معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

قوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } . سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش ، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم أخت أبيه ، في جمادى الآخرة ، قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه إلى المدينة ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين : سعد بن أبي وقاص الزهري ، وعكاشة بن محمص الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي وأبا حذيفة بن عتبة ابن ربيعة وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله ، وخالد ابن بكير ، وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وقال له : سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين ، فإذا نزلت فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك ، ولا تستكرهن أحداً من أصحابك على السير معك ، فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب ، فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم " أما بعد : فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصد بها عير قريش لعلك تأتينا منها بخبر ، فلما نظر في الكتاب قال : سمعاً وطاعة ، ثم قال لأصحابه ذلك ، وقال إنه نهاني أن أستكره أحداً منكم ، فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ، ومن كره فليرجع ، ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد ، حتى كان بمعدن ، فوق الفرع بموضع من الحجاز يقال له نجران ، أضل سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما يعتقبانه ، فتخلفا في طلبه ، ومضى ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف . فبينما هم كذلك إذ مرت عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة الطائف ، فيهم عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان ، فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم ، فقال عبد الله ابن جحش : إن القوم قد ذعروا منكم ، فاحلقوا رأس رجل منكم وليتعرض لهم ، فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم فقالوا : قوم عمار لا بأس عليكم ، فأمنوهم ، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة ، وكانوا يرون أنه من جمادى وهو من رجب ، فتشاور القوم وقالوا : لئن تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم ، فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم ، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين ، وهو أول قتيل في الهجرة وأدى النبي صلى الله عليه وسلم دية ابن الحضرمي إلى ورثته من قريش . قال مجاهد وغيره لأنه كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش عهد ، وادع أهل مكة سنين أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه . واستأسر الحكم وعثمان فكانا أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل فأعجزهم ، واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام فسفك فيه الدماء ، وأخذ الحرائب ، وعير بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين وقالوا : يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لابن جحش وأصحابه : ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ، ووقف العير والأسيرين ، وأبى أن يأخذ شيئاً من ذلك ، فعظم ذلك على أصحاب السرية ، وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم ، وقالوا : يا رسول الله إنا قد قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى ؟ وأكثر الناس في ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس ، فكان أول خمس في الإسلام ، وقسم الباقي بين أصحاب السرية ، فكان أول غنيمة في الإسلام ، وبعث أهل مكة في فداء أسيرهم فقال : بل نبقيهما حتى يقدم سعد وعقبة وإن لم يقدما قتلناهما بهما ، فلما قدما فاداهما ، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فقتل يوم بئر معونة شهيداً ، وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافراً ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعاً فقتله الله ، فطلب المشركون جيفته بالثمن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوه فإنه خبيث الجيفة ، خبيث الدية ، فهذا سبب نزول هذه الآية .

قوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام } . يعني رجباً ، سمي بذلك لتحريم القتال فيه .

قوله تعالى : { قتال فيه } . أي عن قتال فيه .

قوله تعالى : { قل } . يا محمد .

قوله تعالى : { قتال فيه كبير } . عظيم ، تم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال :

قوله تعالى : { وصد عن سبيل الله } . أي وصدكم المسلمين عن الإسلام .

قوله تعالى : { وكفر به } . أي كفركم بالله .

قوله تعالى : { والمسجد الحرام } . أي بالمسجد الحرام وقيل صدكم عن المسجد الحرام .

قوله تعالى : { وإخراج أهله } . أي إخراج أهل المسجد .

قوله تعالى : { منه أكبر } . وأعظم وزراً .

قوله تعالى : { عند الله والفتنة } . أي الشرك الذي أنتم فيه .

قوله تعالى : { أكبر من القتل } . أي أعظم من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن أنيس إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام ، فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ومنعهم المسلمين عن البيت الحرام ، ثم قال :

قوله تعالى : { ولا يزالون } . يعني مشركي مكة ، وهو فعل لا مصدر له مثل ما عسى .

