معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

قوله تعالى : { فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } من مثل خلقكم حلائل . قيل : إنما قال : من أنفسكم لأنه خلق حواء من ضلع آدم . { ومن الأنعام أزواجاً } أصنافاً ذكوراً وإناثاً ، { يذرؤكم } يخلقكم ، { فيه } أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقيل : على هذا الوجه من الخلقة . قال مجاهد : نسلاً بعد نسل من الناس والأنعام . وقيل : " في " ، بمعنى الباء ، أي : يذرؤكم به . وقيل : معناه يكثركم بالتزويج . { ليس كمثله شيء } مثل صلة ، أي : ليس هو كشيء ، فأدخل " المثل " للتوكيد ، كقوله : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } ( البقرة-137 ) ، وقيل : " الكاف " صلة ، مجازه : ليس مثله شيء . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس له نظير . { وهو السميع البصير }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

{ فَاطِرُ السماوات والأرض } أى هو خالقهما وموجدهما على غير مثال سابق ، من فطر الشئ إذا ابتدعه واخترعه دون أن يُسبَق إلى ذلك .

{ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } أى : جعل لكم - سبحانه - بقدرته من جنس انفسكم أزواجا ، أى : نساء تجمع بينكم وبينهن المودة والرحمة ، كما قال - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } وقوله - سبحانه - : { وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } معطوف على ما قبله . أى : كما خلق لكم من أنفسكم أزواجا ، خلق - أيضا - للأنعام من جنسها إناثا ، ليحصل التوالد والتناسل والتعمير لهذا الكون .

وقوله - تعالى - { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } بيان للحكمة من هذا الجعل والخلق للأزواج .

والذرء : التكاثر والبث . يقال : ذرأ فلان الشئ ، إذا بثه وكثره .

والضمير المنصوب فى قوله { يَذْرَؤُكُمْ } يعود إلى المخاطبين وإلى الأنعام ، على سبيل التغليب للعقلاء على غيرهم .

والضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى التزاوج بين الذكور والإِناث المفهوم من قوله - تعالى - : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } .

أى : يكثركم وينميكم بسبب هذا التزاوج الذى يحصل بين ذكوركم وإناثكم حيث يتناسل - أحيانا - بين الذكر الواحد والأنثى الواحدة ، عدد كبير من الأولاد .

وقال - سبحانه - { يَذْرَؤُكُمْ فِيه } ولم يقل يذرؤكم به أى : بسببه ، للأشعار بان هذا التزواج قد صار مثل المنبع والأصل للبث والتكثير .

قال - تعالى - : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } .

قال بعض العلماء : فإن قيل : ما وجه إفراد الضمير المجرور فى قوله { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } مع أنه على ما ذكرتم ، يعود إلى الذكور والإِناث من الآدميين والأنعام ؟ .

فالجواب : أن من أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن . رجوع الضمير بصيغة الإِفراد إلى المثنى أو الجمع باعتبار ما ذكر .

ومنه قوله - تعالى - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ } أى : يأتيكم بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم .

ثم نزه - سبحانه - ذاته عن الشبيه أو النظير . . فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .

أى : مثله شئ - تعالى - : لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله ، فالكاف مزيدة فى خبر { لَيْسَ } و { شَيْءٌ } اسمها . أى : ليس شئ مثله .

أو أن الكاف أصلية . فيكون المعنى : ليس مثله - تعالى - أحد لا فى الذات ولا فى الصفات ولا فى الأفعال .

وذلك كقول العرب : مثلك لا يبخل ، يعنون : أنت لا تبخل على سبيل الكتابة ، قصدا إلى المبالغة فى نفى البخل عن المخاطب بنفيه عن مثله ، فيثبت انتفاؤه عنه بدليله .

والمقصود من الجملة الكريمة على كل تفسير : تنزيهه - تعالى - عن مشابهة خلقه فى الذات أو الصفات أو الأفعال .

قال صاحب الكشاف : قالوا : مثلك لا يبخل ، فنفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة فى ذلك فسلكوا به طريق الكناية ، لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده ، وعمن هو على أخص أوصافه ، فقد نفوه عنه .

ونظيره قولك للعربى : العرب لا تحفر الذمم ، كان أبلغ من قولك : أنت لا تخفر . .

