قوله تعالى : { لقد نصركم الله في مواطن } ، أي مشاهد .
قوله تعالى : { كثيرة ويوم حنين } ، وحنين واد بين مكة والطائف . وقال عكرمة : إلى جنب ذي المجاز . وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان ، ثم خرج إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثنى عشر ألفا ، عشرة آلاف من المهاجرين وألفان من الطلقاء ، قال عطاء كانوا ستة عشر ألفا . وقال الكلبي : كانوا عشرة آلاف ، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط ، والمشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف ، وعلى هوازن مالك بن عوف النصري ، وعلى ثقيف كنانة بن عبد يا ليل الثقفي ، فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن سلامة بن وقش : لن نغلب اليوم على قلة ، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ، ووكلوا إلى كلمة الرجل . وفى رواية : فلم يرض الله قوله ، ووكلهم إلى أنفسهم فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري ، ثم نادوا : يا حماة السواد اذكروا الفضائح ، فتراجعوا وانكشف المسلمون . قال قتادة : وذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس فلما انجفل القوم هربوا .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبو خثيمة عن أبي إسحاق قال : قال رجل للبراء بن عازب : يا أبا عمارة فررتم يوم حنين ؟ قال : ولا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم وهم حسر ليس عليهم سلاح ، أو كثير سلاح ، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم ، جمع هوازن وبني نصر ، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطؤون ، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به ، فنزل واستنصر وقال : أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب ، ثم صفهم . ورواه محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق . وزاد قال : فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه . ورواه زكريا عن أبي إسحاق . وزاد قال البراء : كنا إذا احمر البأس نتقي به ، وأن الشجاع منا للذي يحاذي به - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم . وروى شعبة عن أبي إسحاق قال : قال البراء : إن هوازن كانوا قوما رماة ، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم ، فانهزموا ، فأقبل المسلمون على الغنائم فاستقبلونا بالسهام ، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر . قال الكلبي : كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس . وقال آخرون : لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غير : العباس بن المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، فقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ، قال : ثنا أبو طاهر ، أحمد بن عمرو بن سرح ، ثنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، قال : حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال : قال عباس : " شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي ، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين ، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار ، وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع ، وأبو سفيان آخذ بركابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عباس : ناد أصحاب السمرة ، فقال عباس - وكان رجلا صيتا - فقلت بأعلى صوتي : أين أصحاب السمرة ؟ قال : فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، فقالوا : يا لبيك يا لبيك ، قال : فاقتتلوا والكفار ، والدعوة في الأنصار يقولون : يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار ، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم ، فقال : هذا حين حمي الوطيس ، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ، ثم قال : انهزموا ورب محمد ، فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى ، قال : فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فمازلت أري حدهم كليلا ، وأمرهم مدبرا . وقال سلمة بن الأكوع : " غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا قال فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ، ثم قبض قبضة من تراب الأرض ، ثم استقبل به وجوههم ، فقال : شاهت الوجوه ، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينه ترابا بتلك القبضة ، فولوا مدبرين ، فهزمهم الله عز وجل فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين " . قال سعيد بن جبير : أمد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين . وفي الخبر : أن رجلا من نبي نضر يقال له شجرة ، قال للمؤمنين بعد القتال : أين الخيل البلق والرجال الذين عليهم ثياب بيض ، ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم ؟ فأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : تلك الملائكة . قال الزهري : وبلغني أن شيبة بن عثمان بن طلحة قال : استدبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد قتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة ، وكانا قد قتلا يوم أحد ، فأطلع الله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي فالتفت إلي وضرب في صدري وقال أعيذك بالله يا شيبة ، فأرعدت فرائضي ، فنظرت إليه فهو أحب إلي من سمعي وبصري ، فقلت : أشهد أنك رسول الله ، وأن الله قد أطلعك على ما في نفسي . فلما هزم الله المشركين وولوا مدبرين ، انطلقوا حتى أتوا أوطاس وبها عيالهم وأموالهم ، فبعث رسول الله رجلا من الأشعريين يقال له أبو عامر وأمره على جيش المسلمين إلى أوطاس ، فسار إليهم فاقتتلوا ، وقتل : دريد بن الصمة ، وهزم المشركين وسبى المسلمون عيالهم ، وهرب أميرهم مالك بن عوف النصري ، فأتى الطائف فتحصن بها وأخذ ماله ، وأهله فيمن أخذ ، وقتل أمير المسلمين أبو عامر . قال الزهري : أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر ، فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم ، فأتى الجعرانة فأحرم منها بعمرة وقسم فيها غنائم حنين وأوطاس ، وتألف أناسا ، منهم : أبو سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، والأقرع بن حابس ، فأعطاهم .