قوله تعالى : { وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } : جملةٌ مرتبطةٌ بقولِه : " مَنَعَ مساجدِ الله ، وسعى في خَرابِها " يعني أنه إنْ سَعَى ساعٍ في المَنْعِ مِنْ ذِكْرِهِ تعالى وفي خَرابِ بيوتِه فليسَ ذلك مانعاً من أداءِ العبادَةِ في غيرِها لأنَّ المشرقَ والمغربَ وما بينهما له تعالى ، والتنصيصُ على ذِكْرِ المَشْرقِ والمَغْرِبِ دونَ غيرِهما لوجهين ، أحدُهما : لشَرَفِهما حيث جُعِلا لله تعالى . والثاني : أن يكونَ مِن حَذْفِ المعطوفِ للعِلْم أي : لله المشرقُ والمغربُ وما بينهما كقوله : " تَقِيكم الحَرَّ " أي والبردَ ، وكقولِ الشاعر :
تَنْفي يداها الحصى في كلِّ هاجِرَةٍ *** نَفْيَ الدراهيمِ تَنْقادُ الصيّاريفِ
كأنَّ الحَصَى من خَلْفِها وأمامِها *** إذا نَجَلَتْه رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرَا
أي : رجلُها ويدُها . وفي المشرق والمغرب قَوْلان ، أحدُهما : أنهما اسما مكانِ الشروقِ والغروبِ ، والثاني : أنهما اسما مصدرٍ أي : الإِشراق والإِغرابُ ، والمعنى : لله تَوَلِّي إشراقِ الشمسِ من مَشْرِقها وإغرابِها من مَغْربها ، وهذا يُبْعِدُه قولُه : " فأينما تُوَلُّوا " ، وأَفْرد المشرقَ والمغربَ إذا المرادُ ناحيتاهما ، أو لأنَّهما مصدران ، وجاء المشارقُ والمغاربُ باعتبار وقوعِهما في كلِّ يومٍ ، والمشرقَيْن والمغربَيْن باعتبارِ مَشْرق الشتاءِ والصيف ومَغْربيهما . وكان مِنْ حقِّهما فتحُ العينِ لِما تقدَّم من أنَّه إذا لم تَنْكَسِرْ عينُ المضارعِ فحقُّ اسمِ المصدرِ والزمانِ والمكانِ فتحُ العينِ ، ويجوزُ ذلك قياساً لا تلاوةً .
قوله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ } " أين " هنا اسمُ شرطٍ بمعنى " إنْ " ، و " ما " مزيدةٌ عليها و " تُوَلُّوا " مجزومٌ بها . وزيادةُ " ما " ليست لازمةً لها بدليلِ قوله :
أَيْنَ تَضْرِبْ بنا العُداةَ تَجِدْنا *** . . . . . . . . . . . . .
وهي ظرفُ مكان ، والناصبُ لها ما بعدَها ، وتكونُ اسمَ استفهامٍ أيضاً فهي لفظٌ مشتركٌ بين الشرطِ والاستفهامِ ك " مَنْ " و " ما " . وزعم بعضُهم أن أصلَها السؤالُ عن الأمكنةِ ، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّنه معنى حرفِ الشرط أو الاستفهامِ . وأصلُ تُوَلُّوا : تُوَلِّيوا فَأُعِلَّ بالحَذْفِ . وقرأ الجمهور : تُوَلُّوا بضم التاء واللام بمعنى تَسْتقبلوا ، فإنَّ " وَلَّى " وإن كان غالبُ استعمالِها أَدْبَر فإنها تقتضي الإِقبالَ إلى ناحية ما . تقول : وَلَّيْتُ عن كذا إلى كذا . وقرأ الحسن : " تَوَلَّوا " بفتحِهما ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن يكونَ مضارعاً والأصل : تَتَوَلَّوا مِن التَّوْلِيَةِ فَحَذَف إحدى التاءَيْن تخفيفاً ، نحو : { تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ } [ القدر : 4 ] . والثاني : أن يكونَ ماضياً والضميرُ للغائِبين ردَّاً على قوله : " لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة " فتتناسَقُ الضمائرُ ، وقال أبو البقاء : " والثاني : أنه ماضٍ والضمير للغائبين ، والتقديرُ : أَيْنما يَتَوَلَّوا " يعني أنه وإنْ كان ماضياً لفظاً فهو مستقبلٌ معنىً ، ثم قال : " وقد يَجُوزُ أَنْ يكونَ ماضياً قد وَقَع ، ولا يكونُ " أَيْنَ " شرطاً في اللفظِ بل في المعنى ، كما تقولُ : " ما صَنَعْتَ صنعتُ " إذا أَرَدْتَ الماضي ، وهذا ضعيفٌ لأنَّ " أين " إمَّا شرطٌ أو استفهامٌ وليس لها معنىً ثالثٌ " .
قوله : { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } الفاءُ وما بعدَها جوابُ الشرطِ ، فالجملةُ في محلِّ جزم ، و " ثَمَّ " خبرٌ مقدم ، و " وجهُ الله " رفعٌ بالابتداء و " ثَمَّ " اسمُ إشارةٍ للمكانِ البعيدِ خاصةً مثل : هُنا وهَنَّا بتشديدِ النونِ ، وهو مبنيٌّ على الفتحِ لتضمُّنِه معنى حرفِ الإشارة أو حرفِ الخطاب . قال أبو البقاء : " لأنك تقولُ في الحاضر : هُنا ، وفي الغائب هُناك ، وثَمَّ ناب عن هناك " / وهذا ليس بشيءٍ . وقيل : بُني لِشَبَهِهِ بالحَرْفِ في الافتقارِ ، فإنه يَفْتَقِرُ إلى مشارٍ إليه ، ولا يَتَصَرَّف بأكثَر مِنْ جَرِّه ب " مِنْ " ، ولذلك غَلِط بعضُهم في جَعْله مفعولاً به في قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ [ رَأَيْتَ ] } [ الإنسان : 20 ] ، بل مفعولُ " رأيت " محذوف . ومعنى " وَجْهُ الله " جِهَتُه التي ارتضاها قِبْلةً وأمَرَ بالتوجُّه نحوَها ، أو ذاتُه نحو : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، أو المرادُ به الجاهُ ، أي فَثَمَّ جَلالُ الله وعَظَمَتُه مِنْ قولِهم : هو وجهُ القوم ، أو يكونُ صلةً زائداً ، وليس بشيءٍ ، وقيل : المرادُ به العملُ قاله الفراء وعليه قوله :
أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لسْتُ مُحْصِيَه *** ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.