وقوله - تعالى - : { وَهُوَ السميع البصير } أى : وهو - سبحانه - السمي لكل أقوال خلقه ، البصير بما يسرونه وما يعلنونه من أفعال .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

ثم يعقب مرة أخرى بما يزيد هذه الحقيقة استقراراً وتمكيناً :

( فاطر السماوات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً . يذرؤكم فيه . ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) . .

فالله منزل ذلك القرآن ليكون حكمه الفصل فيما يختلفون فيه من شيء . . هو ( فاطر السماوات والأرض ) . . وهو مدبر السماوات والأرض . والناموس الذي يحكم السماء والأرض هو حكمه الفصل في كل ما يختص بهما من أمر . وشؤون الحياة والعباد إن هي إلا طرف من أمر السماوات والأرض ؛ فحكمه فيها هو الحكم الذي ينسق بين حياة العباد وحياة هذا الكون العريض ، ليعيشوا في سلام مع الكون الذي يحيط بهم ، والذي يحكم الله في أمره بلا شريك .

والله الذي يجب أن يرجعوا إلى حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو خالقهم الذي سوى نفوسهم ، وركبها : ( جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ) . . فنظم لكم حياتكم من أساسها ، وهو أعلم بما يصلح لها وما تصلح به وتستقيم . وهو الذي أجرى حياتكم وفق قاعدة الخلق التي اختارها للأحياء جميعا : ( ومن الأنعام أزواجاً ) . . فهنالك وحدة في التكوين تشهد بوحدانية الأسلوب والمشيئة وتقديرها المقصود . . إنه هو الذي جعلكم - أنتم والأنعام - تتكاثرون وفق هذا المنهج وهذا الأسلوب . ثم تفرد هو دون خلقه جميعا ، فليس هنالك من شيء يماثله - سبحانه وتعالى - : ( ليس كمثله شيء ) . . والفطرة تؤمن بهذا بداهة . فخالق الأشياء لا تماثله هذه الأشياء التي هي من خلقه . . ومن ثم فإنها ترجع كلها إلى حكمه عندما تختلف فيما بينها على أمر ، ولا ترجع معه إلى أحد غيره ؛ لأنه ليس هناك أحد مثله ، حتى يكون هناك أكثر من مرجع واحد عند الاختلاف .

ومع أنه - سبحانه - ( ليس كمثله شيء ) . . فإن الصلة بينه وبين ما خلق ليست منقطعة لهذا الاختلاف الكامل . فهو يسمع ويبصر : ( وهو السميع البصير ) . . ثم يحكم حكم السميع البصير .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

وقوله : { فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : خالقهما وما بينهما ، { جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي : من جنسكم وشكلكم ، منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا وأنثى ، { وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا } أي : وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج .

وقوله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : يخلقكم فيه ، أي : في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم {[25794]} فيه ذكورا وإناثا ، خلقا من بعد خلق ، وجيلا بعد جيل ، ونسلا بعد نسل ، من الناس والأنعام .

وقال البغوي رحمه الله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقيل : في هذا الوجه من الخلقة .

قال مجاهد : ونسلا بعد نسل من الناس والأنعام .

وقيل : " في " بمعنى " الباء " ، أي : يذرؤكم به .

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي : ليس كخالق الأزواج كلها شيء ؛ لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }


[25794]:- (1) في أ: "نوعكم".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

{ فاطر السموات والأرض } خبر آخر ل{ ذلكم } أو مبتدأ خبره . { جعل لكم } وقرئ بالجر على البدل من الضمير أو الوصف لإلى الله . { من أنفسكم } من جنسكم . { أزواجا } نساء . { ومن الأنعام أزواجا } أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا ، أو خلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا وأناثا ، { يذرؤكم } يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذر والذرو والضمير على الأول للناس ، و{ الأنعام } على تغليب المخاطبين العقلاء . { فيه } في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد ، فإنه كالمنبع للبث والتكثير . { ليس كمثله شيء } أي ليس مثله شيء يزاوجه ويناسبه ، والمراد من مثله ذاته كما في قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى ، ونظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب ألا وفيهم الطيب الطاهر لذاته . ومن قال الكاف فيه زائدة لعله عني أنه يعطى معنى { ليس مثله } غير أنه آكد لما ذكرناه . وقيل " مثله " صفته أي ليس كصفته صفة . { وهو السميع البصير } لكل ما يسمع و يبصر .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

{ فَاطِرُ السماوات والأرض ِ } .

