معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (117)

قوله تعالى : { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } ، وحدوه ولا تشركوا به شيئاً .

قوله تعالى : { وكنت عليهم شهيداً ما دمت } ، أقمت .

قوله تعالى : { فيهم فلما توفيتني } ، قبضتني ، ورفعتني إليك .

قوله تعالى : { كنت أنت الرقيب عليهم } الحفيظ عليهم ، تحفظ أعمالهم .

قوله تعالى : { وأنت على كل شيء شهيد } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (117)

وبعد هذا التنزيه من عيسى - عليه السلام - لله عز وجل - ، وبعد هذا النفي المؤكد لما سئل عنه بعد كل ذلك يحكي القرآن ما قاله عيسى لقومه فيقول : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } أي : ما قلت لهم - يا إلهي - { اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } وإنما القول الذي قلته لهم هو الذي أمرتني أن أبلغهم إياه وهو عبادتك وحدك لا شريك لك ، فأنت ربي وربهم ، وأنت الذي خلقتني وخلقتهم ، فجيب أن ندين لك جميعاً بالعبادة والخضوع والطاعة ، وأنت تعلم يا إلهي - أنن لم أقصر في ذلك ، وأنني كنت رقيباً وشهيداً على قومي ، وداعياً لهم إلى إخلاص العبادات لك والعمل بموجب أمرك مدة بقائي فيهم .

قال الفخر الرازي : وأن في قوله { أَنِ اعبدوا الله } مفسرة والمفسر هو الهاء في ( به ) من قوله { إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } وهو يعود إلى القول المأمور به .

والمعنى : ما قلت لهم إلا قولا أمرتني به ، وذلك القول هو أن : اعبدوا الله ربي وربكم واعلم أنه كان الأصل أن يقال : ما أمرتهم إلا بما أمرتني به إلا أنه وضع القول موضع الأمر ، نزولا على موجب الأدب الحسن لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معا ، ودل على الأصل بذكرأن المفسرة .

وقوله : { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } بيان لانتهاء مهمته بعد فراقه لقومه .

أي : أنت تعلم يا إلهي بأني ما أمرتهم إلا بعبادتك وبني ما قصرت في حملهم على طاعتك مدة وجودي معهم ، { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي } يا إلهي أي : قبضتني بالرفع إلى السماء حيا ، كنت أنت الرقيب عليهم . أي : كنت أنت وحدك الحفيظ عليهم المراقب لأحوالهم ، العليم بتصرفاتهم الخبير بمن أحسن منهم وبمن أساء وأنت - يا إلهي - على كل شيء شهيد ، لا تخفى عليك خافية من أمور خلقك .

هذا . وما ذهبنا إليه من أن معنى { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي } أي : قبضتني بالرفع إلى السماء حيا قول جمهور العلماء .

ومنهم من يرى أن معنى { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي } أي : أمتني وزعموا أن رفعه إلى السماء كان بعد موته .

قال بعض العلماء مؤيدا ما ذهب إليه الجمهور قوله : { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي } أي فلما أخذتني وافيا بالرفع إلى السماء حيا ، إنجاء لي مما دبروه من قتلي ، من التوفي وهو أخذ الشيء وافيا أي كاملا . وقد جاء التوفي بهذا المعنى في قوله - تعالى - { ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ . . . } ولا يصح أن يحمل التوفي على الإِماتة ، لأن إماتة عيسى في وقت حصار أعدائه له ليس فيها ما يسوغ الامتنان بها ، ورفعه إلأى السماء جثة هامدة سخف من القول ، وقد نزه الله السماء أن تكون قبرا لجثث الموتى ، وإن كان الرفع بالروح فقط ، فأي مزية لعيسى في ذلك على سائر الأنبياء ، والسماء مستقر أرواحهم الطاهرة فالحق أنه - عليه السلام - رفع إلى السماء حيا بجسده وروحه وقد جعله الله آية ، والله على كل شيء قدير .

