سورة هود عليه السلام مكية إلا قوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار } وهي مائة وثلاث وعشرون آية .
{ الر كتاب } ، أي : هذا كتاب ، { أحكمت آياته } ، قال ابن عباس : لم ينسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع به ، { ثم فصلت } ، بينت بالأحكام والحلال والحرام . وقال الحسن : أحكمت بالأمر والنهي ، ثم فصلت بالوعد والوعيد . قال قتادة : أحكمت أحكمها الله فليس فيها اختلاف ولا تناقض وقال مجاهد : فصلت أي : فسرت . وقيل : فصلت أي : أنزلت شيئا فشيئا . { من لدن حكيم خبير } .
1- سورة هود –عليه السلام- هي السورة الحادية عشرة في ترتيب المصحف فقد سبقتها في هذا الترتيب سورة الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس .
أما ترتيبها في النزول ، فهي السورة الثانية والخمسون ، وكان نزولها بعد سورة يونس .
2- وعدد آياتها : ثلاث وعشرون ومائة آية .
3- وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم بسورة هود ، فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله قد شبت ! قال : " شيبتني " " هود " و " الواقعة " ، و " المرسلات " و " عم يتساءلون " و " إذا الشمس كورت " .
وفي رواية : شيبتني هود وأخواتها .
قال القرطبي بعد أن ساق بعض الأحاديث في فضل هذه السورة . ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس . وتشيب منه الرءوس " ( {[1]} ) .
جمهور العلماء على أن سورة هود جميعها مكية ، وقيل هي مكية إلا ثلاث آيات منها : وهي قوله –تعالى- [ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ، وضائق به صدرك . . . ] الآية 12 .
وقوله –تعالى- [ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ] الآية 17 .
وقوله –تعالى- : [ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ] الآية 114 .
والذي نرجحه أن السورة كلها مكية ، وسنرى عند تفسيرنا لهذه الآيات التي قيل بأنها مدنية ، ما يشهد لصحة ما ذهبنا إليه .
كذلك نرجح أن هذه السورة الكريمة ، كان نزولها في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج ، وذلك لأن نزولها –كما سبق أن أشرنا- كان بعد سورة يونس ، وسورة يونس كان نزولها بد سورة الإسراء ، التي افتتحت بالحديث عنه .
وهذه الفترة التي كانت قبيل حادث الإسراء والمعراج والتي أعقبته ، تعتبر من أشق الفترات وأحرجها وأصعبها في تاريخ الدعوة الإسلامية .
ففي هذه الفترة مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم والمدافع عنه ، وماتت كذلك السيدة خديجة –رضي الله عنها- التي كانت نعم المواسي له عما يصيبه من أذى . . . ففقد الرسول صلى الله عليه وسلم بموتهما نصيرين عزيزين ، كانت لهما مكانتهما العظيمة في نفسه ، وتعرض صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة لألوان من الأذى والاضطهاد فاقت كل ما سبقها وبلغت الحرب المعلنة من المشركين عليه وعلى دعوته ، أقسى وأقصى مداها . .
قال ابن إسحاق خلال حديثه عن هذه الفترة : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة –وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها –وبهلك عمه أبي طالب- وكان له عضدا وحرزا في أمره ، ومنة وناصراً على قومه ، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين .
فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ، ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابا .
ثم قال ابن إسحاق : فحدثني هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير قال لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التراب دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته ، والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل عنه التراب ، وهي تبكي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها : " لا تبكي يا بينة ، فإن الله مانع أباك " . .
قال : ويقول بين ذلك : " ما نالت مني قريش شيئاً أكره حتى مات أبو طالب " ( {[2]} ) .
وسنرى عند استعراضنا للسورة الكريمة ، أنها صورت هذه الفترة أكمل تصوير .
5- مناسبتها لسورة يونس –عليه السلام- :
قال الآلوسي –رحمه الله- : ووجه اتصالها بسورة يونس ، أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح –عليه السلام- مختصرة جداً ومجملة ، فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور . . ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك ، فإن قوله –تعالى- هنا [ الر . كتاب أحكمت آياته . . . ] نظير قوله –سبحانه- هناك [ الر . تلك آيات الكتاب الحكيم . . . ] بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط –أيضاً- ، حيث ختمت بنفي الشرك ، واتباع الوحي ، وافتتحت هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك( {[3]} ) .
6- عرض إجمالي للسورة الكريمة :
عندما نطالع سورة هود بتدبر وتأمل ، نراها في الربع الأول( {[4]} ) منها –قد افتتحت بالتنويه بشأن القرآن الكريم . وبدعوة الناس إلى إخلاص العباة لله –تعالى- وحده ، وإلى التوجه إليه بالاستغفار والتوبة الصادقة ، حتى ينالوا السعادة في دنياهم وآخرتهم .
قال –تعالى- : [ الر . كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير . وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله ، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير . إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ] .
ثم وضحت السورة جانباً من مسالك الكافرين ، تلك المسالك التي تدل على جهالاتهم بعلم الله التام ، وبقدرته النافذة ، وفصلت مظاهر هذه القدرة ، وشمول هذا العلم . .
قال –تعالى- : [ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ، ألا حين يستغشون ثيابهم ، يعلم ما يسرون وما يعلنون ، إنه عليم بذات الصدور ] .
ثم بينت أحوال الإنسان في حالة منحه النعمة ، وفي حالة سلبها عنه ، وساقت للرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات ما يسلبه عما أصابه من كفار مكة ، وتحدتهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن الكريم ، وأنذرتهم بسوء عاقبة المعرضين عن دعوة الله ، الصادين عن سبيله ، الكافرين بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ، وبشرت المؤمنين بحسن العاقبة ، وضربت المثل المناسب لكل من فريقي الكافرين والمؤمنين .
استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور كل ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :
[ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه لبؤوس كفور . ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ، ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور . إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير . . . ] .
إلى أن تقول بعد حديث مفصل عن الكافرين وسوء عاقبتهم : [ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً ، أفلا تذكرون ] .
فإذا ما وصلنا إلى الربع( {[5]} ) الثاني من سورة هود ، وجدناها تسوق لنا بأسلوب مفصل ، قصة نوح –عليه السلام- مع قومه ، فتحكي أمره لهم بعبادة الله وحده ، كما تحكي الرد القبيح الذي رد به عليه زعماؤهم ، وكيف أنه –عليه السلام- لم يقابل سفاهتهم بمثلها ، بل خاطبهم بلفظ " يا قوم " الدال على أنه واحد منهم ، يسره ما يسرهم ، ويؤلمه ما يؤلمهم ، ومع هذا فقد لجوا في طغيانهم وقالوا له –كما حكى القرآن عنهم- [ يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . . . ] .
فكان رده عليهم [ إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين . . . ] .
وقد أتاهم الله –تعالى- بالعذاب الذي استعجلوه فأغرقهم بالطوفان الذي غشيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، والذي قطع دابرهم .
ثم نراها بعد ذلك في الربع( {[6]} ) الثالث ، نقص علينا مشهداً مؤثراً ، مشهد نوح –عليه السلام- وهو ينادي ابنه الذي استحب الكفر على الإيمان فيقول له بشفقة وحرص : [ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ] .
