قوله تعالى : { ما أصابك من حسنة } ، خير ونعمة .
قوله تعالى : { فمن الله وما أصابك من سيئة } ، بلية أو أمر تكرهه .
قوله تعالى : { فمن نفسك } ، أي : بذنوبك ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد غيره ، نظيره قوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى :30 ] وتعلق أهل القدر بظاهر هذه الآية ، فقالوا : نفى الله تعالى السيئة عن نفسه ونسبها إلى العبد فقال : { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ، ولا متعلق لهم فيه ، لأنه ليس المراد من الآية حسنات الكسب ، ولا سيئاته من الطاعات والمعاصي ، بل المراد منهم ما يصيبهم من النعم والمحن ، وذلك ليس من فعلهم ، بدليل أنه نسبها إلى غيرهم ولم ينسبها إليهم ، فقال :{ ما أصابك } ولا يقال في الطاعة والمعصية ( أصابني ) ، إنما يقال : " أصبتها " ، ويقال في المحن : " أصابني " ، بدليل أنه لم يذكر عليه ثواباً ولا عقاباً ، فهو كقوله تعالى : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } [ الأعراف :131 ] ، فلما ذكر حسنات الكسب وسيئاته نسبها إليه ، ووعد عليها الثواب ، والعقاب ، فقال{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } [ الأنعام :16 ] . وقيل : معنى الآية : ما أصابك من حسنة من النصر ، والظفر يوم بدر فمن الله ، أي : من فضل الله ، وما أصابك من سيئة من القتل ، والهزيمة ، يوم أحد فمن نفسك ، أي : يعني : فبذنوب أصحابك ، وهو مخالفتهم لك ، فإن قيل : كيف وجه الجمع بين قوله { قل كل من عند الله } وبين قوله { فمن نفسك } قيل : قوله { قل كل من عند الله } أي : الخصب ، والجدب ، والنصر ، والهزيمة ، كلها من عند الله . وقوله : { فمن نفسك } أي : وما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك ، عقوبةً لك ، كما قال الله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى :30 ] يدل عليه ما روى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه قرأ { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } وأنا كتبتها عليك . وقال بعضهم : هذه الآية متصلة بما قبلها ، والقول فيه مضمر تقديره : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ، يقولون : { ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك }{ قل كل من عند الله } قوله تعالى : { وأرسلناك } ، يا محمد .
قوله تعالى : { للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً } على إرسالك ، وصدقك ، وقيل : كفى بالله شهيداً على أن الحسنة والسيئة كلها من الله تعالى .
وقوله - تعالى - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } الخطاب فيه للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد كل مكلف من أمته .
والمراد بالحسنة ما يسر له الإِنسان ويفرح به ، والمراد بالسيئة ما يسوءه ويحزنه .
والمعنى : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أى من نعمة وأمور حسنة تفرح بها { فَمِنَ الله } أى فبتوفيقه لك وتفضله عليك ، وإرشادك إلى الوسائل التى أوصلتك إلى ما يسرك . { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ } أى من مصيبة أو غيرها مما يحزن { فَمِن نَّفْسِكَ } أى : فمن نفسك بسبب وقوعها فيما نهى الله عنه ، وتركها للأسباب الموصلة إلى النجاح ، كما قال - تعالى : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } وروى الترمذى عن أبى موسى الأشعرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا يصيب عبداً نكتة فما فوقها أو دونها إلا بذنب . وما يعفو الله عنه أكثر " قال وقرأ : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } .
وروى ابن عساكر عن البراء - رضى الله عنه - عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيدكم . وما يعفو الله أكثر " .
وعلى هذا يكون قوله - تعالى - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } . . إلخ من كلام الله - تعالى - والخطاب فيه للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد به كل مكلف - كما سبق أن أشرنا - وقد ساقه - سبحانه - على سبيل الاستئناف ردا على مزاعم المنافقين ومن هم على شاكلتهم فى الكفر وضعف الإِيمان .
