التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (115)

قوله تعالى : { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم } جاء في سبب هذه الآية عدة أقوال لعل أصوبها أنه بعد أن تحولت قبلة المسلمين عن بيت المقدس إلى البيت العتيق في مكة بأمر من الله أنكر اليهود ذلك واغتاظوا ، ولم يرضوا بما شرعه الله لعباده من قبلة عظيمة مستديمة يتوجون إليها وتكون لهم على الدوام مثابة . وذلك من تقدير الله وشأنه ، فهو يتعبّد الناس بما شرعه لهم من قبلة وما سواها من أحكام وشعائر من غير أن يكون له في ذلك راد أو معقب .

لقد تغيظ اليهود من ذلك أشد تغيظ ، وساءهم أن يتولى المسلمون عن قبلتهم الأولى التي كانوا عليها ، فزادوا من عداوتهم ونكارتهم للنبي وصحبه ، وجعلوا يفترون على النبي ودينه والمسلمين الأكاذيب . ويثيرون من حولهم الأراجيف ، يحفزهم إلى ذلك ضغينة وتعصب . وهو تعصب ذميم مسف ، يعتمد الصورة والشكل دون الحقيقة أو الجوهر والمضمون . ولا جرم فهو تعصب لا يستند إلى شيء من تفكير سليم أو عقيدة واعية مستبينة سليمة ، ولكنه التعصب الفارغ المتبلّد الذي يعتمد الحماقة والسفه ، ويستند إلى المزاج والهوى .

والآية تبين للناس جميعا أنه يستوي عند الله أن تكون القبلة صوب جهة أو غيرها ، فالجهات كلها من صنع الله وتقديره ، وهو سبحانه يملك الأرض والسماء والحياة والثقلين ، ويملك السماوات والأرض وما بينهما من أشياء وكوائن وما فوق التراب من أحياء نشطة تنوس أو جوامد ثوابت لا تريم ، وهو سبحانه يملك الجهات جميعا بما في الجهات من مشرق ومغرب فذلكم كله لله ، وهو محصور وبارز في قبضته وبين يديه . فلا داعي بعد ذلك أن تخاصم يهود في القبلة مادام ذلك كله مقررا بإذن الله وإرادته . فلا ينبغي أن نعبأ بالجهة في مفهومها الحسي ، ولكن العبرة في أمر الله وفي تقديره ، فهو سبحانه قد تعبّد المؤمنين باتباع القبلة التي ارتضاها وكتبها لهم سواء في ذلك مكة حيث البيت الحرام أو بيت المقدس حيث المسجد الأقصى .

وقوله : { فأينما تولوا فثم وجه الله } أينما أداة شرط تجزم فعلين وما زائدة . { تولوا } فعل الشرط مجزوم بحذف النون ، والجملة المقترنة بالفاء جواب الشرط . فأينما يتوجه الناس يجدوا أن الله أمامهم . فهو سبحانه لا تحيط به الجهات ، ولا تحده الأمكنة والحدود ، ويستوي عنده في المكان أو الزمان مشرق ومغرب أو قريب وبعيد ، فذلك كله في حكم الله وميزانه سواء .

فلا عبرة بعد ذلك للتشبث بالمكان الحسي المحدود الذي تشنجت عليه يهود فإن المكان والزمان لله . وكيفما كان المكان أو الزمان فإنهما محوطان بقدرة الله وعلمه وهيمنته . ومن الناحية الشرعية فقد قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { وحيث ما كنتم قولوا وجوهكم شطره } وقيل : بل الناسخ هو قوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } وذلك يعني أن يتوجه المصلون في صلاتهم نحو الكعبة قبلتهم الأبدية ، وفي ذلك إبطال للتخيير السابق الذي يتوجهون بموجبه كما شاؤوا مشرقا أو مغربا .

ولست مطمئنا للقول بالنسخ هنا ، بل إنني أرجح أن تكون الآية محكمة . فإنه ليس بالضرورة أن يكون مدلول الآية الخيار في الصلاة بين التوجه نحو المشرق أو المغرب . بل المقصود في الغالب أن تتوجه قلوب العباد ومشاعرهم إلى الله . وأن تظل المقاصد والنوايا مشدودة نحو الخالق سبحانه ، ليستقيم العمل ويصفو من درن الشرك والرياء .

وذلك يرتبط أشد ارتباط بقضية العقيدة التي تقوم أول ما تقوم على التوحيد الخالص المبرأ من شوائب الشرك وغبش التصور .

وقوله : { إن الله واسع عليم } الله جلت قدرته يسع الناس والخلائق جميعا بعونه وإحسانه وتفضله وغفرانه ، فهو الكريم المنان الذي تتهاطل آلاؤه وخيراته على الأرض لتشمل الخليقة كلها ، فما من كائن إلا وهو عائش في حومة الفضل من الله سبحانه . وهو سبحانه عليم بخلقه ، عليم بما تجترحه الكائنات من قول أو عمل وما تكنه الصدور من مكنونات وأسرار ، كل ذلك في علم الله الذي لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء{[118]} .


[118]:- تفسير القرطبي جـ 2 ص 79- 84 وتفسير ابن كثير جـ 1 ص 157، 158 وأسباب النزول للنيسابوري ص 24.