قوله تعالى : { يقاتلونكم } . يا معشر المؤمنين .

قوله تعالى : { حتى يردوكم } . يصرفوكم .

قوله تعالى : { عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت } . جزم بالنسق .

قوله تعالى : { وهو كافر فأولئك حبطت } . بطلت .

قوله تعالى : { أعمالهم } . حسناتهم .

قوله تعالى : { في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } . قال أصحاب السرية ، يا رسول الله هل نؤجر على وجهنا هذا ؟ وهل نطمع أن يكون سفرنا هذا غزواً ؟ فأنزل الله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

وبعد أن حرض الله - تعالى - المؤمنين على بذل أموالهم وأنفسهم في سبيله عقب ذلك ببيان حكم القتال في الأشهر الحرم فقال - تعالى - : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } . . . إلخ .

وقد ذكر كثير من المفسرين ومن أصحاب السير في سبب نزول هذه الآية قصة ملخصها : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش ومعه اثنا عشر رجلا كلهم من المهاجرين ، وأعطاء كتابا مختوما وأمره ألا يفتحه إلا بعد أن يسير يومين ، ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحداً من أصحابه . فسار عبد الله يومين ثم فتح الكتاب فإذا فيه " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة - مكان بين مكة والطائف - فترصد بها عيراً لقريش وتعلم لنا من أخبارهم " .

فقال عبد الله : سمعا وطاعة ! ! وأخبر أصحابه بذلك وأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فيلنهض ومن كره الموت فليرجع فأما أنا فناهض ! فنهضوا جميعاً ، فلما كانوا في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما يعتقبانه . فتخلفا في طلبه ، ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى وصلوا نخلة فمرت عير لقريش في طريقها لمكة وكانت في حراسة عمرو بن الخصومي وعثمان بن المغيرة ، وأخويه نوفل والحكم به كيسان . فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب . لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن في الحرم فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ! ! فترددوا وهابوا الإِقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، فرمى " واقد بن عبد الله " عمرو بن الحضرمي يسهم فقتله ، وأسروا عثمان والحكم ، وأفلت منهم نوفل فأعجزهم .

وقيل : كان ذلك في أول ليلة من رجب وقد ظنوها آخر ليلة من جمادي . فإقدامهم على ما أقدموا عليه كان على سبيل الخطأ .

ثم أقبل عبد الله ومن معه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله وقد عزلوا من ذلك الخمس فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه وقال لهم : " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام ، واشتد ذلك على المسلمين ، حتى أنزل الله تعالى قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ . . . }

والمعنى : يسألونك يا محمد عن حكم القتال في الشهر الحرام ، قل لهم . القتال فيه أمر كبير مستنكر ، وذنب عظيم مستقبح ، لأن فثيه اعتداء على الشهر الحرام المقدس ، وانتهاك لمحارم الله - تعالى - .

والسائلون قيل هم المؤمنون ؛ وقد سألوا عن حكم ذلك على سبيل التعليم والتماس المخرج لما حصل منهم . وقيل هم المشركون وسؤالهم على سبيل التعبير للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حيث أقدم بعضهم وهو عبد الله ومن معه على القتال فيه فرد الله عليهم بأن القتال فيه كبير ولكن ما فعله هؤلاء المشركون من صد عن سبيل الله وكفر به . . . الخ أكبر من ذلك بكثير .

فالجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين . وتبكيت وتوبيخ إن كان من المشركين ، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيه فيثيروا الشبهات حول الإِسلام والمسلمين ، فلما أجابهم بأن القتال فيه كبير وأن ما فعلوه من جرائم في حق المسلمين أكبر وأعظم كبتوا وألقموا حجراً .

والمراد بالشهر الحرم جميعها وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب .

وسميت بذلك لحرمة القتال فيها ، فأل في الشهر للجنس . وقيل للعهد والمراد بالشهر الحرام شهر رجب الذي حدثت فيه قصة عبد الله بن جحش وأصحابه .