وقيل إن هذه الآية حكاية من الله - تعالى - لأقوال المنافقين السابقة ، فكأنهم لم يكتفوا بأن ينسبوا للرسول صلى الله عليه وسلم أنه السبب فيما أصابهم من جدب وهزيمة . بل أضافوا إلى ذلك قولهم له : إن ما أصابك من حسنة فمن الله ولا فضل لك فيما نلت من نصر أو غنيمة ، وما أصابك من سيئة أى هزيمة أو مصيبة فمن سوء صنعك وتصرفك .
ومقصدهم من ذلك - قبحهم الله - تجريد النبى صلى الله عليه وسلم من كل فضل ، وإلقاء اللوم عليه فى كل ما يصبهم من مصائب .
وقد أشار القرطبى إلى هذين القولين بقوله : قوله - تعالى - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد أمته . أى ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم ، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم أى من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم .
وقيل : فى الكلام حذف تقديره : يقولون . وعليه يكون الكلام متصلا ، والمعنى : { فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } حتى يقولوا { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } .
وقال الجمل : فإن قلت : كيف وجه الجمع بين قوله - تعالى : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } وبين قوله { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فأضاف السيئة إلى فعل العبد فى هذه الآية - بينما أضاف الكل إلى الله فى الآية السابقة - ؟
قلت : أما إضافة الأشياء كلها إلى الله فى الآية السابقة فى قوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } فعلى الحقيقة ، لأن الله هو خالقها وموجدها . وأما إضافة السيئة إلى فعل العبد فى قوله { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فعلى سبيل المجاز . والتقدير : وما أصابك من سيئة فمن أجلها وبسبب اقترافها الذنوب . وهذا لا ينافى أن خلقها من الله - كما سبق .
وقال بعض العلماء : والتوفيق بين قوله - تعالى - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } وبين قوله قبل ذلك : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } هو أن قوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } كان موضوعه الكلام فى تقدير الله . فهم إن انتصر المؤمنون لا ينسبون للنبى صلى الله عليه وسلم أى فضل ، بل يجردونه من الفضل ويقولون هو من عند الله . وما قصدوا التفويض والإِيمان بالقدر ، بل قصدوا الغض من مقام النبوة . فإن كان هناك خير نسبوه إلى الله وإن كان ما يسوء نسبوه إلى النبى صلى الله عليه وسلم إيذاء وتمردا . فالله تعالى - قال لهم : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } ، أى كل ذلك بتقدير الله وإرادته .
أما قوله { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فموضوعه اتخاذ الأسباب . ومعناه : أن من أخذ بالأسباب وتوكل على الله فالله - تعالى - يعطيه النتائج ومن لا يتخذ الأسباب ، أو يخالف المنهاج السليم الموصل إلى الثمرة ، فإنه سيناله ما يسوؤه ، وبسب منه .
هذا ، وقوله - تعالى - { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وكفى بالله شَهِيداً } بيان لجلال منصبه وعلو مكانته صلى الله عليه وسلم عند ربه - عز وجل - بعد بيان بطلان زعمهم الباطل فى حقه عليه الصلاة والسلام .
أى : وأرسلناك - يا محمد - بأمرنا وبشريعتنا لتليغ الناس ما أمرناك بتبليغه ، ولتخرجهم من ظلمات الجهالة والكفر إلى نور التوحيد والإِيمان { وكفى بالله شَهِيداً } على صحة رسالتك ، وعلى صدقك فيما تبلغه عنه ، وإذا ثبت ذلك فالخير فى طاعتك والشر والشؤم فى مخالفتك .
والمراد بالناس جميعهم . أى : وأرسلناك لجميع الناس كما قال - تعالى - { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وقوله { رَسُولاً } حال مؤكدة لعاملها وهو أرسلناك .
وقوله { وكفى بالله شَهِيداً } تثبيت وتقوية لقلب النبى صلى الله عليه وسلم .
أى : امض فى طريقك ولا تلتفت إلى أقوالهم ، وكفى بالله عليك وعليهم شهيدا ، فإنه - سبحانه - لا يخفى عليه أمرك وأمرهم .
وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله . . وهذا ما تقرره الآية الأولى . .
( ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك . . )
فإنها تقرر حقيقة أخرى . ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى . . إنها في واد آخر . . والنظرة فيها من زاوية أخرى :
إن الله - سبحانه - قد سن منهجا ، وشرع طريقا ، ودل على الخير ، وحذر من الشر . . فحين يتبع الإنسان هذا المنهج ، ويسير في هذا الطريق ، ويحاول الخير ، ويحذر الشر . . فإن الله يعينه على الهدى كما قال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . . ويظفر الإنسان بالحسنة . . ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسبا . . إنما هي الحسنة فعلا في ميزان الله تعالى . . وتكون من عند الله . لأن الله هو الذيسن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر . . وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه ، ولا يسلك طريقه الذي شرعه ، ولا يحاول الخير الذي دله عليه ، ولا يحذر الشر الذي حذره منه . . حينئذ تصيبه السيئة . السيئة الحقيقية . سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا . . ويكون هذا من عند نفسه . لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه . .
وهذا معنى غير المعنى الأول ، ومجال غير المجال الاول . . كما هو واضح فيما نحسب . .
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئا . وهي أن تحقق الحسنة ، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره . لأنه المنشى ء لكل ما ينشأ . المحدث لكل ما يحدث . الخالق لكل ما يكون . . أيا كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث ، وهذا الذي يكون .
ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول [ ص ] وعمله وموقف الناس منه ، وموقفه من الناس ، ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية :
( وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله . ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا ) . .
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة . لا إحداث الخير ولا إحداث السوء . فهذا من أمر الله - كما سلف - والله شهيد على أنه أرسل النبي [ ص ] لأداء هذه الوظيفة ( وكفى بالله شهيدًا ) . .
ثم قال تعالى - مخاطبًا - للرسول [ صلى الله عليه وسلم ]{[7921]} والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } أي : من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : فمن قبلك ، ومن عملك أنت كما قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] .
قال السدي ، والحسن البصري ، وابن جُريج ، وابن زيد : { فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : بذنبك .
وقال قتادة : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } عقوبة يا ابن آدم بذنبك . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا يصيب رجلا خَدْش عود ، ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عِرْق ، إلا بذنب ، وما يعفو الله أكثر " .
وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح : " والذي نفسي بيده ، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا حَزَنٌ ، ولا نَصَبٌ ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله عنه بها من خطاياه " . {[7922]}
وقال أبو صالح : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : بذنبك ، وأنا الذي قدرتها عليك . رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا سهل - يعني ابن بَكَّار - حدثنا الأسود بن شيبان ، حدثني عقبة بن واصل بن أخي مُطَرِّف ، عن مُطَرِّف بن عبد الله قال : ما تريدون من القدر ، أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وِإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي : من نفسك ، والله ما وُكِلُوا إلى القدر وقد أُمِروا وإليه يصيرون .
وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضا ، ولبسطه موضع آخر .
وقوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا } أي : تبلغهم شرائع الله ، وما يحبه ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه .
{ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } أي : على أنه أرسلك ، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم ، وعالم بما تبلغهم إياه ، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادًا .
{ مّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } : ما يصيبك يا محمد من رخاء ونعمة وعافية وسلامة ، فمن فضل الله عليك يتفضل به عليك إحسانا منه إليك . وأما قوله : { وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } يعني : وما أصابك من شدّة ومشقة وأذى ومكروه ، فمن نفسك ، يعني : بذنب استوجبتها به اكتسبته نفسك . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أما من نفسك ، فيقول : من ذنبك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } عقوبة يا ابن آدم بذنبك . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «لا يُصِيبُ رَجُلاً خَدْشُ عُودٍ وَلا عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلا اخْتِلاجُ عِرْقٍ إلاّ بِذَنْبٍ ، وَما يَعْفُوا اللّهُ أكْثَرُ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } يقول : الحسنة : ما فتح الله عليه يوم بدر وما أصابه من الغنيمة والفتح ، والسيئة : ما أصابه يوم أُحد أن شجّ في وجهه وكسرت رباعيته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } يقول : بذنبك . ثم قال : { كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } النعم والمصيبات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر ، قالا : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } قال : هذه في الحسنات والسيئات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ }قال : عقوبة بذنبك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } بذنبك ، كما قال لأهل أُحد : { أوَ لَمّا أصَابَتْكُمْ مُصِيَبةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أنّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ } بذنوبكم .