ولكن الابن العاق لا يستمع إلى نصيحة أبيه العطوف بل يقول له : [ سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ] .
ويجيبه الأب بحزن وحسم [ لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ] .
ويتضرع الأب الحزين إلى ربه فيقول : [ رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ] .
ويأتيه الجواب من الله –تعالى- : [ يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم ، إني أعظك أن تكون من الجاهلين ] .
ويلجأ نوح –عليه السلام- إلى خالقه . مستعيذاً به من غضبه فيقول : [ رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ، وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ] .
فيقبل الله –تعالى- ضراعته فيقول : [ يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك ، وعلى أمم ممن معك ، وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ] .
ثم يختم الله –تعالى- قصة نوح ، بتسلية النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وبما يدل على أن هذا القرآن من عند الله ، فيقول : [ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر . إن العاقبة للمتقين ] .
ثم تسوق السورة بعد ذلك قصة هود –عليه السلام- مع قومه ، فتحكي دعوته لهم إلى عبادة الله –تعالى- ، ومصارحته إياهم بأنه لا يريد منهم أجراً على دعوته ؛ وإرشادهم إلى ما يزيدهم غنى على غناهم ؛ وقوة على قوتهم ، ولكنهم قابلوا تلك النصائح الغالية بالتكذيب والسفاهة ، فقالوا له –كما حكت السورة عنهم- [ يا هود ما جئتنا ببينة ، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمؤمنين . إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . . ] .
فيرد عليهم هود بقوله : [ إني أشهد الله ، واشهدوا أني برئ مما تشركون . من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها . . . ] .
ثم كانت النتيجة بعد هذه المحاورات والمجادلات أن نجى الله هوداً ، والذين آمنوا معه ، أما الكافرون بدعوته ، فقد نزل بهم العذاب الغليظ ، الذي تركهم صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية . . .
وفي الربع( {[7]} ) الرابع منها تسوق لنا السورة الكريمة ، ما دار بين صالح وقومه ، حيث أمرهم بعبادة الله ، وذكرهم بنعمه عليهم ، وحذرهم من الاعتداء على الناقة التي هي لهم آية . . . ولكنهم استخفوا بتذكيره وبتحذيره فكانت النتيجة إهلاكهم . . .
قال –تعالى- [ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ، ومن خزي يومئذ ، إن ربك هو القوي العزيز ، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين . كأن لم يغنوا فيها ، ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ] .
ثم قصت علينا السورة الكريمة ، ما فعله إبراهيم –عليه السلام- عندما جاءه رسل الله بالبشرى ، وكيف أنهم قالوا له عندما أنكرهم وأوجس منهم خيفة : [ لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط . . . ] .
ثم وضحت حال لوط –عليه السلام- عندما جاءه هؤلاء الرسل ؛ وحكت ما دار بينه وبين قومه الذين جاءوه يهرعون إليه عندما رأوا الرسل ، فقال لهم : [ يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ، فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ، أليس منكم رجل رشيد . . . ] .
فيقولون له في صفاقة وانحراف عن الفطرة السليمة : [ لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ، وإنك لتعلم ما نريد ] .
وأسقط في يد لوط –عليه السلام- ، وأحس بضعفه أمام هؤلاء المنحرفين المندفعين إلى ارتكاب الفاحشة ، اندفاع المجنون إلى حتفه ، فقال بأسي وحزن : [ لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ] .
وهنا كشف له الرسل عن طبيعتهم ، وأخبروه بمهمتهم ؛ وطلبوا منه أن يغادر هو ومن آمن معه مكان إقامتهم ، فإن العذاب نازل بهؤلاء المجرمين بعد وقت قصير .
[ قالوا يا لوط إنا رسل ربك ، لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ، إنه مصيبها ما أصابهم ، إن موعدهم الصبح ، أليس الصبح بقريب . فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ] .
ثم تتابع السورة الكريمة في الربع الخامس( {[8]} ) ، حديثها عن جانب من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم ، فتحدثنا عن قصة شعيب –عليه السلام- مع قومه ، وكيف أ ، ه قال لهم مقالة كل رسول لقومه [ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ] .
ثم نهاهم بأسلوب رصين حكيم ، عن ارتكاب الفواحش التي كانت منتشرة فيهم ، وهي إنقاص الكيل والميزان ، وبخس الناس أشياءهم . . .
ولكنهم –كعادة السفهاء الطغاة- قابلوا نصائحه بالتهكم والاستخفاف والوعيد . . . فكانت النتيجة أن حل بهم عذاب الله الذي أهلكهم ، كما أهلك أمثالهم .
قال –تعالى- [ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ، وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين . كأن لم يغنوا فيها ، ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ] .
ثم تسوق السورة بعد ذلك بإيجاز ، جانباً من قصة موسى مع فرعون وملته ، الذين اتبعوا أمر فرعون ، وما أمر فرعون برشيد .
ثم تعقب على تلك القصص السابقة ، بتعقيب يدل على أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه –سبحانه- لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون . . . قال –تعالى- : [ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد . وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ، وما زادوهم غير تتبيب . . . ] .
أما في الربع السادس( {[9]} ) والآخير منها ، فنراها تبين بأسلوب قوي منذر ، أن الناس سيأتون يوم القيامة ، منهم الشقي ومنهم السعيد ، وأنه –سبحانه- سيوفي كل فريق منهم جزاءه غير منقوص .
ثم ترشد إلى ما يوصل إلى السعادة ، فتدعو إلى الاستقامة على أمر الله ، وإلى عدم الركون إلى الظالمين ، وإلى إقامة الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، وإلى الصبر الجميل .
قال –تعالى- : [ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا ، إنه بما تعملون بصير . ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون . وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين . واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ] .
ثم ختمت السورة الكريمة ببيان أن من أهم مقاصد ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم ، تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه ، وتسليته عما أصابه ، وتبشيره بأن العاقبة له ولأتباعه .
قال –تعالى- : [ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين . وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون . ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ، فاعبده وتوكل عليه ، وما ربك بغافل عما تعملون ] .
7- أهم الموضوعات التي عنيت السورة الكريمة بالحديث عنها :
من استعراضنا لسورة هود ، ومن معرفة الفترة التي نزلت فيها ، نستطيع أن نقول : إن السورة الكريمة قد عنيت بالحديث عن موضوعات متنوعة من أهمها ما يأتي :
( أ ) ترغيب الناس في طاعة الله ، وتحذيرهم من معصيته ، وهذا المعنى نراه في كثير من آيات سورة هود ، ومن ذلك :
قوله –تعالى- : [ ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير . . . ] .
وقوله –تعالى- حكاية عن هود –عليه السلام- : [ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ، ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين . . . ] .
وقوله –تعالى- حكاية عن شعيب –عليه السلام- : [ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين . بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ، وما أنا عليكم بحفيظ . . . ] .
( ب ) تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه ، ومن مظاهر هذه التسلية ، أن السورة الكريمة قد اشتملت في معظم آياتها على قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم . فقد ذكرت نواحي متنوعة من قصة نوح مع قومه ، ومن قصة هود مع قومه ، ومن قصة صالح مع قومه ، ومن قصة شعيب مع قومه ، ومن قصة لوط مع قومه . . .