خبر ثانٍ عن الضمير في قوله تعالى : { وهو على كل شيء قدير } [ الشورى : 9 ] ، وما بينهما اعتراض كما علمت آنفاً أُعقب به أنه على كل شيء قدير ، فإن خلق السماوات والأرض من أبرز آثار صفة القدرة المنفرد بها .

والفاطر : الخالق ، وتقدم في أوّل سورة فاطر ( 1 ) .

{ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا وَمِنَ الأنعام أزواجا يَذْرَؤُكُمْ فيه } .

جملة في موضع الحال من ضمير { فاطر } لأن مضمونها حال من أحوال فَطْر السماوات والأرض فإن خلق الإنسان والأنعام من أعجب أحوال خلق الأرض . ويجوز كونها خبراً ثالثاً عن ضمير { وهو على كل شيء قدير } [ الشورى : 9 ] .

والمعنى : قَدَّر في تكوين نوع الإنسان أزواجاً لأفراده ، ولما كان ذلك التقدير مقارناً لأصلِ تكوين النوع جيء فيه بالفعل الماضي .

والخطاب في قوله : { لكم } للنّاس كلّهم . والخطاب التفات من الغيبة . واللام للتعليل . وتقديم { لكم } على غيره من معمولات { جعل } ليُعرف أنه معمول لذلك الفعل فلا يتوهم أنه صفة ل { أزواجاً } ، وليكون التعليل به ملاحظاً في المعطوف بقوله { ومن الأنعام أزواجاً } .

والأزواج : جمع زوج وهو الذي ينضمُّ إلى فرد فيصير كِلاهما زوجاً للآخر والمراد هنا : الذكور والإناث من النّاس ، أي جعَل لمجموعكم أزواجاً ، فللذكور أزواج من الإناث ، وللنساء أزواج من الرّجال ، وذلك لأجْل الجميع لأن بذلك الجعل حصلت لذة التأنس ونعمة النسل .

ومعنى { من أنفسكم } من نوعكم ، ومن بعضكم ، كقوله : { فسلّموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] وقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] . وكون الأزواج من أنفسهم كمال في النعمة لأنه لو جعل أحد الزوجين من نوع آخر لفات نعيم الأنس ، وأما زعم العرب في الجاهلية أن الرجل قد يتزوج جنيَّة أو غُولاً فذلك من التكاذيب وتخيلات بعضهم ، وربّما عرض لبعض النّاس خبَال في العقل خاصّ بذلك فتخيل ذلك وتحدث به فراج عن كل أبْلَه .

وقوله : { ومن الأنعام أزواجاً } عطف على { أزواجاً } الأول فهو كمفعول ل { جعل } والتقدير : وجعل من الأنعام أزواجاً ، أي جعل منها أزواجاً بعضها لبعض . وفائدة ذكر أزواج الأنعام دون أزواج الوحش : أن في أنواع الأنعام فائدة لحياة الإنسان لأنها تعيش معه ولا تنفر منه وينتفع بألبانها وأصوافها ولحومها ونسلها وعملها من حمْل وحرث ، فبِجَعْلها أزواجاً حصل معظم نفعها للإنسان .

والذرءُ : بث الخلق وتكثيره ، ففيه معنى توالي الطبقات على مرّ الزمان إذ لا منفعة للنّاس من أزواج الأنعام باعتبارها أزواجاً سوى ما يحصل من نسلها .

وضمير الخطاب في قوله : { يذرؤكم } للمخاطبين بقوله : { جعل لكم } . ومرادُ شموله لجعل أزواج من الأنعام المتقدم ذكره لأن ذكر أزواج الأنعام لم يكن هَمَلاً بل مراداً منه زيادة المنّة فإن ذَرْءَ نسل الإنسان نعمة للنّاس وذَرْء نسل الأنعام نعمة أخرى للنّاس ، ولذلك اكتفى بذكر الأزواج في جانب الأنعام عن ذكر الذرء إذ لا منفعة للناس في تزاوج الأنعام سوى ما يحصل من نسلها .