حدثني يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : { ماأصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } قال : بذنبك ، وأنا قدرتها عليك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وأنا الذي قدرتها عليك .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنيه إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح ، بمثله .
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وما وجه دخول «من » في قوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } و{ مِنْ سَيّئَةٍ } ؟ قيل : اختلف في ذلك أهل العربية ، فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت «من » ، لأن «من » تحسن مع النفي ، مثل : ما جاءني من أحد . قال : ودخول الخبر بالفاء لازما بمنزلة «مَنْ » . وقال بعض نحويي الكوفة : أدخلت «مِنْ » مع «ما » ، كما تدخل على «إن » في الجزاء لأنهما حرفا جزاء ، وكذلك تدخل مع «مَن » إذا كانت جزاء ، فتقول العرب : مَنْ يزرك مِنْ أحد فتكرمه ، كما تقول : إنْ يزرك مِنْ أحد فتكرمه . قال : وأدخلوها مع «ما » و«مَنْ » ، ليعلم بدخولها معهما أنهما جزاء . قالوا : وإذا دخلت معهما لم تحذف ، لأنها إذا حذفت صار الفعل رافعا شيئين ، وذلك أن «ما » في قوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } رفع بقوله : { أصَابَكَ } فلو حذفت «مِنْ » رفع قوله : { أصَابَكَ } السيئة ، لأن معناه : إن تصبك سيئة ، فلم يجز حذف «من » لذلك ، لأن الفعل الذي هو على فعَل أو يَفعل لا يرفع شيئين ، وجاز ذلك مع «مَنْ » ، لأنها تشتبه بالصفات ، وهي في موضع اسم ، فأما «إن » ، فإن «من » تدخل معها وتخرج ، ولا تخرج مع «أيّ » لأنها تعرب فيبين فيها الإعراب ، ودخلت مع «ما » لأن الإعراب لا يظهر فيها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأرْسَلْناكَ للنّاسِ رَسُولاً وكَفَى باللّهِ شَهيدا } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وأرْسَلْناكَ للنّاسِ رَسُولاً } : إنما جعلناك يا محمد رسولاً بيننا وبين الخلق تبلغهم ما أرسلناك به من رسالة ، وليس عليك غير البلاغ وأداء الرسالة إلى من أرسلت ، فإن قبلوا ما أرسلت به فلأنفسهم ، وإن ردوا فعليها . { وكَفَى بالله } عليك وعليهم { شَهِيدا } يقول : حسبك الله تعالى ذكره شاهدا عليك في بلاغك ما أمرتك ببلاغه من رسالته ووحيه ، وعلى من أرسلت إليه في قبولهم منك ما أرسلت به إليهم ، فإنه لا يخفى عليه أمرك وأمرهم ، وهو مجازيك ببلاغك ما وعدك ، ومجازيهم ما عملوا من خير وشر جزاء المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
