الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (115)

قوله تعالى : { وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } : جملةٌ مرتبطةٌ بقولِه : " مَنَعَ مساجدِ الله ، وسعى في خَرابِها " يعني أنه إنْ سَعَى ساعٍ في المَنْعِ مِنْ ذِكْرِهِ تعالى وفي خَرابِ بيوتِه فليسَ ذلك مانعاً من أداءِ العبادَةِ في غيرِها لأنَّ المشرقَ والمغربَ وما بينهما له تعالى ، والتنصيصُ على ذِكْرِ المَشْرقِ والمَغْرِبِ دونَ غيرِهما لوجهين ، أحدُهما : لشَرَفِهما حيث جُعِلا لله تعالى . والثاني : أن يكونَ مِن حَذْفِ المعطوفِ للعِلْم أي : لله المشرقُ والمغربُ وما بينهما كقوله : " تَقِيكم الحَرَّ " أي والبردَ ، وكقولِ الشاعر :

تَنْفي يداها الحصى في كلِّ هاجِرَةٍ *** نَفْيَ الدراهيمِ تَنْقادُ الصيّاريفِ

أي : يَداها ورجلاها ، ومثله :

كأنَّ الحَصَى من خَلْفِها وأمامِها *** إذا نَجَلَتْه رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرَا

أي : رجلُها ويدُها . وفي المشرق والمغرب قَوْلان ، أحدُهما : أنهما اسما مكانِ الشروقِ والغروبِ ، والثاني : أنهما اسما مصدرٍ أي : الإِشراق والإِغرابُ ، والمعنى : لله تَوَلِّي إشراقِ الشمسِ من مَشْرِقها وإغرابِها من مَغْربها ، وهذا يُبْعِدُه قولُه : " فأينما تُوَلُّوا " ، وأَفْرد المشرقَ والمغربَ إذا المرادُ ناحيتاهما ، أو لأنَّهما مصدران ، وجاء المشارقُ والمغاربُ باعتبار وقوعِهما في كلِّ يومٍ ، والمشرقَيْن والمغربَيْن باعتبارِ مَشْرق الشتاءِ والصيف ومَغْربيهما . وكان مِنْ حقِّهما فتحُ العينِ لِما تقدَّم من أنَّه إذا لم تَنْكَسِرْ عينُ المضارعِ فحقُّ اسمِ المصدرِ والزمانِ والمكانِ فتحُ العينِ ، ويجوزُ ذلك قياساً لا تلاوةً .

قوله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ } " أين " هنا اسمُ شرطٍ بمعنى " إنْ " ، و " ما " مزيدةٌ عليها و " تُوَلُّوا " مجزومٌ بها . وزيادةُ " ما " ليست لازمةً لها بدليلِ قوله :

أَيْنَ تَضْرِبْ بنا العُداةَ تَجِدْنا *** . . . . . . . . . . . . .

وهي ظرفُ مكان ، والناصبُ لها ما بعدَها ، وتكونُ اسمَ استفهامٍ أيضاً فهي لفظٌ مشتركٌ بين الشرطِ والاستفهامِ ك " مَنْ " و " ما " . وزعم بعضُهم أن أصلَها السؤالُ عن الأمكنةِ ، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّنه معنى حرفِ الشرط أو الاستفهامِ . وأصلُ تُوَلُّوا : تُوَلِّيوا فَأُعِلَّ بالحَذْفِ . وقرأ الجمهور : تُوَلُّوا بضم التاء واللام بمعنى تَسْتقبلوا ، فإنَّ " وَلَّى " وإن كان غالبُ استعمالِها أَدْبَر فإنها تقتضي الإِقبالَ إلى ناحية ما . تقول : وَلَّيْتُ عن كذا إلى كذا . وقرأ الحسن : " تَوَلَّوا " بفتحِهما ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن يكونَ مضارعاً والأصل : تَتَوَلَّوا مِن التَّوْلِيَةِ فَحَذَف إحدى التاءَيْن تخفيفاً ، نحو : { تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ } [ القدر : 4 ] . والثاني : أن يكونَ ماضياً والضميرُ للغائِبين ردَّاً على قوله : " لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة " فتتناسَقُ الضمائرُ ، وقال أبو البقاء : " والثاني : أنه ماضٍ والضمير للغائبين ، والتقديرُ : أَيْنما يَتَوَلَّوا " يعني أنه وإنْ كان ماضياً لفظاً فهو مستقبلٌ معنىً ، ثم قال : " وقد يَجُوزُ أَنْ يكونَ ماضياً قد وَقَع ، ولا يكونُ " أَيْنَ " شرطاً في اللفظِ بل في المعنى ، كما تقولُ : " ما صَنَعْتَ صنعتُ " إذا أَرَدْتَ الماضي ، وهذا ضعيفٌ لأنَّ " أين " إمَّا شرطٌ أو استفهامٌ وليس لها معنىً ثالثٌ " .

انتهى وهو غيرُ واضحٍ .

قوله : { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } الفاءُ وما بعدَها جوابُ الشرطِ ، فالجملةُ في محلِّ جزم ، و " ثَمَّ " خبرٌ مقدم ، و " وجهُ الله " رفعٌ بالابتداء و " ثَمَّ " اسمُ إشارةٍ للمكانِ البعيدِ خاصةً مثل : هُنا وهَنَّا بتشديدِ النونِ ، وهو مبنيٌّ على الفتحِ لتضمُّنِه معنى حرفِ الإشارة أو حرفِ الخطاب . قال أبو البقاء : " لأنك تقولُ في الحاضر : هُنا ، وفي الغائب هُناك ، وثَمَّ ناب عن هناك " / وهذا ليس بشيءٍ . وقيل : بُني لِشَبَهِهِ بالحَرْفِ في الافتقارِ ، فإنه يَفْتَقِرُ إلى مشارٍ إليه ، ولا يَتَصَرَّف بأكثَر مِنْ جَرِّه ب " مِنْ " ، ولذلك غَلِط بعضُهم في جَعْله مفعولاً به في قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ [ رَأَيْتَ ] } [ الإنسان : 20 ] ، بل مفعولُ " رأيت " محذوف . ومعنى " وَجْهُ الله " جِهَتُه التي ارتضاها قِبْلةً وأمَرَ بالتوجُّه نحوَها ، أو ذاتُه نحو : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، أو المرادُ به الجاهُ ، أي فَثَمَّ جَلالُ الله وعَظَمَتُه مِنْ قولِهم : هو وجهُ القوم ، أو يكونُ صلةً زائداً ، وليس بشيءٍ ، وقيل : المرادُ به العملُ قاله الفراء وعليه قوله :

أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لسْتُ مُحْصِيَه *** ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