وقوله " قتال فيه " بدل اشتمال من الشهر الحرام ، و { قِتَالٌ } مبتدأ و { كَبِيرٌ } خبر و { فِيهِ } ظرف صفة لقتال مخصصة له .

قال الإِمام الرازي : فإن قيل : لم نكر القتال في قوله - تعالى - : { قِتَالٌ فِيهِ } ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجئ باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول ، لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور غير الأول كما في قوله - تعالى - : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً . إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } قلنا : نعم ما ذكرتم من أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني غير الأول . والقوم أرادوا بقولهم : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ } ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله وأصحابه فقال - تعالى - { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } . وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيراً ليس هو القتال الذي سألتم عنه ؛ بل هو قتال آخر ؛ لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإِسلام وإذلال الكفر فكيف يكون هذا من الكبائر ؟ إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإِسلام وتقوية الكفر ؛ فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة ، ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة . فسبحان من له تحت كل كلمة من كلمات هذا الكتاب - بل تحت كل حرف منه - سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولو الألباب " .

ثم أخذ القرآن يعدد على المشركين جرائمهم التي كل جريمة منها أكبر من القتال في الشهر الحرام الذي فعله المؤمنون لدفع الضرر عن أنفسهم أو لجلهلهم بالميقات فقال - تعالى - : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله } .

أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين نحن نوافقكم على أن القتال في الشهر الحرام كبير ، ثم قل لهم أيضاً على سبيل التوبيخ إن ما فعلتموه أنتم من صرفكم المسلمين عن طاعة الله وعن الوصول إلى حرمه ، ومن شرككم بالله في بيته ، ومن إخراجكم لأهله منه أعظم وزرا عند الله من القتال في الشهر الحرام .

فالمقصود من هذه الجملة الكريمة إدخال الطمأنينة على قلوب المؤمنين بسبب ما وقع من عبد الله بن جحش ومن معه ، وتبكيت المشركين على إجرائمهم التي أولها يتمثل في قوله تعالى - : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } أي : منع من يريد الإِسلام من دخوله ، وابتدأ - سبحانه - ببيان صدهم عن سبيله للإِشارة إلى أنهم يعاندون الحق في ذاته .

وثانيها قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ } أي : كفر بالله - تعالى - وهو معطوف على ما قبله .

وثالثها قوله : { والمسجد الحرام } وهو معطوف على سبيل الله أي : وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام بمنعهم المؤمنين من الحج والاعتمار .

ورابعها قوله : { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ } أي : وإخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من مستقرهم حول المسجد الحرام بمكة وهم القائمون بحقوقه ، كل ذلك " أكبر " جرما ، وأعظم إثما { عِندَ الله } من القتال في الشهر الحرام .

قال الجمل : فقوله " أكبر " خبر عن الثلاثة أعنى : صد وكفر وإخراج وفيه حينئذ احتمالان :

أحدهما : أن يكون خبراً عن المجموع .

وثانيهما : أن يكون خبرا عنهما باعتبار كل واحد كما تقول : زيد وبكر وعمرو أفضل من خالد أي : كل واحد منهم على انفراده أفضل من خالد ، وهذا هو الظاهر . والمفضل عليه محذوف أي : أكبر مما فعلته السرية " .

ثم أضاف - سبحانه - إلى جرائهم السابقة جريمة خامسة فقال : { والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } أي : ما فعله المشركون من إنزال الشدائد بالمؤمنين تارة بإلقاء الشبهات وتارة بالتعذيب ليحملوهم على ترك عقيدتهم أكبر إثما من القتال في الشهر الحرام ، لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة .

وقيل المراد بالفتنة هنا الكفر . أي : كفركم بالله أكبر من القتل في الشهر الحرام .

وأصيل الفتنة : عرض الذهب على النار ، لاستخلاصه من الغش ، ثم استعملت في الشرك وفي الامتحان بأنواع الأذى والاضطهاد .

