قوله تعالى : { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة ، فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة ، فتحروا القبلة وصلوا ، فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا ، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية . وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : نزلت في المسافر يصلي التطوع حيث ما توجهت به راحلته .
أخبرنا محمد بن محمد السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم ابن عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك . عن عبد الله بن دينار . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيث ما توجهت به " .
وقال عكرمة : نزلت في تحويل القبلة ، قال أبو العالية : لما صرفت القبلة إلى الكعبة ، عيرت اليهود المؤمنين وقالوا : ليست لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هكذا وتارة هكذا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقال مجاهد والحسن : لما نزلت { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } قالوا : أين ندعوه فأنزل الله عز وجل :{ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله } يعني أينما تحولوا وجوهكم فثم أي : هناك وجه الله ، قال الكلبي فثم الله يعلم ويرى " والوجه " صلة كقوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } أي إلا هو ، وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان : فثم قبلة الله ، والوجه والوجهة والجهة القبلة ، وقيل : رضا الله تعالى .
قوله تعالى : { إن الله واسع } . أي غني يعطي في السعة ، قال الفراء : الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء ، قال الكلبي : واسع المغفرة .
ثم أخذ القرآن في تسلية المسلمين الذين أخرجوا من مكة وفارقوا المسجد الحرام ، مبيناً لهم أن الجهات كلها لله - تعالى - فقال : { وَللَّهِ المشرق والمغرب . . . }
المشرق والمغرب : مكان شروق الشمس وغروبها ، والمراد بهما هنا جمع جهات الأرض .
واللام في قوله : { وَللَّهِ } تفيد معنى الملك .
والتولية : التوجه من جهة إلى أخرى . و ( ثم ) اسم إشارة للمكان .
والوجه : الجهة ، فوجه الله الجهة التي ارتضاها وأمر بالتوجه إليها وهي القبلة .
والمعنى : أن جميع الأرض ملك لله وحده ، ففي أي مكان من المشرق والمغرب توليتم شطر القبلة التي أمركم الله بها ورضيها لكم ، فهناك جهته - سبحانه - التي أمرتم بها ، والتي تبرأ ذممكم باستقبالها .
ومعنى هذا : الإذن بإقامة الصلاة في أي مكان من الأرض دون أن تختص بها المساجد ، ففي الحديث الشريف : " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " .
وكأن الآية تومى ، إلى أن سعى أولئك الظالمين في منع المساجد من ذكره - تعالى - وتخريبها ، لا يمنع من أداء العبادة لله - تعالى - : لأن له المشرق والمغرب وما بينهما ، فأينما حل الإِنسان وتحرى القبلة المأمور بالتوجه إليها فهناك جهة الله المطلوب منه استقبالها .
وذيلت الآية بقوله { إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } لإِفادة سعة ملكه أو سعة تيسيره على عباده في أمر الدين : أي : إن الله يسع خلقه جميعاً برحمته وتيسيره وجوده وهو عليم بأعمالهم لا يخفى عليه عمل عامل أنيما كان وكيفما كان .
{ وَللّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
يعني جل ثناؤه بقوله : ولِلّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ : لله ملكهما وتدبيرهما ، كما يقال : لفلان هذه الدار ، يعني بها أنها له ملكا ، فذلك قوله : ولِلّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يعني أنهما له ملكا وخلقا . والمشرق : هو موضع شروق الشمس ، وهو موضع طلوعها ، كما يقال لموضع طلوعها منه مَطْلِع بكسر اللام ، وكما بينا في معنى المساجد آنفا .
فإن قال قائل : أوَ ما كان لله إلا مشرق واحد ومغرب واحد حتى قيل : ولِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ ؟ قيل : إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إليه ، وإنما معنى ذلك : ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم ، والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم . فتأويله إذا كان ذلك معناه : ولله ما بين قُطْرَي المشرق ، وما بين قُطري المغرب ، إذ كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحَوْلِ الذي بعده ، وكذلك غروبها كل يوم .
فإن قال : أَوَ ليس وإن كان تأويل ذلك ما ذكرت فللّه كل ما دونه ؟ الخلقُ خلقُه قيل : بلى .
فإن قال : فكيف خصّ المشارق والمغارب بالخبر عنها أنها له في هذا الموضع دون سائر الأشياء غيرها ؟ قيل : قد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله خَصّ الله ذكر ذلك بما خصه به في هذا الموضع ، ونحن مبينو الذي هو أولى بتأويل الآية بعد ذكرنا أقوالهم في ذلك . فقال بعضهم : خصّ الله جل ثناؤه ذلك بالخبر من أجل أن اليهود كانت توجه في صلاتها وجوهَها قِبَلَ بيت المقدس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مدة ، ثم حُوّلوا إلى الكعبة ، فاستنكرت اليهود ذلك من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : { ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التي كانُوا عَلَيْهَا } فقال الله تبارك وتعالى لهم : المشارق والمغارب كلها لي أُصرّفُ وجوه عبادي كيف أشاء منها ، فحيثما تُوَلّوا فثم وجه الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : كان أوّل ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود ، أمره الله عزّ وجلّ أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيم عليه السلام فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ } إلى قوله : { فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } ارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التي كانُوا عَلَيْهَا فأنزل الله عزّ وجلّ : قُلِ لِلّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ وقال : { أيْنَما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي نحوه .