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيميي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو اليمان ، ثنا شعيب ، ثنا الزهري ، أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن أناسا من الأنصار قالوا لرسول الله - حين أفاء على رسوله من أموال هوازن ما أفاء ، فطفق يعطى رجالا من قريش المائة من الإبل - فقالوا : " يغفر الله لرسول صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ؟ قال أنس : فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم ، فأرسل إلى الأنصار ، فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم أحدا غيرهم ، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما كان حديث بلغني عنكم ؟ فقال له فقهاؤهم أما ذووا رأينا يا رسول ، فلم يقولوا شيئا ، وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا : يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى قريشا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر ، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ، قالوا : بلى يا رسول الله قد رضينا ، فقال لهمإنكم سترون بعدي أثرة شديدة ، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض " . وقال يونس عن ابن شهاب : " فإني أعطي رجالا حديثي عهد بالكفر أتألفهم " ، وقال : " فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض " ، قالوا : سنصبر " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا وهيب ، ثنا عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد عن عاصم قال : " لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا ، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصابه الناس ، فخطبهم فقال : يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وكنتم عالة فأغناكم الله بي ؟ كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن قال : ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن ؟ قال : لو شئتم قلتم كذا وكذا ، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم ؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم ، الأنصار ، شعار والناس دثار ، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض " . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا محمد بن أبي عمرو المكي ، ثنا سفيان عن عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عبادة بن رفاعة ، عن رافع بن خديج قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل ، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك ، فقال عباس بن مرداس : فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع أتجعل نهبي ونهب العب يدبين عيينة والأقرع وما كنت دون امرئ منهما ومن تخفض اليوم لا يرفع قال : فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة . وفى الحديث أن ناسا من هوازن أقلبوا مسلمين بعد ذلك ، فقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس ، وقد أخذت أبناؤنا ونساؤنا وأموالنا .
أخبرنا عبد الواحد بن المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا سعيد بن عفير ، حدثني الليث ، حدثني عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير : أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين ، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه ، فاختاروا إحدى الطائفتين : إما السبي ، وإما المال . قالوا : فإنا نختار سبينا . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال : أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين ، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم ، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل ، ومن أحب أن يكون على حظ حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا ، فليفعل فقال الناس : قد طيبنا ذلك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ، فرجع الناس ، فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا . فأنزل الله تعالى في قصة حنين : " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم " ، حتى قلتم : لن نغلب اليوم من قلة ، " فلم تغن عنكم " ، كثرتكم ، " شيئا " ، يعنى إن الظفر لا يكون بالكثرة ، " وضاقت عليكم الأرض بما رحبت " ، أي برحبها وسعتها ، " ثم وليتم مدبرين " ، منهزمين .
ثم انتقلت السورة الكريمة من نهى المؤمنين عن موالاة المشركين مهما بالغت درجة قرابتهم ، وعن إيثارهم محبة الآباء والأبناء على محبة الله . . انتقلت من ذلك إلى تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم . حيث نصرهم - سبحانه - في حنين بعد أن ولوا مدبرين دون أن تنفعهم كثرتهم وقوتهم فقال - تعالى - : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله . . . غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قال ابن كثير . هذه أول آية نزلت من براءة يذكر - تعالى - المؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله ، وأن ذلك من عنده - تعالى - : وبتأييده وتقديره لا بعددهم ، ونبههم إلى أن النصر من عند سواء قل الجمع أم كثر ، فإنهم يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولوا مدبرين إلا القليل منهم . . . ثم أنزلا لله نصره على رسوله والمؤمنين .
" وقد كانت واقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة : وذلك أنه لما فرغ - صلى الله عليه وسلم - من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم بلغه أن هوزان جمعوا له ليقاتلوه ، معهم ثقيف بكمالها وبنو سعد بن بكر .
فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيشه الذي جاء للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين . فسار بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العدو ، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين ، فكانت فيه الموقعة في أول النهار في غلس الصبح .
انحدروا في الاودى وقد كمنت فيه هوزان ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حمله رجل واحد . . فعند ذلك ولى المسلمون الأدبار ، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت معه من أصحابه قريب من مائة .
ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - عمه العباس - وكان جهير الصوت - أن ينادى بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة - أى شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون تحتها على أن لا يفروا عنه - فجعل ينادى بهم . . فجعلوا يقولون : ليبيك لبيك .
وانعطف الناس فتراجعوا . . فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من تراب ثم رمى بها القوم ، فما بقى إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفائهم يتقلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين ديدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
هذه خلاصة لغزوة حنين التي اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش تعداده اثنا عشر ألفاً ، فلما أعجبتهم هذه الكثرة والقوة . . . أصيبوا بالهزيمة في أو معركة . . . ليعلموا أن كثرتهم لن تغنى عنهم شيئاً إذا لم يكن عون الله معهم .
فقوله - تعالى - : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } تذكير للمؤمنين ببعض نعم الله عليهم ؛ حتى يداموا على طاعته ومحبته .
وحتى لا يغتروا بقوتهم مهما كثرت .
والمواطن : جمع موطن . وهو المكان الذي يقيم فيه الإِنسان . يقال : استوطن فلان بمكان كذا ، إذا جعله وطنا له .
والمراد بالمواطن هنا : الأماكن التي حدثت فيها الحروب بين المسلمين وأعدائهم .
قال الآلوسى : وقوله : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } معطوف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على ظرف المكان وعكسه جائز . . . وأوجب الزمخشرى كون { يَوْمَ } منصوباً بفعل مضمر والعطف من قبيل عطف الجملة على الجملة . .
وقوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } بدل من يوم حنين ، أو عطف بيان له .
وأعجبتكم : من الإِعجاب بمعنى السرور بما يتعجب منه . وسبب هذا الإِعجاب أن عدد المسلمين كان اثنا عشر ألفا ، وعددهم أعدائهم كان أربعة آلاف .
وقوله : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } بيان للأثر السئ الذي أعقب الإِعجاب بالكثرة ، وأن سرورهم بهذه الكثرة لم يدم طويلاً ، بل تبعه الحزن والهزيمة .
وقوله : { تُغْنِ } من الغناء بمعنى النفع . تقول : ما يغنى عنه : هذا الشئ ، أى : ما يجزئ عنه وما ينفعك .
وقوله : { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } بيان لشدة خوفهم وفزعهم .
قال القرطبى : والرحب - بضم الراء - السعة . تقول منه : فلان رحب الصدر . والرحب - بالفتح - الواسع . تقول منه : بلد رحب وأرض رحبة .
وقيل : الباء بمعنى مع ، أى : وضاقت عليكم الأرض مع رحبها ، وقيل معنى على . أى : على رحبها . وقيل المعنى برحبها فتكون " ما " مصدرية .
والمعنى : اذكروا - أيها المؤمنون - نعم الله عليكم ، وحافظوا عليها بالشكر وحسن الطاعة ، ومن مظاهر هذه النعم أنه - سبحانه - قد نصركم على أعدائاكم مع قلتكم . في مواقف حروب كثيرة ؛ كغزوة بدر ، وغزوة بنى قينقاع والنضير . . كما نصركم . أيضاً . في يوم غزوة حنين ، وهو اليوم الذي راقتكم فيه كثرتكم فاعتمدتم عليها حتى قال بعضكم : لن نغلب اليوم من قلة . .
ولكن هذه الكثرة التي أعجبتم بها لم تنفعكم شيئاً من النفع في أمر العدو بل انهزمتم أمامه في أول الأمر ، وضاقت في وجوهكم الأرض مع رحابتها وسعتها بسبب شدة خوفكم ، فكنتم كما قال الشاعر :
كأن بلاد الله وهى عريضة . . . على الخائف المطلوب كِفَّة حابل
ووقوله : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } تذييل مؤكد لما قبله وهو شدة خوفهم .
ووليتم : من التولى مبعنى الإِعراض . ومدبرين : من الإِبار بمعنى الذهاب إلى الخلف .
