غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (115)

114

قوله عز من قائل { ولله المشرق والمغرب } الآية ، الأكثرون على أنها نزلت في أمر يختص بالصلاة ، ومنهم من زعم أنها نزلت في أمر لا يختص بالصلاة أما الفرقة الأولى فاختلفوا على وجوه : أحدها : أراد به تحويل المسلمين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فقال : إن المشرق والمغرب وجميع الأطراف مملوكة له سبحانه ومخلوقة له ، فأينما أمركم باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل بجعل الله تعالى ، فكانت الآية مقدمة لما أراد من نسخ القبلة ، وثانيها عن ابن عباس : لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت رداً عليهم . وثالثها قول أبي مسلم : إن كلاً من اليهود والنصارى زعمت أن الجنة لهم وحدهم فرد الله عليهم ، وذلك أن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لاعتقادهم أنه تعالى صعد السماء من الصخرة ، والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى ولد هناك { إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً } [ مريم : 16 ] فكل منهما وصف معبوده بالحلول في الأماكن ، ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق ؟ ورابعها : قول قتادة وابن زيد : إن الله تعالى نسخ بيت المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاءوا بهذه الآية ، وكان للمسلمين ذلك إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختار التوجه إلى بيت المقدس ، ثم إنه تعالى نسخ ذلك التخيير بتعيين الكعبة . وخامسها أن الآية في حق من يشاهد الكعبة فله الاستقبال من أي جهة شاء . وسادسها : روى عبد الله بن عامر بن ربيعة : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة ، فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه ثم صلينا ، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية عذراً لنا في خطئنا . وهذا الحديث يدل على أنهم حينئذ قد نقلوا إلى الكعبة ، لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ القبلة . وسابعها : عن ابن عمر نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث توجهت به راحلته ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعاً يومئ برأسه نحو المدينة . فمعنى الآية أينما تولوا وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم فثم وجه الله ، أي فقد صادفتم رضاه إن الله واسع الفضل عليم بمصالحكم فمن ثم رخص لكم كيلا يلزم ترك النوافل والتخلف عن الرفقة ، فإن النوافل غير محصورة بخلاف الفرائض فإنها محصورة . فتكليف النزول عن الراحلة لاستقبال القبلة لا يفضي فيها إلى الحرج ، ولا يخفى أن الآية على الوجه الأول ناسخة ، وعلى الوجه الرابع منسوخة ، وعلى سائر الوجوه لا ناسخة ولا منسوخة . وأما الفرقة الثانية فاختلفوا أيضاً فقيل : الخطاب في { تولوا } للمانعين والساعين يريد أنهم أين هربوا فإن سلطاني يلحقهم وتدبيري يسبقهم وعلمي محيط بمكانهم . عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه فقالوا نصلي على رجل ليس بمسلم " فنزلت { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم } [ آل عمران : 199 ] الآية . فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة فنزلت هذه الآية أي الجهات التي يصلي إليها أهل كل ملة لي . فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريد طاعتي وجد ثوابي ، فكان في هذا عذر للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبال المشرق كقوله

{ وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] وعن الحسن ومجاهد والضحاك : لما نزلت { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] قالوا : أين ندعوه ؟ فنزلت ، وعن علي بن عيسى أنه خطاب للمسلمين أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه فللَّه بلاد المشرق والمغرب والجهات كلها ، ففي أي مكان فعلتم التولية التي أمرتم بها بدليل { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] { فولوا وجوهكم شطره } [ البقرة : 144 ] فثم الجهة المأمورة المرضية وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجداً " وقيل : نزلت في المجتهدين في الصلاة أو في غيرها ، وفيه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد رأياً فهو مصيب . ومعنى تولوا في جميع الوجوه تقبلوا بوجوهكم إليها . ويقال : ولى هارباً أي أدبر ، فالتولية من الأضداد ، ومن جعل الخطاب للمانعين احتمل أن يريد بالتولية الإدبار و{ ثم } إشارة إلى المكان خاصة . وقد زعمت المجسمة من الآية أن لله تعالى وجهاً وأيضاً سماه واسعاً ، والسعة من نعوت الأجسام . والجواب أن الآية عليه لا له ، فإن الوجه لو حمل على مفهومه اللغوي لزم خلاف المعقول فإنه إن كان محاذياً للشرقي استحال أن يكون حينئذ محاذياً للغربي ، فلابد من تأويل هو : أن الإضافة للتشريف مثل " بيت الله " و " ناقة الله " لأنه خلقهما وأوجدهما فأي وجه من وجوه العالم وجهاته المضافة إليه بالخلق والتكوين نصبه وعينه فهو قبلة والمراد بالوجه القصد والنية مثل { وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } [ الأنعام : 79 ] أو المراد فثم مرضاة الله مثل

{ إنما نطعمكم لوجه الله } [ الدهر : 9 ] فإن المتقرب إلى رضا أحد شيئاً فشيئاً كالمتوجه إلى شخص ذاهباً إليه شيئاً فشيئاً . و كيف يكون له وجه أو وجهة ، أم كيف يكون جسماً أو جسمانياً وأنه خالق الأمكنة والأحياز والجواهر والأعراض والخالق مقدم على المخلوق تقدماً بالذات والعلية والشرف ؟ فالمراد بالسعة كمال الاستيلاء والقدرة والملك وكثرة العطاء والرحمة والإنعام ، وأنه تعالى قادر على الإطلاق وفي توفية ثواب من يقوم بالمأمورات على شرطها ، وتوفية عقاب من يتكاسل فيها ، عليم بمواقع نياتهم فيجازيهم على حسب أعمالهم .

/خ118