وقال آخرون : بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين به التوجه شطر المسجد الحرام . وإنما أنزلها عليه معلما نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية ، إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية لأن له المشارق والمغارب ، وأنه لا يخلو منه مكان ، كما قال جل وعزّ : ولا أدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أكْثَرَ إلا هُوَ مَعَهُمْ أيْنَمَا كانُوا قالوا : ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم في التوجه شطر المسجد الحرام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة : قوله جل وعز : { ولِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } ثم نسخ ذلك بعد ذلك ، فقال الله : { ومِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ } .
حدثت عن الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } قال : هي القبلة ، ثم نسختها القبلة إلى المسجد الحرام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا همام ، قال : حدثنا يحيى ، قال : سمعت قتادة في قول الله : { فأيْنَمَا تُولّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } قال : كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة ، وبعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام ، فنسخها الله في آية أخرى : { فَلْنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةَ تَرْضَاها } إلى : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمُ فَولّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } قال : فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعته يعني زيدا يقول : قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فَأينَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِع عَلِيم } قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَولاَءِ قَوْمُ يَهُود يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتا مِنْ بُيُوتِ اللّهِ لَوْ أنّا اسْتَقْبَلْنَاهُ » فاستقبله النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا . فبلغه أن يهود تقول : والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم فكره ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ورفع وجهه إلى السماء ، فقال الله عز وجل : { قَدْ نَرى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ } الآية .
وقال آخرون : نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم إذنا من الله عز وجل له أن يصلي التطوّع حيث توجه وجهه من شرق أو غرب ، في مسيره في سفره ، وفي حال المسايفة ، وفي شدّة الخوف ، والتقاء الزحوف في الفرائض . وأعلمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك ، بقوله : { ولِلّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأيْنَمَا تُولّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا عبد الملك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، ويتأول هذه الآية : { أيْنَمَا تُولّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه قال : «إنما نزلت هذه الآية : { أيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } أن تصلي حيثما توجهتْ بك راحلتك في السفر تطوعا ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوّعا يومىء برأسه نحو المدينة » .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة فلم يعرفوا شَطْرَها ، فصلوا على أنحاء مختلفة ، فقال الله عزّ وجلّ لهم : لي المشارق والمغارب ، فأنّى وليتم وجوهكم فهنالك وجهي ، وهو قِبْلَتُكم معلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا أبو الربيع السمان ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه ، قال : «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة ، فنزلنا منزلاً ، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه . فلما أصبحنا ، إذا نحن قد صلينا على غير القبلة ، فقلنا : يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله عز وجل : { ولِلّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأيْنَما تُولّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثني الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : قلت للنخعي : إني كنت استيقظت أو قال أُوقِظْتُ ، ( شكّ الطبري ) فكان في السماء سحاب ، فصليت لغير القبلة . قال : مضت صلاتك ، يقول الله عزّ وجلّ : { فأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن أشعث السمان ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه ، قال : كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة في سفر ، فلم ندر أين القبلة فصلينا ، فصلى كل واحد منا على حياله . ثم أصبحنا فذكرنا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { فأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنازعوا في أمره من أجل أنه مات قبل أن يصلي إلى القبلة ، فقال الله عز وجل : المشارق والمغارب كلها لي ، فمن وجّه وَجْهَه نحو شيء منها يريدني به ويبتغي به طاعتي ، وجدني هنالك . يعني بذلك أن النجاشي وإن لم يكن صلى إلى القبلة ، فإنه قد كان يوجه إلى بعض وجوه المشارق والمغارب وجهه ، يبتغي بذلك رضا الله عزّ وجل في صلاته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هشام بن معاذ ، قال : حدثني أبي ، عن قتادة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إِنّ أخاكُمْ النّجاشِيّ قَدْ ماتَ فَصَلّوا عَلَيْهِ » قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم قال : فنزلت : وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ خاشعِينَ لِلّهِ قال قتادة : فقالوا إنه كان لا يصلي إلى القبلة ، فأنزل الله عزّ وجل : { ولِلّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك : أن الله تعالى ذكره إنما خصّ الخبر عن المشرق والمغرب في هذه الآية بأنهما له ملكا وإن كان لا شيء إلا وهو له ملك ، إعلاما منه عباده المؤمنين أن له ملكهما وملك ما بينهما من الخلق ، وأن على جميعهم إذْ كان له ملكهم طاعته فيما أمرهم ونهاهم ، وفيما فرض عليهم من الفرائض ، والتوجه نحو الوجه الذي وجهوا إليه ، إذْ كان من حكم المماليك طاعة مالكهم . فأخرج الخبر عن المشرق والمغرب ، والمراد به من بينهما من الخلق ، على النحو الذي قد بينت من الاكتفاء بالخبر عن سبب الشيء من ذكره والخبر عنه ، كما قيل : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْل } وما أشبه ذلك .