أى : ثم وليتم الكفار ظهوركم منهزمين لا تلوون على شئ .
وهكذا ، نرى الآية الكريمة تصور ما حدث من المؤمنين في غزوة حنين تصويراً بديعاً معجزاً . . فهى تنتقل من تصوير سرورهم بالكثرة ، إلى تصوير عدم نفعهم بهذه الكثرة ، إلى تصوير شدة خوفهم حتى لكأن الأرض على سعتها تضيق بهم ، وتقف في وجوههم ، إلى تصوير حركاتهم الحسية المتثلة في تولية الأدبار ، والنكوص على الأعقاب .
ثم لمسة للمشاعر بالذكرى ، وباستعراض صفحة من الواقع الذي عاشه المسلمون إذ ذاك منذ قريب . . المواطن التي نصرهم الله فيها ، ولم تكن لهم قوة ولا عدة . ويوم حنين الذي هزموا فيه بكثرتهم ثم نصرهم الله بقوته . يوم أن انضم إلى جيش الفتح ألفان فقط من الطلقاء ! يوم أن غفلت قلوب المسلمين لحظات عن الله مأخوذة بالكثرة في العدد والعتاد . ليعلم المؤمنون أن التجرد لله ، وتوثيق الصلة به هي عدة النصر التي لا تخذلهم حين تخذلهم الكثرة في العدد والعتاد ؛ وحين يخذلهم المال والإخوان والأولاد :
( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم وليتم مدبرين ؛ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، وبذلك جزاء الكافرين . ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ، والله غفور رحيم ) .
ولقد كان نصر الله لهم في المواطن الكثيرة قريبا من ذاكرتهم لا يحتاج إلى أكثر من الإشارة . فأما وقعة حنين فكانت بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة . وذلك لما فرغ [ ص ] من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله [ ص ] فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه ، وأن أميرهم مالك بن عوف النضري ، ومعه ثقيف بكمالها ، وبنو جشم ، وبنو سعد ابن بكر ، وأوزاع من بني هلال - وهم قليل - وناس من بني عمرو بن عامر وعوف بن عامر ؛ وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم ؛ وجاءوا بقضهم وقضيضهم . فخرج إليهم رسول الله [ ص ] في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة ، وهم الطلقاء ، في ألفين ؛ فسار بهم إلى العدو ؛ فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له " حنين " فكانت فيه الواقعة في أول النهار في غلس الصبح . انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم . فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين - كما قال الله عز وجل - وثبت رسول الله [ ص ] يومئذ وهو راكب بغلته الشهباء ، يسوقها إلى نحر العدو ، والعباس آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب آخذ بركابها الأيسر ، يثقلانها لئلا تسرع السير ، وهو ينوه باسمه - عليه الصلاة والسلام - ويدعو المسلمين إلى الرجعة ، ويقول : " إلي يا عباد الله . إلي أنا رسول الله " ويقول في تلك الحال : " أنا النبي لا كذب . أنا ابن عبدالمطلب " وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، ومنهم من قال ثمانون ؛ فمنهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - والعباس وعلي والفضل بن عباس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة بن زيد ، وغيرهم - رضي الله عنهم - ثم أمر النبي [ ص ] عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة - يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على ألا يفروا عنه - فجعل ينادي بهم : يا أصحاب السمرة ، ويقول تارة : يا أصحاب سورة البقرة . فجعلوا يقولون : يا لبيك ، يا لبيك . وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول - الله [ ص ] - حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله ، ورجع بنفسه إلى رسول الله [ ص ] فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله [ ص ] أمرهم رسول الله [ ص ] أن يصدقوا الحملة . . . وانهزم المشركون فأتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله [ ص ] .
هذه هي المعركة التي اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش عدته اثنا عشر ألفا فأعجبتهم كثرتهم ، وغفلوا بها عن سبب النصر الأول ، فردهم الله بالهزيمة في أول المعركة إليه ؛ ثم نصرهم بالقلة المؤمنة التي ثبتت مع رسول الله [ ص ] والتصقت به .
والنص يعيد عرض المعركة بمشاهدها المادية ، وبانفعالاتها الشعورية :
( إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبري ) . .