وقد تحدثت خلال كل قصة عن المسالك الخبيثة ، والمجادلات الباطلة ، التي أتبعها الطغاة مع أنبيائهم الذين جاءوا لسعادتهم وهدايتهم .
كما ختمت كل قصة من هذه القصص ، ببيان حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين . .
وفي ذلك ما فيه من التسلية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عما لحقه من أذى ، وما أصابه من اضطهاد ، وما تعرض له من اعتداء عليه وعلى أصحابه .
وكأن ما ورد في هذه السورة من قصص طويل متنوع ، يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إن ما أصابك من قومك يا محمد ، قد أصاب الأنبياء السابقين من أقوامهم ، فاصبر كما صبروا ، فإنه [ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ] .
( ج ) إقامة الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله ، وليس من كلام البشر . .
فقد تحداهم هنا أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا ، ثم تحداهم في موطن آخر أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا ، وساق لهم –على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير من أخبار الأولين ، ومن قصص الأنبياء مع أقوامهم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معاصرا لهؤلاء السابقين ، ولم يكن قارئا لأخبارهم فدل ذلك على أن هذا القرآن من عند الله ، وعلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه .
قال –تعالى- : [ أم يقولون افتراء ، قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ] .
وقال –تعالى- : [ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر ، إن العاقبة للمتقين ] .
( د ) بيان سنة من سنن الله التي لا تتخلف ، وهي أنه –سبحانه- لا يظلم الناس شيئا ؛ ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ؛ بإعراضهم عن الحق ، واتباعهم للهدى ، واستحقاقهم للعقوبة التي هي جزاء عادل لكل ظالم .
وهذا بيان نراه في مواضع متعددة من السورة ، ومن ذلك قوله –تعالى- في ختام الحديث عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم .
[ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد . وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء ، لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب . وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، إن أخذه أليم شديد . إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ، ذلك يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود . وما تؤخره إلا لأجل معدود . يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد . . . ] .
وبعد : فهذه تعريفات عن سورة هود ، رأينا أن نذكرها قبل البدء في تفسيرها ، وأرجو أن يكون في ذكرها ما يعطي القارئ صورة واضحة عن هذه السورة الكريمة .
هود - عليه السلام - من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي ، وقد سبق أن تكلمنا بشيء من التفصيل عند تفسيرنا لسور : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ، عن آراء العلماء فى المراد بهذه الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور .
ورجحنا أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن ، على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن .
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله - تعالى - : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون به كلامكم ، ومنظوا من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك ، أو هاتوا عشر سور من مثله ، أو هاتوا سورة واحدة .
فلما عجزوا - وهم أهل الفصاحة والبيان - ثبت أن غيرهم أعجز ، وأن هذا القرآن من عند الله ، { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } .
وقوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } من الإِحكام - بكسر الهمزة - وهذه المادة تستعمل فى اللغة لمعان متعددة ، ترجع إلى شئ واحد هو المنع . يقال : أحكم الأمر . أى : أتقنه ومنعه من الفساد . أى : منع نفسه ومنع الناس عما لا يليق : ويقال أحكم الفرس ، إذا جعل له حكمة تمنعه من الجموح والاضطراب .
وقوله : { ثُمَّ فُصِّلَتْ } من التفصيل ، بمعنى التوضيح والشرح للحقائق والمسائل المراد بيانها ، بحيث لا يبقى فيها شتباه أو لبس .
والمعنى : هذا الكتاب الذى أنزلناه إليك يا محمد ، هو كتاب عظيم الشأن ، جليل القدر ، فقد أحكم الله آياته إحكاما بديعا ، وأتقنها إتقانا معجزا ، بحيث لا يتطرق إليها خلل فساد . ثم فصل - سبحانه - هذه الآيات تفصيلا حكيما ، بأن أنزلها نجوما ، وجعلها سورا سورا ، مشتملة على ما يسعد الناس فى دنياهم وآخرتهم ، من شئون العقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، والآداب ، والأحكام .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } أى : نظمت نظما رصينا محكما ، بحيث لا يقع فيه نقض ولا خلل ، كالبناء المحكم المرصف . . وقيل : منعت من الفساد ، من قولهم : أحكمت الدابة ، إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح ، قال جرير :
أبنى حنيفة أحكموا سفاءكم . . . إني أخاف عليكم أن أغضبا
{ ثُمَّ فُصِّلَتْ } كما تفصل القلائد بالفرائد ، ومن دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، أو جعلت فصولا سورة سورة ، وآية آية ، أو فرقت فى التنزيل ولم تنزل جملة واحدة .
و { ثم } فى قوله - سبحانه - " ثم فصلت " للتراخى فى الرتبة كما هو شأنها فى عطف الجمل ، لما فى التفصيل من الاهتمام لدى النفوس ، لأن العقول ترتاح إلى التفصيل بعد الإِجمال ، والتوضيح بعد الإِيجاز .
وجملة { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } صفة أخرى للكتاب ، وصف بها ، لإِظهار شرفه من حيث مصدره ، بعد أن وصف بإحكات آياته وتفصيلها الدالين على علو مرتبته من حيث الذات أى : هذا الكتاب الذى أتقنت آياته إتقانا بديعا ، وفصلت تفصيلا رصينا ، ليس هو من عند أحد من الخلق ، وإنما هو من عند الخلق الحكيم فى كل أقواله وأفعاله ، الخبير بظواهر الأمر وبواطنها .
قال الشوكانى : وفى قوله { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } لف ونشر ، لأن المعنى : أحكمها حكيم ، وفصلها خبير ، عالم بمواقع الأمور .
سورة هود مكية وآياتها ثلاث وعشرون ومائة
هذه السورة مكية بجملتها ، خلافا لما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات ( 12 ، 17 ، 114 ) فيها مدنية . ذلك أن مراجعة هذه الآيات في سياق السورة تلهم أنها تجيء في موضعها من السياق ، بحيث لا يكاد يتصور خلو السياق منها بادئ ذي بدء . فضلا على أن موضوعاتها التي تقررها هي من صميم الموضوعات المكية المتعلقة بالعقيدة ، وموقف مشركي قريش منها ، وآثار هذا الموقف في نفس رسول الله-صلى الله عليه وسلم- والقلة المسلمة معه ، والعلاج القرآني الرباني لهذه الآثار . .
فالآية 12 مثلا هذا نصها : " فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا : لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ، إنما أنت نذير ، والله على كل شيء وكيل " . . وواضح أن هذا التحدي وهذا العناد من قريش إلى الحد الذي يضيق به صدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحيث يحتاج إلى التسرية عنه ، والتثبيت على ما يوحى إليه ؛ إنما كان في مكة ، وبالذات في الفترة التي تلت وفاة أبي طالب وخديجة ، حادث الإسراء ، وجرأة المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتوقف حركة الدعوة تقريبا ؛ وهي من أقسى الفترات التي مرت بها الدعوة في مكة .