ويعزى إلى عبد الله بن جحش أنه قال ردا على المشركين عندما قالوا : استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام .

تعدون قتلا في الحرام عظيمة . . . وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

صدودكم عما يقول محمد . . . وكفر به ، والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله . . . لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن عيَّر تُمونا بقتله . . . وأرجف بالإِسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا . . . بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دماً ، وابن عبد الله عثمان بيننا . . . ينازعه غل من القد عاند

وقوله - تعالى - : { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } بيان لشدة عداوة الكفار للمؤمنين ودوامها .

أي : ولا يزال المشركون يقاتلونكم أيها المؤمنون ويضمرون لكم السوء ويداومون على إيذائكم لكي يرجعوكم عن دين الإِسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وقدروا عليه . والتعبي بقوله { وَلاَ يَزَالُونَ } المفيد للدوام والاستمرار للإِشعار بأن عداوة المشركين للمسلمين لا تنقطع وأنهم لن يكفوا عن الإِعداد لقتالهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، فعلى المؤمنين ألا يغفلوا عن الدفاع عن أنفسهم .

و { حتى } للتعليل أي : { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ } لكي { يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } أو بمعنى إلى ، أي : إلى أن يردوكم عن دينكم . والرد : الصرف عن الشيء والإِرجاع إلى ما كان عليه قبل ذلك : فغاية المشركين أن يردوا المسلمين بعد إيمانهم كافرين .

وقوله : { إِن اسْتَطَاعُواْ } يدل - كما يقول الزمخشري - على استبعاد استطاعتهم رد المسلمين عن دينهم ، وذلك كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي فلا تبق على .

وهو واثق من أنه لن يظفر به . ويشهد لذلك التعبير بإن المفيدة للشك .

وفائدة التقييد بالشرط " إن " التنبيه على سخافة عقول المشركين ، وكون دوام عداوتهم للمؤمنين لن تؤدي إلى النتيجة التي يتمنونها وهي رد السملمين عن دينهم ، لأن لهذا الدين ربا يحميه ، وأتباعه يفضلون الموت على الرجوع عنه .

ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة من يرتد عن الإِسلام فقال : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

ويرتدد يفتعل من الرد وهو الرجوع عن دينه إلى الكفر .

و { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : بطلت وفسدت وأصله من الحبط ، بفتح الباء - وهو أن تأكل الدابة أكلا كثيراً تنتفخ معه بطونها فلا تنتفع بما أكلت ويفسد حالها وربما تموت من ذلك . شبه - سبحانه - حال من يعمل الأعمال الصالحة ثم يفسدها بارتداده فتكون وبالا عليه ، بحال الدابة التي أكلت حتى أصابها الحبط ففسد حالها .

والمعنى : ومن يرتدد منكم عن دين الإِسلام ، فيمت وهو كافر دون أن يعود إلى الإِيمان فأولئك الذين ارتدوا وماتوا على الكفر بطلبت جميع أعمالهم الصالحة ، وصارت غير نافعة لهم لا في الدنيا بسبب انسلاخهم عن جماعة المسلمين ، ولا في الآخرة بسبب ردتهم وموتهم على الكفر ، وأولئك الذين هذا شأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون خلوداً أبدياً كسائر الكفرة ، ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئاً .

وجيء بصيغة الافتعال من الردة وهي مؤذنة بالتكلف ، للإِشارة إلى أن من باشر الدين الحق وخالطت بشاشته قلبه كان من المستبعد عليه أن يرجع عنه ، فهذا المرتد لم يكن مستقراً على هذا الدين الحق وإنما قلقاً مضطرباً غير مستقر حتى انتهى به الأمر بموته على الكفر لتكلفه الدخول في الدين الحق دون الثبات عليه .