ومعنى الآية إذا : ولله ملك الخلق الذي بين المشرق والمغرب يتعبدهم بما شاء ، ويحكم فيهم ما يريد عليهم طاعته فولّوا وجوهكم أيها المؤمنون نحو وجهي ، فإنكم أينما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي .
فأما القول في هذه الآية ناسخة أم منسوخة ، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة ؟ فالصواب فيه من القول أن يقال : إنها جاءت مجيء العموم ، والمراد الخاص وذلك أن قوله : { فأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ }محتمل : أينما تولوا في حال سيركم في أسفاركم ، في صلاتكم التطوّع ، وفي حال مسايفتكم عدوّكم ، في تطوّعكم ومكتوبتكم ، فَثمّ وجه الله كما قال ابن عمر والنخعي ومن قال ذلك ممن ذكرنا عنه آنفا .
ومحتمل : فأينما تُولّوا من أرض الله فتكونوا بها فَثَمّ قِبْلَةُ الله التي توجهون وجوهكم إليها لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها . كما قال أبو كريب :
قال ثنا وكيع ، عن أبي سنان ، عن الضحاك ، والنضر بن عربي ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجل : { فأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } قال : قبلة الله ، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني إبراهيم ، عن ابن أبي بكر ، عن مجاهد ، قال : حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها ، قال : الكعبة .
ومحتمل : فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : لمّا نزلت : { ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ } قالوا : إلى أين ؟ فنزلت : { فأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } .
فإذ كان قوله عز وجل : { فأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } محتملاً ما ذكرنا من الأوجه ، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله : { فأيْنَمَا تُولّوا فَثَمّ وجْهُ اللّه } معنيّ به : فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم . ولا أنها نزلت بعد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس أمرا من الله عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نحو الكعبة ، فيجوز أن يقال : هي ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس إذْ كان من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة التابعين ، من ينكر أن تكون نزلت في ذلك المعنى . ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتٌ بأنها نزلت فيه ، وكان الاختلاف في أمرها موجودا على ما وصفت . ولا هي إذْ لم تكن ناسخة لما وصفنا قامت حجتها بأنها منسوخة ، إذ كانت محتملة ما وصفنا بأن تكون جاءت بعموم ، أو معناها : في حال دون حال إن كان عني بها التوجه في الصلاة ، وفي كل حال إن كان عني بها الدعاء ، وغير ذلك من المعاني التي ذكرنا .
وقد دللنا في كتابنا : «كتاب البيان عن أصول الأحكام » ، على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ ما نفي حكما ثابتا ، وألزم العباد فرضه غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك . فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم ، أو المجمل ، أو المفسر ، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل ، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع . ولا منسوخ إلا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه ، ولم يصحّ واحد من هذين المعنيين لقوله : فأيْنَمَا تُوَلّوا فَثمّ وَجْهُ اللّهِ بحجة يجب التسليم لها ، فيقال فيه : هو ناسخ أو منسوخ .
وأما قوله : فأينما فإن معناه : حيثما .
وأما قوله : { تُوَلّوا } فإن الذي هو أولى بتأويله أن يكون تولون نحوه وإليه ، كما يقول القائل : ولّيت وجهي ( نحوه ) ووليته إليه ، بمعنى : قابلته وواجهته . وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية لإجماع الحجة على أن ذلك تأويله وشذوذ من تأوله بمعنى : تولون عنه فتستدبرونه ، فالذي تتوجهون إليه وجه الله ، بمعنى قبلة الله .
وأما قوله : فَثَمّ فإنه بمعنى : هنالك .
واختلف في تأويل قوله : { فَثَمّ وجه الله } فقال بعضهم : تأويل ذلك : فثم قبلة الله ، يعني بذلك : وجهه الذي وجههم إليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد : { فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } قال : قبلة الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني إبراهيم ، عن مجاهد ، قال : حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها .
وقال آخرون : معنى قول الله عز وجل فثم وجه الله فثم الله تبارك وتعالى .
وقال آخرون : معنى قوله : فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم .
وقال آخرون : عنى بالوجه : ذا الوجه ، وقال قائلو هذه المقالة : وجهُ الله صفةٌ له .
فإن قال قائل : وما هذه الآية من التي قبلها ؟ قيل : هي لها مواصلة ، وإنما معنى ذلك : ومن أظلم من النصارى الذين منعوا عباد الله مساجده أن يذكر فيها اسمه ، وَسَعْوا في خرابها ، ولله المشرق والمغرب ، فأينما تُوجهوا وجوهَكم فاذكروه ، فإن وجهه هنالك يَسَعُكم فضله وأرضه وبلاده ، ويعلم ما تعملون ، ولا يمنعكم تخريب من خرّب مسجد بيت المقدس ، ومنعهم من منعوا من ذكر الله فيه أن تذكروا الله حيث كنتم من أرض الله تبتغون به وجهه .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيم } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { وَاسِعٌ }يسع خَلْقَه كلهم بالكفاية والأفضال والجود والتدبير .
وأما قوله : عَلِيم فإنه يعني أنه عليم بأفعالهم لا يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه ، بل هو بجميعها عليم .