والآية 17 هذا نصها : ( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) وواضح كذلك أنها من نوع القرآن المكي واتجاهه في مواجهة مشركي قريش بشهادة القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم ، بأنه إنما يوحى إليه من ربه ؛ وبشهادة الكتب السابقة وبخاصة كتاب مسوسى ؛ وبتصديق بعض أهل الكتاب به- وهذا ما كان في مكة من أفراد أهل الكتاب- واتخاذ هذا قاعدة للتنديد بموقف المشركين . و تهديد الأحزاب منهم بالنار ، مع تثبيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الحق الذي هو معه ، في وجه توقف الدعوة ، وعناد الأكثرية الغالبة في مكة وما حولها من القبائل . . وليس ذكر كتاب موسى بشبهة على مدنية الآية ، فهي ليست خطابا لبني إسرائيل ولا تحديا لهم- كما هو العهد في القرآن المدني- ولكنها استشهاد بموقف تصديق من بعهضهم ؛ وبتصديق كتاب موسى ، عليه السلام- لما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- وهذا أشبه بالموقف في مكة في هذه الفترة الحرجة ، ومقتضياتها الواضحة .
والآية 114 واردة في سياق تسرية عن الرسول [ ص ] بما كان من الاختلاف على موسى من قبل . وتوجيهه للاستقامة كما أمر هو ومن تاب معه ، وعدم الركون إلى الذين ظلموا [ أي أشركوا ] والاستعانة بالصلاة وبالصبر على مواجهة تلك الفترة العصيبة . . وتتوارد الآيات هكذا : ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ، وإنهم لفي شك منه مريب [ 110 ] وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم ، إنه بما يعملون خبير [ 111 ] فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا ، إنه بما تعملون بصير [ 112 ] ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ، ثم لا تنصرون [ 113 ] وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذكرى للذاكرين [ 114 ] واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [ 115 ] . . وواضح أن الآية قطعة من السياق المكي ، موضوعا وجوا وعبارة . .
لقد نزلت السورة بجملتها بعد يونس . ونزلت يونس بعد الإسراء . وهذا يحدد معالم الفترة التي نزلت فيها ؛ وهي من أحرج الفترات وأشقها كما قلنا في تاريخ الدعوة بمكة . فقد سبقها موت أبي طالب وخديجة ؛ وجرأة المشركين على ما لم يكونوا ليجرؤوا عليه في حياة أبي طالب - وخاصة بعد حادث الإسراء وغرابته ، واستهزاء المشركين به ، وارتداد بعض من كانوا أسلموا قبله - مع وحشة رسول الله [ ص ] من خديجة - رضي الله عنها - في الوقت الذي تجرأت فيه قريش عليه وعلى دعوته ؛ وبلغت الحرب المعلنة عليه وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها ؛ وتجمدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة وما حولها . . وذلك قبيل أن يفتح الله على رسوله وعلى القلة المسلمة معه ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية . .
قال ابن إسحاق : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ، فتتابعت على رسول الله [ ص ] المصائب بهلك خديجة - وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها - وبهلك عمه أبي طالب - وكان له عضدا وحرزا في أمره ، ومنعة وناصرا على قومه - وذلك قبل مهاجرته إلى المدينة بثلاث سنين . فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله [ ص ] من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابا .
قال ابن إسحاق : فحدثني هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، قال : لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله [ ص ] ذلك التراب ، دخل رسول الله [ ص ] بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي . ورسول الله [ ص ] يقول لها : " لاتبكي يا بنية ، فإن الله مانع أباك " قال : ويقول بين ذلك : " ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " .
وقال المقريزي في إمتاع الأسماع : فعظمت المصيبة على رسول الله [ ص ] بموتهما وسماه " عام الحزن " وقال : " ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حاميا له ولا ذابا عنه غيره .
ففي هذه الفترة نزلت سورة هود ويونس قبلها ، وقبلهما سورة الإسراء وسورة الفرقان وكلها تحملطابع هذه الفترة ؛ وتحدث عن مدى تحدي قريش وتعديها .
وآثار هذه الفترة وجوها وظلالها واضحة في جو السورة وظلالها وموضوعاتها ! وبخاصة ما يتعلق بتثبيت رسول الله [ ص ] والذين معه على الحق ؛ والتسرية عنه مما يساور قلبه من الوحشة والضيق والغربة في المجتمع الجاهلي .
وقد برز طابع هذه الفترة ومقتضياتها في السورة في سمات عدة نشير إلى بعض منها :
فمن ذلك استعراض السورة لحركة العقيدة الإسلامية في التاريخ البشري كله ، من لدن نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد - عليه الصلاة والسلام - وتقرير أنها قامت على حقائق أساسية واحدة : هي الدينونة لله وحده بلا شريك ، والعبودية له وحده بلا منازع ؛ والتلقي في هذه الدينونة والعبودية عن رسل الله وحدهم على مدار التاريخ . مع الاعتقاد بأن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء لا دار جزاء ؛ وأن الجزاء إنما يكون في الآخرة ؛ وأن حرية الاختيار التي أعطاها الله للإنسان ليختار الهدى أو الضلال هي مناط هذا الابتلاء .
ولقد جاء محمد عليه الصلاة والسلام ومعه ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) . . أما مضمون هذا الكتاب الأساسي فهو : ( ألا تعبدوا إلا الله ، إنني لكم منه نذير وبشير . وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله ، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير . إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ) . . .
ولكن هذه لم تكن دعوة مبتدعة ولا قولا غير مسبوق . . لقد قالها من قبل نوح وهود وصالح وشعيب وموسى وغيرهم : ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ، إني لكم نذير مبين . أن لا تعبدوا إلا الله ، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) . . ( وإلى عاد أخاهم هودا قال : يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون . يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني ، أفلا تعقلون ؟ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويزدكم قوة إلى قوتكم . . ولا تتولوا مجرمين ) . . ( وإلى ثمود أخاهم صالحا ، قال : يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ، فاستغفروه ثم توبوا إليه ، إن ربي قريب مجيب ) . . ( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال . يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، ولا تنقصوا المكيال والميزان ، إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط . ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين . بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ) . .
فكلهم إذن قال هذه الكلمة الواحدة ودعا بهذه الدعوة الثابتة . .
ومن ذلك عرض مواقف الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وهم يتلقون الإعراض والتكذيب ، والسخرية والاستهزاء ، والتهديد والإيذاء ، بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق ، وفي نصر الله الذي لا شك آت ؛ ثم تصديق العواقب في الدنيا - وفي الآخرة كذلك - لظن الرسل الكرام بوليهم القادر العظيم ، بالتدمير على المكذبين ، وبالنجاة للمؤمنين :
ففي قصة نوح نجد هذا المشهد : ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه : ما نراك إلا بشرا مثلنا ، وما نراك )( اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ، وما نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين . . قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ، إن أجري إلا على الله ، وما أنا بطارد الذين آمنوا ، إنهم ملاقو ربهم . ولكني أراكم قوما تجهلون . ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ؟ أفلا تذكرون ؟ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول : إني ملك ، ولا أقول للذين تزدري أعينكم : لن يؤتيهم الله خيرا ، الله أعلم بما في أنفسهم ، إني إذن لمن الظالمين . قالوا : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . قال : إنما يأتيكم به الله - إن شاء - وما أنتم بمعجزين ) . . ثم يجيء مشهد الطوفان وهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين .
وفي قصة هود نجد هذا المشهد : ( قالوا : يا هود ما جئتنا ببينة ، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمؤمنين . إن نقول : إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . قال : إني أشهد الله ، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم ، فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، ويستخلف ربي قوما غيركم ، ولا تضرونه شيئا ، إن ربي على كل شيء حفيظ ) . . ثم تجيء العاقبة : ( ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ . وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد . وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ، ألا إن عادا كفروا ربهم ، ألا بعدا لعاد قوم هود ! ) .
وفي قصة صالح نجد هذا المشهد : ( قالوا : يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ، أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب . قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير ) . . ثم تجيء العاقبة بعد عقر الناقة والتكذيب : فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ، إن ربك هو القوي العزيز ، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين . كأن لم يغنوا فيها ، ألا إن ثمود كفروا ربهم ، ألا بعدا لثمود ! . .
وفي قصة شعيب نجد هذا المشهد : قالوا : يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ إنك لأنت الحليم الرشيد ! قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب . ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح ، وما قوم لوط منكم ببعيد . واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، إن ربي رحيم ودود . قالوا : يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ، وإنا لنراك فينا ضعيفا ، ولولا رهطك لرجمناك ، وما أنت علينا بعزيز . قال : يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا ؟ إن ربي بما تعملون محيط . ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ، وارتقبوا إني معكم رقيب . . ثم تجيء الخاتمة : ( ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ، وأخذت الذين ظلموا الصيحة ، فأصبحوا في ديارهم جاثمين . كأن لم يغنوا فيها ، ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ! ) . .
ومن ذلك التعقيب على هذا القصص بتوجيه رسول الله [ ص ] إلى دلالته : والتسريةعنه بما أصاب إخوانه الكرام قبله ؛ وبما أولاهم الله من رعايته ونصره ؛ وتوجيهه [ ص ] إلى مفاصلة المكذبين من قومه كما فاصل الرسل الكرام أقوامهم على الحق الذي أرسلوا به . . وذلك إلى التنويه بدلالة هذا القصص ذاته على صدق دعواه في الوحي والرسالة .
فبعد نهاية قصة نوح نجد هذا التعقيب : ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ، فاصبر ، إن العاقبة للمتقين ) .
وفي نهاية القصص الوارد في السورة نجد هذا التعقيب الطويل إلى ختام السورة : ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد . وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ، وما زادوهم غير تتبيب . وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، إن أخذه أليم شديد ) . . . ( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ؛ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ، وإنهم لفي شك منه مريب . وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم ، إنه بما يعملون خبير . فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ، ولا تطغوا ، إنه بما تعملون بصير . ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ، ثم لا تنصرون . وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذكرى للذاكرين . واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) . . . ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذه الحق ، وموعظة وذكرى للمؤمنين . وقل للذين لا يؤمنون : اعملوا على مكانتكم إنا عاملون . وانتظروا إنا منتظرون . ولله غيب السماوات والأرض ، وإليه يرجع الأمر كله ، فاعبده ، وتوكل عليه ، وما ربك بغافل عما تعملون ) . .
وهكذا يتجلى لنا الجانب الحركي في التوجيه القرآني ؟ وهكذا نرى القرآن يواجه واقع الدعوة والحركة في كل مرحلة بالتوجيه المكافيء للموقف ؛ وهكذا نجد القصص في القرآن يواجه مقتضيات الحركة والمعركة مع الجاهلية في مراحلها المختلفة مواجهة حية فاعلة ، شأنه شأن بقية السورة التي يجيء فيها ؛ ونجده في الوقت ذاته متناسقا مع سياق السورة وجوها وموضوعها ، متوافيا مع أهدافها ، مصدقا في عالم الواقع لما تقرره من توجيهات وأحكام وإيحاءات تقريرية .
ولقد جاء في التعريف بسورة يونس من قبل في الجزء الحادي عشر :
" ولقد كان آخر عهدنا - في هذه الظلال - بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف - وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول - ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة - فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا . . والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وهاتين ، في الموضوع ، وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك ! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها وتواجه الجاهلية بها ؛ وتفند هذه الجاهلية ، عقيدة وشعورا ، وعبادة وعملا . بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض ، وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ . وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود . . في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا . . إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس بارتفاع وضخامة في الإيقاع ، وسرعة وقوة في النبض ، ولألاء شديد في التصوير والحركة . . بينما تمضي سورة يونسفي إيقاع رخي ، ونبض هادئ ، وسلاسة وديعة ! . . فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا . . ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة ، وملامحها المميزة ، بعد كل هذا التشابه والاختلاف " . .
فالآن نفصل هذه الإشارة المجملة :
إن سورة يونس تحتوي على جانب من القصص مجمل . . إشارة إلى قصة نوح ، وإشارة إلى الرسل من بعده ، وشيء من التفصيل في قصة موسى ، وإشارة مجملة إلى قصة يونس . . ولكن القصص إنما يجيء في السورة شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقاديه التي تستهدفها السورة .
أما سورة هود فالقصص فيها هو جسم السورة . وهو إن جاء شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقاديه التي تستهدفها ؛ إلا أنه يبدو فيه أن استعراض حركة العقيدة الربانية في التاريخ البشري هو الهدف الواضح البارز
لذلك نجد تركيب السورة يحتوي على ثلاثة قطاعات متميزة :
القطاع الأول يتضمن حقائق العقيدة في مقدمة السورة ويشغل حيزا محدودا .
والقطاع الثاني يتضمن حركة هذه الحقيقة في التاريخ ويشغل معظم سياق السورة .
والقطاع الثالث يتضمن التعقيب على هذه الحركة في حيز كذلك محدود . .
وواضح أن قطاعات السورة بجملتها تتعاون وتتناسق في تقرير الحقائق الاعتقادية الأساسية التي يستهدفها سياق السورة كله ؛ وأن كل قطاع منها يقرر هذه الحقائق وفق طبيعته وطريقة تناوله لهذه الحقائق . وهي تختلف بين التقرير والقصص والتوجيه
وهذه الحقائق الأساسية التي تستهدف السورة تقريرها هي :
أن ما جاء به النبي [ ص ] وما جاء به الرسل من قبله حقيقة واحدة موحى بها من الله - سبحانه - وهي تقوم على الدينونة لله وحده بلا شريك . والتلقي في هذه الدينونة عن رسل الله وحدهم كذلك . والمفاصلة بين الناس على أساس هذه الحقيقة :
ففي مقدمة السورة تجيء هذه الآيات عن حقيقة دعوة رسول الله - [ ص ] :
ألر . كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . ألا تعبدوا إلا الله ، إنني لكم منه نذير وبشير . . ( أم يقولون : افتراه ؟ قل : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ، وأن لا إله إلا هو ، فهل أنتم مسلمون ؟ ) .
وفي قصص الرسل يرد عن حقيقة دعوتهم ؛ وعن المفاصلة بينهم وبين قومهم وأهلهم على أساس العقيدة :
( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ، إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله ، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) .
( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ ) . .
( ونادى نوح ربه فقال : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين . قال : يا نوح )( إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم ، إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) .
( وإلى عاد أخاهم هودا قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون . . )
( وإلى ثمود أخاهم صالحا ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب . . )
( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . . )
( وإلى مدين أخاهم شعيبا ، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . ) .
( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا . . . ) .
وفي التعقيب ترد هذه الآيات عن حقيقة الدعوة وعن المفاصلة بين الناس على أساسها :
( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ، ثم لا تنصرون ) . .
( ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ، فاعبده وتوكل عليه ، وما ربك بغافل عما تعملون ) .
وهكذا تلتقي قطاعات السورة الثلاثة على تقرير هذه الحقيقة .
ولكي يدين الناس لله وحده بالربوبية ، فإن السورة تتولى تعريفهم به سبحانه ، وتقرر كذلك أنهم في قبضته في هذه الدنيا ؛ وأنهم راجعون إليه يوم القيامة ليجزيهم الجزاء الأخير . . وتتوافى مقاطع السورة الثلاثة في تقرير هذه الحقيقة كذلك .
( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ، ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ، إنه عليم بذات الصدور . وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها ، كل في كتاب مبين ، وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، ولئن قلت : إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين . ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن : ما يحبسه ؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . . )
( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ، وحبط ما صنعوا فيها ، وباطل ما كانوا يعملون ) . .
وفي قصص الرسل تجيء أمثال هذه التعريفات :
( إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم . فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا ، إن ربي على كل شيء حفيظ ) . .
( وإلى ثمود أخاهم صالحا . قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ، فاستغفروه ثم توبوا إليه ، إن ربي قريب مجيب . . )
( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة . إن أخذه أليم شديد ) . .
( وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم ، إنه بما يعملون خبير ) .
( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون . ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ، ولذلك خلقهم ، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) . . وهكذا تتوافى قطاعات السورة الثلاثة كذلك على التعريف بحقيقة الألوهية وحقيقة الآخرة في سياقها . وهي لا تستهدف إثبات وجود الله - سبحانه - إنما تستهدف تقرير ربوبية الله وحده في حياة البشر ، كما أنها مقررة في نظام الكون . . فقضية الألوهية لم تكن محل خلاف ؛ إنما قضية الربوبية هي التي كانت تواجهها الرسالات ؛ وهي التي كانت تواجهها الرسالة الأخيرة . إنها قضية الدينونة لله وحده بلا شريك ؛ والخضوع لله وحده بلا منازع . ورد أمر الناس كلهم إلى سلطانه وقضائه وشريعته وأمره . كما هو واضح من هذه المقتطفات من قطاعات السورة جميعا .
وفي سبيل إنشاء تلك الحقائق الاعتقادية في الضمائر ، وتثبيتها في النفوس ، وتعميقها في الكيان البشري ، وبث الحياة النابضة الدافعة فيها بحيث تستحيل قوة إيجابية موحية ، مكيفة للمشاعر والتصورات والأعمال والحركات . . في سبيل إنشاء تلك الحقائق على هذا النحو وفي هذا المستوى يحتوي سياق السورة على شتى المؤثرات الموحية والإيقاعات التي تلمس أوتار الكيان البشري كلها في عمق واستجاشة ، وهو يعرض هذه الحقائق ويفصلها . .
يحتوي الكثير من الترغيب والترهيب . . الترغيب في خير الدنيا والآخرة لمن يستجيب لداعي الدينونة لله وحده بلا شريك ، وما تحمله للبشرية من خير وصلاح ونماء . . والترهيب بالحرمان من خير الدنيا أو الآخرة ؛ وبالعذاب في الدنيا أو في الآخرة لمن يعرضون عن هذا الداعي ، ويسلكون طريق الطواغيت حيث يسلمونهم في الآخرة إلى جهنم ، التي يقودون لها أتباعهم في الآخرة جزاء ما استسلم لقيادتهم هؤلاء الأتباع في الدنيا ؛ ورضوا بالدينونة لهم دون الدينونة لله تعالى . وهذه نماذج من الترهيب والترغيب :
( . . . ألا تعبدوا إلا الله ، إنني لكم منه نذير وبشير ، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله . وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير . إلى الله مرجعكم ، وهو على كل شيء قدير ) . .
( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ، وهم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ، وحبط ما صنعوا فيها ، وباطل ما كانوا يعملون ) . .
( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ؟ أولئك يعرضون على ربهم ، ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أولياء ، يضاعف لهم العذاب ، ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون . أولئك الذين خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ، هل يستويان مثلا ؟ أفلا تذكرون ؟ ) .
( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ، ولا تتولوا مجرمين ) . . . ( فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، ويستخلف ربي قوما غيركم ، ولا تضرونه شيئا ، إن ربي على كل شيء حفيظ ) . .
( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين . إلى فرعون وملئه ، فاتبعوا أمر فرعون ، وما أمر فرعون برشيد . يقدم قومه يوم القيامة ، فأوردهم النار ، وبئس الورد المورود . واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ! . . . )
ويحتوي السياق ذلك القصص الطويل الذي يصدق ذلك الترغيب والترهيب في حركة العقيدة على مدار التاريخ ؛ من مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين - على النحو الذي سبق في بعض المقتطفات - ويبرز مشهد الطوفان بصفة خاصة ؛ ويبلغ نبض السورة أعلى مستواه في ثنايا هذا المشهد الكوني الفريد :
( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون . واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون . ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ، قال : إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون . فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ، ويحل عليه عذاب مقيم . حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك - إلا من سبق عليه القول - ومن آمن ، وما آمن معه إلا قليل . وقال : اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم . وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونادى نوح ابنه - وكان في معزل - يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين . قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ! قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين . وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء ، وقضي الأمر واستوت على الجودي ، وقيل : بعدا للقوم الظالمين . . . الخ . . . الخ . . . الخ . . . )
ويحتوي بعض صور النفس البشرية في مواجهة الأحداث الجارية بالنعماء والبأساء ؛ فيرفع للمكذبين المستعجلين بالعذاب ، المتحدين للنذر في استهتار . . يرفع لهم صورأنفسهم وهم في مواجهة ما يستعجلون به حين يحل بهم ؛ وفي الحسرات التي تصيب أنفسهم على تقلب الأحداث بهم ؛ وفوت النعمة وإفلاتها من أيديهم ؛ وفي البطر والغرور والانخداع بكشف الضر وفيض النعمة من جديد :
( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن : ما يحبسه ؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم . وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ، ثم نزعناها منه ، إنه ليئوس كفور . ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن : ذهب السيئات عني ، إنه لفرح فخور . إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم مغفرة وأجر كبير . . . )
ويحتوي شيئا من مشاهد القيامة ؛ وصور المكذبين فيها ؛ ومواجهتهم لربهم الذي كذبوا بوحيه وتولوا عن رسله ؛ وما يجدونه يومئذ من خزي ؛ لا ينصرهم منه أرباب ولا شفعاء :
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ؟ أولئك يعرضون على ربهم ، ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ! ألا لعنة الله عى الظالمين ! الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أولياء ، يضاعف لهم العذاب ، ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، أولئك الذين خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) .
( إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ، ذلك يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود . وما نؤخره إلا لأجل معدود . يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ، فمنهم شقي وسعيد . فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق . خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض - إلا ما شاء ربك - إن ربك فعال لما يريد . وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض - إلا ما شاء ربك - عطاء غير مجذوذ ) .