وإذ كان الضمير ضمير جماعة العقلاء وكان ضميرَ خطاب في حين أن الأنعام ليست عقلاء ولا مخاطبة ، فقد جاء في ذلك الضمير تغليب العقلاء إذ لم يذكر ضمير صالح للعقلاء وغيرهم كأن يقال : يذراككِ بكسر الكاف على تأويل إرَادة خطاب الجماعة .

وجاء فيه تغليب الخطاب على الغيبة ، فقد جاء فيه تغليبان وهو تغليب دقيق إذ اجتمع في لفظ واحد نوعان من التغليب كما أشار إليه الكشاف والسكاكي في مبحث التغليب من « المفتاح » .

وضمير { فيه } عائد إلى الجَعْل المفهوم مِن قوله { جعل لكم } ، أي في الجعل المذكور على حدّ قوله : { اعدِلُوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] . وجيء بالمضارع في { يذرؤكم } لإفادة التجدد والتجدُّد أنسب بالامتنان .

وحرف ( في ) مستعار لمعنى السببية تشبيهاً للسبب بالظرف في احتوائه على مسبباته كاحتواء المنبع على مائه والمعدن على ترابه ومثله قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] .

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السميع البصير } .

خبر ثالث أو رابع عن الضمير في قوله : { وهو على كل شيء قدير } [ الشورى : 9 ] . ومَوقع هذه الجملة كالنتيجة للدليل فإنه لما قُدم ما هو نِعمٌ عظيمة تبيَّن أن الله لا يماثِله شيء من الأشياء في تدبيره وإنعامه .

ومعنى { ليس كمثله شيء } ليس مثلَه شيء ، فأقحمت كاف التشبيه على ( مِثل ) وهي بمعناهُ لأن معنى المِثْل هو الشبيه ، فتعيّن أن الكاف مفيدة تأكيداً لمعنى المِثل ، وهو من التأكيد اللّفظي باللّفظ المرادف من غير جنسه ، وحسَّنه أن الموكِّد اسم فأشبه مدخول كاف التشبيه المخالف لمعنى الكاف فلم يكن فيه الثقل الذي في قول خِطام المجاشعي :

وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ{[368]}

وإذ قد كان المثل واقعاً في حيّز النفي فالكاف تأكيد لنفيه فكأنَّه نُفِي المثلُ عنه تعالى بجملتين تعليماً للمسلمين كيف يُبطلون مماثلة الأصنام لله تعالى . وهذا الوجه هو رأي ثعْلب وابن جنِّي والزجّاج والراغب وأبي البقاء وابن عطية .

وجعله في « الكشاف » وجهاً ثانياً ، وقدّم قبله أن تكون الكاف غير مزيدة ، وأن التقدير : ليس شبيه مثله شيء والمراد : ليس شبه ذاته شيء ، فأثبت لذاته مثلاً ثم نفَى عن ذلك المثل أن يكون له مماثل كنايةً عن نفي المماثل لذات الله تعالى ، أي بطريق لازم اللازم لأنه إذا نفي المِثْل عن مِثْله فقد انتفى المثل عنه إذ لو كان له مثل لما استقام قولك : ليس شيء مثلَ مثلِه . وجعله من باب قول العرب : فلان قد أيفعت لِدَاتُه ، أي أيفع هو فكُني بإيفاع لِدَاته عن إيفاعه . وقول رُقَيْقَةَ بنتتِ صَيفي{[369]} في حديث سُقيا عبد المطلب " ألاَ وفيهم الطَّيِّبُ الطاهرُ لداتُه " اه . أي ويكون معهم الطيّبُ الطاهرُ يعني النبي صلى الله عليه وسلم

وتبعه على ذلك ابن المنير في « الانتصاف » ، وبعض العلماء يقول : هو كقولك ليس لأخي زيد أخ ، تريد نفي أن يكون لزيد أخ لأنه لو كان لزيد أخ لكان زيد أخا لأخيه فلما نَفَيتَ أن يكون لأخيه أخ فقد نَفيتَ أن يكون لزيد أخ ، ولا ينبغي التعويل على هذا لما في ذلك من التكلّف والإبهام وكلاهما مما ينبو عنه المقام .

