النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (115)

قوله تعالى : { وَاللهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } اختلف أهل التأويل في تأويلها ، وسبب نزولها ، على سبعة أقاويل :

أحدها : أن سبب ذلك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يستقبل بصلاته بيت المقدس بعد هجرته ستة عشر شهراً ، أو سبعة عشر شهراً ، حتى قالت اليهود : إن محمداً وأصحابه ، ما دروا أين قبلتهم حتى هديناهم ، فأمرهم الله تعالى باستقبال الكعبة ، فتكلمت اليهود ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهذا قول ابن عباس .

والثاني : أن هذه الآية نزلت قبل أن يفرض استقبال القبلة ، فأباح لهم أن يتوجهوا بصلاتهم حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب ، وهذا قول قتادة وابن زيد .

والثالث : أنها نزلت في صلاة التطوع للسائر حيث توجه ، وللخائف حيث تمكن من مشرق أو مغرب ، وهذا قول ابن عمر ، روى سعيد بن جبير عنه أنه قال : لما نزلت هذه الآية { فَأَينَمَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } أن تصلي أينما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعاً ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعاً ، يومئ برأسه نحو المدينة{[182]} .

والرابع : أنها نزلت ، فيمن خفيت عليهم القبلة ، ولم يعرفوا جهتها ، فَصَلُّوا إلى جهات مختلفة .

روى عاصم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ، فنزلنا منزلاً ، فجعل الرجل يأخذ الأحجار ، فيعمل مسجداً يصلي فيه ، فلما أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة ، فقلنا : يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه إلى غير القبلة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

والخامس : أنها نزلت في النجاشي ، وروى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إِنَّ أَخَاكُم النَّجَاشِيّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ " {[183]} قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم ، قال فنزلت :

{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم خَاشِعِينَ لِلُّه }[ سورة آل عمران الآية : 199 ] قالوا : فإنه كان لا يصلي إلى القبلة ، فأنزل الله تعالى : { وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمغْرِبُ فَأينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } .

والسادس : أن سبب نزولها أن الله تعالى لما أنزل قوله : { ادعُوني أسْتَجِبْ لَكُم } قالوا إلى أين ؟ فنزلت :

{ فأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ }[ البقرة : 115 ] .

والسابع : أن معناه وحيثما كنتم من مشرق أو مغرب ، فلكم قبلة تستقبلونها ، يعني جهة إلى الكعبة ، وهذا قول مجاهد .

ويجيء من هذا الاختلاف في قوله : { فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } تأويلان : أحدهما : معناه فثم قبلة الله .

والثاني : فثم الله تعالى ، ويكون الوجه عبارة عنه ، كما قال تعالى :{ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ }[ الرحمن : 27 ] .

وأما { ثَمَّ } فهو لفظ يستعلم في الإشارة إلى مكان ، فإن كان قريباً قيل : ( هنا زيد ) ، وإن كان بعيداً قيل : ( هناك زيد ) .


[182]:- مسند أحمد 3/ 332 ونحوه في البخاري في كتاب الوتر.
[183]:- البخاري 3/ 150 والنسائي 4/ 69.