ومن المؤثرات التي ترتجف لها القلوب ما يصوره السياق من حضور الله سبحانه واطلاعه على ما يخفي البشر من ذوات الصدور ؛ بينما هم غارون لا يستشعرون حضوره سبحانه ، ولا علمه المحيط ؛ ولا يحسون قهره للخلائق وإحاطته بها جميعا ، وهم - الذين يكذبون - في قبضته كسائر الخلائق ؛ من حيث لا يشعرون : ( إلى الله مرجعكم ، وهو على كل شيء قدير . ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ! ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ، إنه عليم بذات الصدور . وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها ، كل في كتاب مبين ) . .
( إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم ) .
ومن المؤثرات الموحية في سياق السورة كذلك ، استعراض موكب الإيمان . بقيادة الرسل الكرام ، على مدار الزمان . وكل منهم يواجه الجاهلية الضالة بكلمة الحق الواحدة الحاسمة الجازمة ، في صراحة وفي صرامة ، وفي ثقة وطمأنينة ويقين . . وقد مر جانب من هذا الاستعراض في المقتطفات السابقة ، والبقية ستأتي في موضعها في تفسير السورة . ومما لا شك فيه أن وحدة موقف الرسل الكرام ، ووحدة الحقيقة التي يواجهون بها الجاهلية على مدار الزمان ؛ ووحدة العبارات المحكية عنهم التي تتضمن هذه الحقيقة . . يحمل في طياته ما يحمل من قوة وإيقاع وإيحاء . .
وحسبنا في تقديم السورة هذه الإشارات المجملة حتى نلتقي بنصوص السورة مفصلة . .
( آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . ألا تعبدوا إلا الله ، إنني لكم منه نذير وبشير ، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله ، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير . إلى الله مرجعكم . وهو على كل شيء قدير ) . .
إنها جملة الحقائق الاعتقاديه الأساسية :
جزاء الله في الدنيا والآخرة لمن يهتدون بهداه ويتبعون منهجه للحياة .
جزاء الله في الآخرة للمكذبين ، وعودة الجميع إلى الله عصاة وطائعين .
قدرته المطلقة وسلطانه غير المحدود .
ألف . لام . راء : مبتدأ ، خبره : ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) . . وهذا الكتاب المؤلف من مثل هذه الأحرف هو الذي يكذبون به . وهم عن شيء من مثله عاجزون !
( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) . .
أحكمت آياته ، فجاءت قوية البناء ، دقيقة الدلالة ، كل كلمة فيها وكل عبارة مقصودة ، وكل معنى فيها وكل توجيه مطلوب ، وكل إيماءة وكل إشارة ذات هدف معلوم . متناسقة لا اختلاف بينها ولا تضارب ، ومنسقة ذات نظام واحد . ثم فصلت . فهي مقسمة وفق أغراضها ، مبوبة وفق موضوعاتها ، وكل منها له حيز بمقدار ما يقتضيه .
أما من أحكمها ، ومن فصلها على هذا النحو الدقيق ؟ فهو الله سبحانه ، وليس هو الرسول : ( من لدن حكيم خبير ) . .
يحكم الكتاب عن حكمة ، ويفصله عن خبرة . . هكذا جاءت من لدنه ، على النحو الذي أنزل على الرسول ، لا تغيير فيها ولا تبديل .
{ الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } .
قال أبو جعفر : قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله الر والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ يعني : هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن . ورفع قوله : «كتابٌ » بنية : هذا كتاب . فأما على قول من زعم أن قوله : الر مراد به سائر حروف المعجم التي نزل بها القرآن ، وجعلت هذه الحروف دلالة على جميعها ، وأن معنى الكلام : هذه الحروف كتاب أحكمت آياته ، فإن الكتاب على قوله ينبغي أن يكون مرفوعا بقوله : الر .
وأما قوله : أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : تأويله : أحكمت آياته بالأمر والنهي ، ثم فصلت بالثواب والعقاب . ذكر من قال ذلك :
13862حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرني أبو محمد الثقفي ، عن الحسن ، في قوله : كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ قال : أحكمت بالأمر والنهِي ، وفصّلت بالثواب والعقاب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا عبد الكريم بن محمد الجرجاني ، عن أبي بكر الهذلي ، عن الحسن : الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ قال : أحكمت في الأمر والنهي وفصلت بالوعيد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن رجل ، عن الحسن : الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ قال : بالأمر والنهِي ثُمّ فُصّلَتْ قال : بالثواب والعقاب .
ورُوي عن الحسن قول خلافَ هذا . وذلك ما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : وحدثنا عباد بن العوّام ، عن رجل ، عن الحسن : أُحْكِمَتْ بالثواب والعقاب ثُمّ فُصّلَتْ بالأمر والنهِي .
وقال آخرون : معنى ذلك : أحكمت آياته من الباطل ، ثم فصلت ، فبين منها الحلال والحرام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بعلمه ، فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ قال : أحكمها الله من الباطل ، ثم فصلها : بينها .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : أحكم الله آياته من الدّخل والخلل والباطل ، ثم فصلها بالأمر والنهي . وذلك أن إحكام الشيء إصلاحه وإتقانه ، وإحكام آيات القرآن إحكامها من خلل يكون فيها أو باطل يقدر ذوزيغ أن يطعن فيها من قبله . وأما تفصيل آياته فإنه تمييز بعضها من بعض بالبيان عما فيها من حلال وحرام وأمر ونهي . وكان بعض المفسرين يفسر قوله : فُصّلَتْ بمعنى : فسرت ، وذلك نحو الذي قلنا فيه من القول . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ثُمّ فُصّلَتْ قال : فسرت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فُصّلَتْ قال : فسرت .
قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : بلغني ، عن مجاهد : ثُمّ فُصّلَتْ قال : فسرت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال قتادة : معناه : بيّنت ، وقد ذكرنا الرواية بذلك قبل ، وهو شبيه المعنى بقول مجاهد .
وأما قوله : مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ فإن معناه : حكيم بتدبير الأشياء وتقديرها ، خبير بما يؤول إليه عواقبها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ يقول : من عند حكيم خبير .
{ الر كتاب } مبتدأ وخبر أو { كتاب } خبر مبتدأ محذوف . { أُحكمت آياته } نظمت نظما محكما لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ والمعنى ، أو منعت من الفساد والنسخ فإن المراد آيات السورة وليس فيها منسوخ ، أو أحكمت بالحجج والدلائل أو جعلت حكمية منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية . { ثم فصّلت } بالفوائد من العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار ، أو بجعلها سوراً أو بالإنزال نجما نجما ، أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه . وقرئ { ثم فصّلت } أي فرقت بين الحق والباطل وأحكمت آياته { ثم فصلت } على البناء للمتكلم ، و{ ثم } للتفاوت في الحكم أو للتراخي في الأخبار . { من لدُن حكيم خبير } صفة أخرى ل { كتاب } ، أو خبر بعد خبر أو صلة ل { أحكمت } أو { فصلت } ، وهو تقرير لأحكامها وتفصيلها على أكمل ما ينبغي باعتبار ما ظهر أمره وما خفي .
