص به مكان دون مكان ، فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام ، أو الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجدا . { فأينما تولوا } ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة { فثم وجه الله } أي جهته التي أمر بها ، فإن إمكان التولية لا يختص بمسجد أو مكان . أو { فثم } ذاته : أي هو عالم مطلع بما يفعل فيه { إن الله واسع } بإحاطته بالأشياء . أو برحمته يريد التوسعة على عباده ، { عليم } بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلها وعن ابن عمر رضي الله عنهما وأنها نزلت في صلاة المسافر على الراحلة : وقيل في قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم ، وعلى هذا لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارك . وقيل ؛ هي توطئة لنسخ القبلة وتنزيه للمعبود أن يكون في حيز وجهة .
{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }( 115 )
و { المشرق } موضع الشروق ، { والمغرب } موضع الغروب ، أي هما له ملك( {[1152]} ) وما بينهما( {[1153]} ) من الجهات والمخلوقات ، وخصهما بالذكر وإن كانت جملة المخلوقات كذلك لأن سبب الآية اقتضى ذلك( {[1154]} ) ، و «أينما » شرط ، و { تولوا } جزم به ، والجواب في قوله { فثم } ، والمعنى فأينما تولوا نحوه وإليه ، لأن ولّى وإن كان غالب استعمالها أدبر فإنها تقتضي أنه يقبل إلى ناحية ، تقول وليت عن كذا وإلى كذا ، وقرأ الحسن «تولوا » بفتح التاء واللام( {[1155]} ) ، وثمَّ مبنية على الفتح ، وهي في موضع نصب على الظرف ، و { وجه الله } معناه الذي وجهنا إليه( {[1156]} ) ، كما تقول سافرت في وجه كذا أي في جهة كذا .
واختلف الناس في تأويل الوجه الذي جاء مضافاً إلى الله تعالى في مواضع من القرآن ، فقال الحذاق : ذلك راجع إلى الوجود ، والعبارة عنه بالوجه من مجاز كلام العرب ، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدراً ، وقال بعض الأئمة : تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى ، وضعف أبو المعالي هذا القول( {[1157]} ) ، ويتجه في بعض المواضع كهذه الآية أن يراد بالوجه الجهة التي فيها رضاه وعليها ثوابه ، كما تقول تصدقت لوجه الله تعالى ، ويتجه في هذه الآية خاصة أن يراد بالوجه الجهة التي وجهنا إليها في القبلة حسبما يأتي في أحد الأقوال ، وقال أبو منصور في المقنع : يحتمل أن يراد بالوجه هنا الجاه ، كما تقول فلان وجه القوم أي موضع شرفهم ، فالتقدير فثم جلال الله وعظمته .
واختلف المفسرون في سبب هذه الآية ، فقال قتادة : أباح الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يصلي المسلمون حيث شاؤوا ، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس حينئذ ، ثم نسخ ذلك كله بالتحول إلى الكعبة( {[1158]} ) ، وقال مجاهد والضحاك : معناه إشارة إلى الكعبة ، أي حيث كنتم من المشرق والمغرب فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة التي هي وجه الله الذي وجهكم إليه .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا فهي ناسخة لبيت المقدس ، وقال ابن زيد : كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت القدس ، وقالوا : ما اهتدى إلا بنا ، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود : ما ولاهم عن قبلتهم ؟ فنزلت { ولله المشرق والمغرب } الآية ، وقال ابن عمر : نزلت هذه الآية في صلاة النافلة في السفر حيث توجهت بالإنسان دابته( {[1159]} ) ، وقال النخعي : الآية عامة( {[1160]} ) أينما تولوا في متصرفاتكم ومساعيكم { فثم وجه الله } ، أي موضع رضاه وثوابه وجهة رحمته التي يوصل إليها بالطاعة ، وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة : نزلت فيمن اجتهد في القبلة فأخطأ ، وورد في ذلك حديث رواه عامر بن ربيعة قال : «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة ، فتحرى قوم القبلة وأعلموا( {[1161]} ) علامات ، فلما أصبحوا رأو أنهم قد أخطؤوها ، فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فنزلت هذه الآية »( {[1162]} ) ، وذكر قوم هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مع القوم في السفر ، وذلك خطأ( {[1163]} ) ، وقال قتادة أيضا : نزلت هذه الآية في النجاشي ، وذلك أنه لما مات دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه ، فقال قوم كيف نصلي على من لم يصلِّ إلى القبلة قط ؟ فنزلت هذه الآية ، أي إن النجاشي كان يقصد وجه الله وإن لم يبلغة التوجه إلى القبلة ، وقال ابن جبير : نزلت الآية في الدعاء لما نزلت { ادعوني استجب لكم } [ غافر : 60 ] ، قال المسلمون : إلى أين ندعو ، فنزلت { فأينما تولوا فثم وجه الله } ، وقال المهدوي : وقيل هذه الآية منتظمة في معنى التي قبلها ، أي لا يمنعكم تخريب مسجد من أداء العبادات ، فإن المسجد المخصوص للصلاة إن خرب { فثم وجه الله } موجود حيث توليتم . ( {[1164]} )
وقال أيضاً : وقيل نزلت الآية حين صد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت ، و { واسع } معناه متسع الرحمة عليهم أين يضعها ، وقيل
{ واسع } معناه هنا أنه يوسع على عباده في الحكم دينه يسر ، { عليم } بالنيات التي هي ملاك العمل ، وإن اختلفت ظواهره في قبلة وما أشبهها .