وقد شملَ نفيُ المماثلة إبطالَ ما نسبُوا لله البناتتِ وهو مناسبة وقوعِه عقب قوله : { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } الآية .

وحديثُ سقيا عبد المطلب ، أي خبر استسقائه لقريش أن رقيقة بنت أبي صيفي قالت : تتابعتْ على قريش سنون أقحلت الضرعَ وأدَقَّتْ العَظم ، فبينا أنا نائمة إذا هاتف يهتف : « يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه ألاَ فانظروا رجلاً منكم وَسيطاً عُظَاما جُسَاماً أبيضَ أَوْطَف الأهداب سهل الخدّين أشمّ العرين فليخلص هو وولده ، ألا وفيهم الطيّبُ الطَاهرُ لداته وليهبط إليه من كل بطن رجل فليشنُوا من الماء وليمسوا من الطيب ثم ليرتقُوا أبا قبيس فليستسق الرجل وليؤمنوا فعثتم ما شئتم » الخ . قالوا : وكان معهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذٍ غلام .

واعلم أن هذه الآية نفت أن يكون شيء من الموجودات مثلاً لله تعالى . والمثل يُحمل عند إطلاقه على أكمل أفراده ، قال فخر الدّين « المثلان : هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته » اه . فلا يسمّى مثلاً حقاً إلا المماثل في الحقيقة والماهية وأجزائها ولوازمها دون العوارض ، فالآية نفت أن يكون شيء من الموجودات مماثلاً لله تعالى في صفات ذاته لأن ذات الله تعالى لا يماثلها ذواتُ المخلوقات ، ويلزم من ذلك أن كل ما ثبت للمخلوقات في محسوس ذواتها فهو منتففٍ عن ذات الله تعالى . وبذلك كانت هذه الآية أصلاً في تنزيه الله تعالى عن الجوارح والحواسّ والأعضاء عند أهل التأويل والذين أثبتوا لله تعالى ما ورد في القرآن مما نسميه بالمتشابه فإنما أثبتوه مع التنزيه عن ظاهره إذ لا خلاف في إعمال قوله : { ليس كمثله شيء } وأنه لا شبيه له ولا نظير له .

وإذ قد اتفقنا على هذا الأصل لم يبق خلاف في تأويل النصوص الموهمة التشبيه ، إلاّ أن تأويل سلفنا كان تأويلاً جُمْليًّا ، وتأويلَ خلفهم كان تأويلاً تفصيليًّا كتأويلهم اليدَ بالقدرة ، والعَينَ بالعلم ، وبَسْطَ اليدين بالجُود ، والوجْهَ بالذات ، والنزولَ بتمثيل حال الإجابة والقبول بحال نزول المرتفع من مكانه الممتنع إلى حيث يكون سائلوه لينيلهم ما سألوه . ولهذا قالوا : طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم .

ولما أفاد قوله : { ليس كمثله شيء } صفاتتِ السُلوببِ أعقب بإثبات صفة العِلم لله تعالى وهي من الصفات المعنوية وذلك بوصفه ب { السميع البصير } الدّالين على تعلّق علمه بالموجودات من المسموعات والمبصرات تنبيهاً على أن نفي مماثلة الأشياء لله تعالى لا يتوهّم منه أن الله منزّه عن الاتصاف بما اتصفت به المخلوقات من أوصاف الكمال المعنوية كالحياة والعلم ولكن صفات المخلوقات لا تشبه صفاته تعالى في كمالها لأنها في المخلوقات عارضة ، وهي واجبة لله تعالى في منتهى الكمال ، فكونه تعالى سميعاً وبصيراً من جملة الصفات الداخلة تحت ظلال التأويل بالحمل على عموم قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } فلمْ يقتضيا جارحتين . ولقد كان تعقيب قوله ذلك بهما شبيهاً بتعقيب المسألة بمثالها .


[368]:- رجز وقبله: لم يبق من آي بها تحيين *** غير حطام ورمادي كفتين
[369]:- هي رقيقة بقافين بصيغة التصغير بنت صيفي ( والصواب أبي صيفي) بن هشام بن عبد المطلب.