سميت في جميع المصاحف وكتب التفسير والسنة سورة هود ، ولا يعرف لها اسم غير ذلك ، وكذلك وردت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أن أبا بكر قال : يا رسول الله قد شبت ، قال : شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت . رواه الترمذي بسند حسن في كتاب التفسير من سورة الواقعة . وروي من طرق أخرى بألفاظ متقاربة يزيد بعضها على بعض .
وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات ، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها ، ولأن عادا وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله { ألا بعدا لعاد قوم هود } ، وقد تقدم في تسمية سورة يونس وجه آخر للتسمية ينطبق على هذه وهو تمييزها من بين السور ذوات الافتتاح ب{ ألر } .
وهي مكية كلها عند الجمهور . وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير ، وقتادة إلا آية واحدة وهي { وأقم الصلاة طرفي النهار إلى قوله للذاكرين } . وقال ابن عطية : هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة . وهي قوله تعالى { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } ، وقوله { أفمن كان على بينة من ربه } إلى قوله { أولئك يؤمنون به } قيل نزلت في عبد الله بن سلام ، وقوله { وأقم الصلاة طرفي النهار } الآية . قيل نزلت في قصة أبي اليسر كما سيأتي ، والأصح أنها كلها مكية وأن ما روي من أسباب النزول في بعض آيها توهم لاشتباه الاستدلال بها في قصة بأنها نزلت حينئذ كما يأتي ، على أن الآية الأولى من هذه الثلاث واضح أنها مكية .
نزلت هذه السورة بعد سورة يونس وقبل سورة يوسف . وقد عدت الثانية والخمسين في ترتيب نزول السور . ونقل ابن عطية في أثناء تفسير هذه السورة أنها نزلت قبل سورة يونس لأن التحدي فيها وقع بعشر سور وفي سورة يونس وقع التحدي بسورة ، وسيأتي بيان هذا .
وقد عدت آياتها مائة وإحدى وعشرين في العدد المدني الأخير . وكانت آياتها معدودة في المدني الأول مائة واثنتين وعشرين ، وهي كذلك في عدد أهل الشام وفي عدد أهل البصرة وأهل الكوفة مائة وثلاث وعشرون .
وأغراضها : ابتدأت بالإيماء إلى التحدي لمعارضة القرآن بما تومئ إليه الحروف المقطعة في أول السورة .
وبالنهي عن عبادة غير الله تعالى .
وبأن الرسول عليه الصلاة والسلام نذير للمشركين بعذاب يوم عظيم وبشير للمؤمنين بمتاع حسن إلى أجل مسمى .
والإعلام بأن الله مطلع على خفايا الناس .
وأن الله مدبر أمور كل حي على الأرض .
وأن مرجع الناس إليه ، وأنه ما خلقهم إلا للجزاء .
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته عما يقوله المشركون وما يقترحونه من آيات على وفق هواهم { أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك } .
وأن حسبهم آية القرآن الذي تحداهم بمعارضته فعجزوا عن معارضته فتبين خذلانهم فهم أحقاء بالخسارة في الآخرة .
وضرب مثل لفريقي المؤمنين والمشركين .
وذكر نظرائهم من الأمم البائدة من قوم نوح وتفصيل ما حل بهم وعاد وثمود ، وإبراهيم ، وقوم لوط ، ومدين ، ورسالة موسى ، تعريضا بما في جميع ذلك من العبر وما ينبغي منه الحذر فإن أولئك لم تنفعهم آلهتهم التي يدعونهم .
وأن في تلك الأنباء عظة للمتبعين بسيرهم .
وأن ملاك ضلال الضالين عدم خوفهم عذاب الله في الآخرة فلا شك في أن مشركي العرب صائرون إلى ما صار إليه أولئك .
وانفردت هذه السورة بتفصيل حادث الطوفان وغيضه .
ثم عرض باستئناس النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته باختلاف قوم موسى في الكتاب الذي أوتيه فما على الرسول وأتباعه إلا أن يستقيم فيما أمره الله وأن لا يركنوا إلى المشركين ، وأن عليهم بالصلاة والصبر والمضي في الدعوة إلى الصلاح فإنه لا هلاك مع الصلاح .
تقدم القول على الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور في أول سورة البقرة وغيرها من نظرائها وما سورة يونس ببعيد .
{ كتاب أحكمت اياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير }
القول في الافتتاح بقوله : { كتاب } وتنكيره مماثل لما في قوله : { كتاب أنزل إليك } في سورة [ الأعراف : 2 ] .
والمعنى : أن القرآن كتاب من عند الله فلماذا يَعجب المشركون من ذلك ويكذبون به . ف ( كتاب ) مبتدأ ، سوغ الابتداء ما فيه من التنكير للنوعية .
ومن لدن حكيم خبير } خبَر و { أحكمت آياته } صفة ل ( كتاب ) ، ولك أن تجعل { أحكمت آياته } صفة مخصصة ، وهي مسوغ الابتداء . ولك أن تجعل ( أحكمت ) هو الخبر . وتجعل { من لدن حكيم خبير } ظرفاً لغواً متعلقاً ب { أحكمت } و { فُصلت } .
والإحكام : إتقان الصنع ، مشتق من الحِكْمة بكسر الحاء وسكون الكاف . وهي إتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الأخلال التي تعرض لنوعها ، أي جعلت آياته كاملة في نوع الكلام بحيث سلمت من مخالفة الواقع ومن أخلال المعنى واللفظ . وتقدم عند قوله تعالى : { منه آيات محكمات } في أول سورة [ آل عمران : 7 ] . وبهذا المعنى تنبىء المقابلة بقوله : { من لدن حكيم } .
وآيات القرآن : الجمل المستقلة بمعانيها المختتمة بفواصل . وقد تقدم وجه تسمية جمل القرآن بالآيات عند قوله تعالى : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } في أوائل سورة [ البقرة : 39 ] ، وفي المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير .
والتفصيل : التوضيح والبيان . وهو مشتق من الفَصل بمعنى التفريق بين الشيء وغيره بما يميزه ، فصار كناية مشهورة عن البيان لما فيه من فصل المعاني . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } في سورة [ الأنعام : 55 ] .
ونظيره : الفرق ، كنى به عن البيان فسمي القرآن فُرقاناً . وعن الفصل فسمي يوم بَدر يوم الفرقان ، ومنه في ذكر ليلة القدر { فيها يُفرق كل أمر حكيم } [ الدخان : 4 ] .
و ( ثُم ) للتراخي في الرتبة كما هو شأنها في عطف الجمل لما في التفصيل من الاهتمام لدى النفوس لأن العقول ترتاح إلى البيان والإيضاح .
و { من لدن حكيم خبير } أي من عند الموصوف بإبداع الصنع لحكمته ، وإيضاح التبيين لقوة علمه . والخبير : العالم بخفايا الأشياء ، وكلما كثرت الأشياء كانت الإحاطة بها أعز ، فالحكيم مقابل ل { أحْكمتْ } ، والخبير مقابل ل { فُصّلتْ } . وهما وإن كانا متعلّق العلم ومتعلّق القدرة إذ القدرة لا تجري إلا على وفق العلم ، إلا أنه روعي في المقابلة الفعلُ الذي هو أثرُ إحدى الصفتين أشدُّ تبادُراً فيه للناس من الآخر وهذا من بليغ المزاوجة .