قالت فرقة : { ما } شرطية ، ودخلت { من } بعدها لأن الشرط ليس بواجب فأشبه النفي الذي تدخله { من } ، وقالت فرقة { ما } بمعنى الذي ، و { من } لبيان الجنس ، لأن المصيب للإنسان أشياء كثيرة : حسنة وسيئة ، ورخاء وشدة ، وغير ذلك ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وغيره داخل في المعنى ، وقيل : الخطاب للمرء على الجملة ، ومعنى هذه الآية عند ابن عباس وقتادة والحسن والربيع وابن زيد وأبي صالح وغيرهم ، القطع واستئناف الإخبار من الله تعالى ، بأن الحسنة منه وبفضله ، والسيئة من الإنسان بإذنابه ، وهي من الله بالخلق والاختراع ، وفي مصحف ابن مسعود ، «فمن نفسك » «وأنا قضيتها عليك »{[4156]} وقرأ بها ابن عباس ، وحكى أبو عمرو أنها في مصحف ابن مسعود «وأنا كتبتها » وروي أن أبياً وابن مسعود قرآ «وأنا قدرتها عليك » ويعضد هذا التأويل أحاديث عن النبي عليه السلام معناها : أن ما يصيب ابن آدم من المصائب ، فإنما هي عقوبة ذنوبه ، ومن ذلك أن أبا بكر الصديق لما نزلت { من يعمل سوءاً يجز به }{[4157]} جزع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «ألست تمرض ؟ ألست تسقم ؟ ألست تغتم ؟ »{[4158]} وقال أيضاً عليه السلام : «ما يصيب الرجل خدشة عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر »{[4159]} ففي هذا بيان أو تلك كلها مجازاة على ما يقع من الإنسان ، وقالت طائفة : معنى الآية كمعنى التي قبلها في قوله : { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله } [ النساء : 78 ] على تقدير حذف يقولون ، فتقديره : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ، يقولون : ما أصابك من حسنة ، ويجيء القطع على هذا القول من قوله : { وأرسلنا } وقالت طائفة : بل القطع في الآية من أولها ، والآية مضمنة الإخبار أن الحسنة من الله وبفضله ، وتقدير ما بعده { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ، على جهة الإنكار والتقرير{[4160]} ، فعلى هذه المقالة ألف الاستفهام محذوفة من الكلام{[4161]} ، وحكى هذا القول المهدوي ، و { رسولاً } نصب على الحال ، وهي حال تتضمن معنى التأكيد في قوله تعالى ، { وأرسلناك للناس رسولاً } ثم تلاه بقوله : { وكفى بالله شهيداً } توعد للكفرة ، وتهديد تقتضيه قوة الكلام ، لأن المعنى شهيداً على من كذبه .
وبعد أن أمر الله رسوله بما يجيب به هؤلاء الضالّين علَّمه حقيقة التفصيل في إصابة الحسنة والسيئة من جهة تمحّض النسبة إلى الله تعالى أو اختلاطها بالانتساب إلى العبد ، فقال : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } . ووُجِّه الخطاب للرسول لأنّه المبلّغ عن الله ، ولأنّ هذا الجوابَ لإبطال ما نَسبه الضالّون إليه من كونه مصدرَ السيّئات التي تصيبهم .
وأعلَمْ أنّ للحوادث كلّها مؤثّراً . وسبباً مقارناً ، وأدلّة تنبىء عنها وعن عواقبها ، فهذه ثلاثة أشياء لا تخلو عنها الحوادث كلّها ، سواء كانت غير اختيارية ، أم اختيارية كأفعال العباد . فالله قدّر المنافع والمضارّ بعلمه وقدَرِه وخلق مؤثّراتها وأسبابَها ، فهذا الجُزء لله وحده لقوله : { قلْ كلّ من عند الله } .
والله أقام بالألطاف الموجودات ، فأوجدها ويسّر لها أسباب البقاء والانتفاع بما أودع فيها من العقول والإلهامات ، وحفّها كلّها في سائر أحوالها بألطاف كثيرة ، لولاها لما بقيت الأنواع ، وساق إليها أصول الملاءمة ، ودفع عنها أسباب الآلام في الغالب ، فالله لطيف بعباده . فهذا الجزءُ لله وحده لقوله : { قُل كلّ من عند الله } .