وقال الشيخ القاسمي : وقد دلت الآية الكريمة على أن الأنبياء بعد استيفاء أجلهم الدنيوي ، ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم وقد روى البخاري هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم :

" يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا " أي غير مختونين - ثم قال : ( كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) . ثم قال صلى الله عليه وسلم : " ألا وإن أول الخلائق يكسي يوم القيامة إبراهيم ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح ، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ، فيقال لي : إن هؤلاء لا يزالون مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (117)

وعندئذ فقط ، وبعد هذه التسبيحة الطويلة يجرؤ على الإثبات والتقرير فيما قاله وفيما لم يقله ، فيثبت أنه لم يقل لهم إلا أن يعلن عبوديته وعبوديتهم لله ويدعوهم إلى عبادته :

( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به : أن اعبدوا الله ربي وربكم ) .

ثم يخلي يده منهم بعد وفاته . . وظاهر النصوص القرآنية يفيد أن الله - سبحانه - قد توفى عيسى بن مريم ثم رفعه إليه . وبعض الآثار تفيد أنه حي عند الله . وليس هنالك - فيما أرى - أي تعارض يثير أي استشكال بين أن يكون الله قد توفاه من حياة الأرض ، وأن يكون حيا عنده . فالشهداء كذلك يموتون في الأرض وهم أحياء عند الله . أما صورة حياتهم عنده فنحن لا ندري لها كيفا . وكذلك صورة حياة عيسى - عليه السلام - وهو هنا يقول لربه : إنني لا أدري ماذا كان منهم بعد وفاتي :

( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (117)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } . .

وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول عيسى ، يقول : ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم ، وهو أن قلت لهم " اعْبُدُوا الله رَبّي ورَبّكُمْ وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا " يقول : وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم . " فَلمّا توفّيْتَني " يقول : فلما قبضتني إليك ، " كُنْتُ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيهِمْ " يقول : كنت أنت الحفيظ عليهم دوني ، لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم .

وفي هذا تبيان أن الله تعالى إنما عرّفه أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه وتوفاه بقوله : " أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ . . . " وأنْتَ على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ " يقول : وأنت تشهد على كل شيء ، لأنه لا يخفى عليك شيء ، وأما أنا فإنما شهدت بعض الأشياء ، وذلك ما عاينت وأنا مقيم بين أظهر القوم ، فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت ورأيت وشهدت .

وبنحو الذي قلنا في قوله : " كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ " قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ " أما الرقيب : فهو الحفيظ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : " كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ " قال : الحفيظ .

وكانت جماعة من أهل العلم تقول : كان جواب عيسى الذي أجاب به ربه من الله تعالى توقيفا منه له فيه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ " قال : الله وقّفه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو داود الحفري ، قال : قرئ على سفيان ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه طاوس ، قال : احتجّ عيسى والله وقّفه : " أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ . . . " الاية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جريج ، عن عطاء ، عن ميسرة ، قال : قال الله تعالى : " يا عِيسَى ابْنَ مَرْيمَ أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه " ؟ قال : فأرعدت مفاصله ، وخشي أن يكون قد قالها ، ف " قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (117)

{ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه . { أن اعبدوا الله ربي وربكم } عطف بيان للضمير في به ، أو بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا ليلزم بقاء الموصول بلا راجع ، أو خبر مضمر أو مفعوله مثل هو أو أعني ، ولا يجوز إبداله من ما أمرتني به فإن المصدر لا يكون مفعول القول ولا أن تكون أن مفسرة لأن الأمر مسند إلى الله سبحانه وتعالى ، وهو لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم والقول لا يفسر بل الجملة تحكي بعده إلا أن يؤول القول بالأمر فكأن قيل : ما أمرتهم إلا بما أمرتني به أن { اعبدوا الله } . { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } أي رقيبا عليهم أمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه ، أو مشاهدا لأحوالهم من كفر وإيمان . { فلما توفيتني } بالرفع إلى السماء لقوله : { إني متوفيك ورافعك } والتوفي أخذ الشيء وافيا ، والموت نوع منه قال الله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } . { كنت أنت الرقيب عليهم } المراقب لأحوالهم فتمنع من أردت عصمته من القول به بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآيات . { وأنت على كل شيء شهيد } مطلع عليه مراقب له .