فمن إنفعال الإعجاب بالكثرة ، إلى زلزلة الهزيمة الروحية ، إلى انفعال الضيق والحرج حتى لكأن الأرض كلها تضيق بهم وتشد عليهم . إلى حركة الهزيمة الحسية ، وتولية الأدبار والنكوص على الأعقاب . .
{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } يعني مواطن الحرب وهي مواقفها . { ويوم حُنين } وموطن يوم حنين ويجوز أن يقدر في أيام مواطن أو يفسر الموطن بالوقت كمقتل الحسين ولا يمنع إبدال قوله : { إذ أعجبتكم كثرتكم } منه أن يعطف على موضع في { مواطن } فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جميع المواطن . و{ حنين } واد بين مكة والطائف حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وكانوا اثني عشر ألفا ، العشرة الذين حضروا فتح مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء هوازن وثقيفا وكانوا أربعة آلاف فلما التقوا قال النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره من المسلمين : لن تغلب اليوم من قلة ، إعجابا بكثرتهم واقتتلوا قتالا شديدا فأدرك المسلمين إعجابهم واعتمادهم على كثرتهم فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذا بلجامه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث ، وناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته فقال للعباس - وكان صيتا – " صح بالناس " ، فنادى : يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا عنقا واحدا يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال صلى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس ، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم ثم قال : " انهزموا ورب الكعبة " فانهزموا . { فلم تُغن عنكم } أي الكثرة . { شيئا } من الإغناء أو من أمر العدو . { وضاقت عليكم الأرض بما رحّبت } برحبها أي بسعتها لا تجدون فيها مفرا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه . { ثم ولّيتم } الكفار ظهوركم . { مدبرين } منهزمين والإدبار الذهاب إلى خلف الإقبال .
هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعد الله نعمه عليهم ، و { مواطن } جمع موطِن بكسر الطاء ، والموطِن موضع الإقامة أو الحلول لأنه أول الإقامة ، و «المواطن » المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة ، ولم يصرف { مواطن } لأنه جمع ونهاية جمع ، { ويوم } عطف على موضع قوله { في مواطن } أو على لفظة بتقدير وفي يوم ، فانحذف حرف الخفض ، و { حنين } واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز وصرف حين أريد به الموضع والمكان ، ولو أريد به البقعة لم يصرف كما قال الشاعر [ حسان رضي الله عنه ] : [ الكامل ]
نصروا نبيَّهم وشدُّوا أزْرَه*** بحنينَ يومَ تَوَاكلِ الأبطالِ{[5580]}
وقوله { إذ أعجبتكم كثرتكم } روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال حين رأى حملته اثني عشر ألفاً قال : «لن نغلب اليوم من قلة » ، روي أن رجلاً من أصحابه قالها فأراد الله إظهار فأراد الله إظهار العجز فظهر حين فر الناس ، ثم عطف القدر بنصره ، وقوله { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } أي بقدر ما هي رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها ، ف «ما » مصدرية ، وقوله { ثم وليتم مدبرين } يريد فرار الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : واختصار هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفاً سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها وعليهم مالك بن عوف النصري وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو ، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعوا بحنين ، فلما تصافَّ الناس حمل المشركون من مجاني الوادي ، فانهزم المسلمون ، قال قتادة : ويقال إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء ، وقال أبو عبد الرحمن الفهري : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، يومئذ وكان على فرس قد اكتنفه العباس عمه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وبين يديه أيمن بن أم أيمن ، وثم قتل رحمه الله ، فلما رأى رسول الله عليه وسلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض ، قاله البراء بن عازب ، واستنصر الله عز وجل فأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها وجوه الكفار ، وقال : شاهت الوجوه ، وقال عبد الرحمن : تطاول من فرسه فأخذ قبضة التراب ونزلت الملائكة لنصره ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يا للأنصار ، وأمر رسول الله عليه وسلم العباس أن ينادي أين أصحاب الشجرة أين أصحاب سورة البقرة ، فرجع الناس عنقاً واحداً{[5581]} وانهزم المشركون ، قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم قالوا لم يبق منا أحد إلا دخل في عينيه من ذلك التراب ، واستيعاب هذه القصة في كتاب السير .
وظاهر كلام النحاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أربعة عشر ألفاً ، وهذا غلط ، و { مدبرين } نصب على الحال المؤكدة كقوله : { وهو الحق مصدقاً }{[5582]} والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الإدبار .