والله نصب الأدلّة للناس على المنافع والمضارّ التي تكتسب بمختلف الأدلّة الضرورية ، والعقلية ، والعاديةِ ، والشرعية ، وعَلَّم طرائقَ الوصول إليها ، وطرائقَ الحيدة عنها ، وأرشد إلى موانع التأثير لمن شاء أن يُمانعها ، وبعث الرسل وشَرع الشرائع فعلّمنا بذلك كلّه أحوال الأشياء ومنافعها ومضارّها ، وعواقب ذلك الظاهرةَ والخفيّةَ ، في الدنيا والآخرة ، فأكمل المنّة ، وأقام الحُجّة ، وقطع المعذرة ، فهدَى بذلك وحذّر إذ خلق العقول ووسائل المعارف ، ونمَّاها بالتفكيرات والإلهامات ، وخلق البواعث على التعليم والتعلّم ، فهذا الجزء أيضاً لله وحده . وأمّا الأسباب المقارنةُ للحوادث الحسنةِ والسيّئةِ والجانيةُ لِجناها حين تصيب الإنسان من الاهتداء إلى وسائل مصادفة المنافع ، والجهلِ بتلك الوسائل ، والإغضاء عن موانع الوقوع فيها في الخير والشرّ ، فذلك بمقدار ما يحصّله الإنسان من وسائل الرشاد ، وباختياره الصالحَ لاجتناءِ الخير ، ومقداراً ضدّ ذلك : من غلبة الجهل ، أو غلبة الهوى ، ومن الارتماء في المهالك بدون تبصّر ، وذلك جزء صغير في جانب الأجزاء التي قدّمناها ، وهذا الجزء جعل الله للإنسان حظّاً فيه ، ملَّكَهُ إيّاه ، فإذا جاءت الحسنةُ أحداً فإنّ مجيئها إيّاه بِخلْق الله تعالى لا محالة ممّا لا صنعة للعبد فيه ، أو بما أرشد الله به العبد حتّى علم طريق اجتناء الحسنة ، أي الشيءِ الملائم وخلق له استعداده لاختيار الصالح فيما له فيه اختيار من الأفعال النافعة حسبما أرشده الله تعالى ، فكانت المنّة فيها لله وحده ، إذ لولا لطفه وإرشاده وهديه ، لكان الإنسان في حيَرة ، فصحّ أنّ الحسنة من الله ، لأنّ أعظم الأسباب أو كلّها منه .
أمّا السيّئة فإنّها وإن كانت تأتي بتأثير الله تعالى ، ولكن إصابة معظمها الإنسانَ يأتي من جهله ، أو تفريطه ، أو سوء نظره في العواقب ، أو تغليب هواه على رشده ، وهنالك سيّئات الإنسان من غير تسبّبه مثل ما أصاب الأمم من خسْفٍ وأوبئة ، وذلك نادر بالنسبة لأكثر السيّئات ، على أنّ بعضاً منه كان جزاء على سوء فعل ، فلا جرَم كان الحظّ الأعظم في إصابة السيّئة الإنسان لتسبّبه مبَاشرة أو بواسطة ، فصحّ أن يسند تسبّبها إليه ، لأنّ الجزء الذي هو لله وحده منها هو الأقلّ . وقد فسَّر هذا المعنى ما ورد في « الصحيح » ، ففي حديث الترمذي " لا يصيب عبداً نكبةٌ فما فوقها أو ما دونها إلاّ بذنب وما يعفو الله أكثر " . وشملت الحسنة والسيِّئة ما كان من الأعيان ، كالمطر والصواعق ، والثمرة والجراد ، وما كان من الأعراض كالصحّة ، وهبوب الصّبا ، والربْح في التجارة . وأضدادها كالمرض ، والسَّموم المهلكة ، والخسارة . وفي هذا النوع كان سبب نزول هذه الآية ، ويلحق بذلك ما هو من أفعال العباد كالطاعات النافعة للطائع وغيره ، والمعاصي الضارّة به وبالناس ، وفي هذا الأمر جاء قوله تعالى : { قل إن ضللت فإنما أضِلّ على نفسي وإن اهتديت فيما يوحي إليّ ربي } [ سبأ : 50 ] وهو على نحو هذه الآية وإن لم تكن نازلة فيه .
ولكون هذه القضية دقيقة الفهم نبّة الله على قلّة فهمهم للمعاني الخفيّة بقوله : { فما لهؤلاء القوم لا يكادُون يفقهون حديثاً } ، فقوله : { لا يكادون } يجوز أن يكون جارياً على نظائره من اعتبار القلب ، أي يكادون لا يفقهون ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { فذبحوها وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] فيكون فيه استبقاءٌ عليهم في المذمّة . ويجوز أن يكون على أصل وضع التركيب ، أي لا يقارِبون فهم الحديث الذي لا يعقله إلاّ الفطناء ، فيكون أشدّ في المذمّة .
والفقه فهم ما يَحتاج إلى إعمال فكر . قال الراغب : « هو التوصّل إلى علم غائب بعلم شاهد ، وهو أخص من العلم » .
وعرفه غيره بأنّه « إدراك الأشياء الخفيّة » .
والخطاب في قوله : { ما أصابك } خطاب للرسول ، وهذا هو الأليق بتناسق الضمائر ، ثم يعلم أن غيره مثله في ذلك .
وقد شاع الاستدلال بهذه الآية على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله : { قل كلّ من عند الله } ، كما شاع استدلال المعتزلة بها على أنّ الله لا يخلق المعصية والشرّ لقوله : { وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } . وقال أبو الحسن شبيب بن حيدرة المالكي في كتاب « حَزّ الغلاصم » : إنّ الاحتجاج بها في كلا الأمرين جهل لابتنائه على توهّم أنّ الحسنة والسيّئة هي الطاعة والمعصية ، وليستا كذلك .
وأنا أقول : إنّ أهل السنّة ما استدلّوا بها إلاّ قَوْلاً بموجَب استدلال المعتزلة بها على التفرقة بين اكتساب الخير والشّر على أنّ عموم معنى الحسنة والسيئة كما بيَّنْته آنفاً يجعل الآية صالحة للاستدلال ، وهو استدلال تقريبي لأنّ أصول الدين لا يستدلّ فيها بالظواهر كالعموم .
وجيء في حكاية قولهم : { يقولوا هذه من عند الله } { يقولوا هذه من عندك } بكلمة ( عنِد ) للدلالة على قوّة نسبة الحسنة إلى الله ونسبة السيّئة للنبيء عليه الصلاة والسلام أي قالوا ما يُفيد جزمهم بذلك الانتساب .
ولمّا أمر الله رسوله أن يجيبهم قال : { قل كلّ من عند الله } مشاكلة لقولهم ، وإعراباً عن التقدير الأزلي عند الله .
وأمّا قوله : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } فلم يؤت فيه بكلمة ( عند ) ، إيماء إلى أنّ ابتداء مجيء الحسنة من الله ومجيء السيِّئة من نفس المخاطب ، ابتداءُ المتسبّب لِسبب الفعل ، وليسَ ابتداءَ المؤثِّر في الأثر .
وقوله : { وأرسلناك للناس رسولاً } عطف على قوله : { وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } للردّ على قولهم : السيئة من عند محمد ، أي أنك بُعِثْتَ مُبَلِّغا شريعة وهاديا ، ولست مؤثراً في الحوادث ولا تدل مقارنة الحوادث المؤلمة على عدم صدق الرسالة . فمعنى { أرسلناك } بعثناك كقوله { وأرسلنا الرياح } [ الحجر : 22 ] ونحوه . و { للناس } متعلق ب { أرسلناك } . وقوله { رسولا } حال من { أرسلناك } ، والمراد بالرسول هنا معناه الشرعي المعروف عند أهل الأديان : وهو النبي المبلّغ عن الله تعالى ، فهو لفظ لقيي دالّ على هذا المعنى ، وليس المراد به اسم المفعول بالمعنى اللغوي ولهذا حسن مجيئهُ حالاً مقيَّدة ل« أرسلناك » ، لاختلاف المعنيين ، أي بعثناك مبلّغاً لا مُؤَثِّراً في الحوادث ، ولا أمارةً على وقوع الحوادث السيّئة . وبهذا يزول إشكال مجيء هذه الحال غير مفِيدة إلاّ التأكيد ، حتّى احتاجوا إلى جَعل المجرور متعلّقاً ب { رسولاً } ، وأنّه قدّم عليه دلالة على الحصر باعتبار العموم المستفاد من التعريف ، كما في « الكشّاف » ، أي لجميع الناس لا لبعضهم ، وهو تكلّف لا داعي إليه ، وليس المقام هذا الحصر .