وفي قوله : { مِنْكُمْ } إشعار بأنه لا يتصور أن تتحقق بغية المشركين وهي أن يردوا المسلمين جميعاً عن دينهم . بل أقصى ما يتصوره العقلاء أن ينالوا ضعيف الإِيمان فيردوه إلى دينهم ، فيكون الله - تعالى - قد نفى خبثه عن هذا الدين ، إذ لا خير في هؤلاء المشركين ولا فيمن عاد إليهم بعد إيمانه ، والكل مأواهم النار وبئس القرار .

قال الجمل : ومن شرطية في محل رفع بالابتداء ، يرتدد فعل الشرط ، ومنكم متعلق بمحذوف لأنه حال من الضمير المستكن في يرتدد ؛ ومن للتبعيض . والتقدير : ومن يرتدد في حال كونه كائناً منكم أي بعضكم ، وعن دينه متعلق بيرتدد ، وقوله فيمت وهو كافر عطف على الشرط والفاء مؤذنة بالتعقيب ، وقوله : { وَهُوَ كَافِرٌ } جملة حالية من ضمير بمت . وقوله : فأولئك جواب اشرط .

وقوله : وأولئك أصحاب النار مستأنف لمجرد الإِخبار بأنهم أصحاب النار أو معطوف على جواب الشرط . . " .

وفي الإِتيان باسم الإِشارة " أولئك " في الموضعين تنبيه إلى أنهم أحرياء بتلك العقوبات الأليمة بسبب ردتهم وموتهم على الكفر .

وفي التنصيص على حبوط أعمالهم في الدنيا والآخرة زيادة مذمة لهم ، فهم في الدنيا - بسبب ردتهم - تسلب عنهم آثار كلمة الشهادتين من حرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليهم بعد الموت ، والدفن في مقابر المسلمين ، ومن طلاق زوجته المسلمة منه ومن عدم التوارث إلى غير ذلك من حقوق المسلمين ، أما في الآخرة فشأنهم شأن الكافرين في ملازمتهم للنار . هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة :

1 - حرمة القتال في الشهر الحرام ، والجمهور على أن هذا الحكم منسوخ ، وأنه لا حرج في قتال المشركين في الأشهر الحرم لقوله - تعالى - : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } فإن المراد بالأشهر الحرم هنا : هي أشهر العهد الأربعة التي أبيح للمشركين السياحة فيها في الأرض ، لا الأشهر الحرم الأربعة المعروفة ، فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأزمنة والأمكنة . وأيضاً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غزا هوازن وثقيف وأرسل بعض أصحابه إلى أوطاس ليحارب من فيها من المشركين ، وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم ، ولو كان القتال فيهن حراما لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم .

قال الآلوسي : وخالف عطاء في ذلك ، فقد روى عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله - تعالى -ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكما مستمراً إلى يوم القيامة ، والأمة اليوم على خلافه في سائر الأمصار " .

وقد رجح بعض العلماء ما ذهب إليه عطاء فقال : ومهما يكن فإن القتال في الأشهر الحرم حرام في حال الاختيار والابتداء فلا يصح البدء بالغزو فيه . ولقد قال جابر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يُغزَى أو يغزو حتى إذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ .

ولقد قال بعض العلماء : إن تحريم القتال في الشهر الحرام منسوخ بقوله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } وبقتال النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فيه . والحقيقة أنه لم يثبت ناسخ صريح في النسخ فإن قوله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } العموم فيه بالنسبة للمقاتلين لا بالنسبة لزمان القتال ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبتدئ قتالا في الشهر الحرام مختاراً قط ، والتحريم في الاختيار والابتداء كما بينا لا في البقاء والاضطرار ، لذا قال - سبحانه - :

{ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } ولأن الأشهر الحرم نص عليها في خطبة الوداع وكل ما جاء فيها غير منسوخ " .

2 - كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من الآية أن الردة تحبط العمل في الدنيا سواء أمات المرتد على كفره أم عاد إلى الإِسلام قبل موته بدليل قوله - تعالى - في آية أخرى { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } فقد علق الحبوط بمجرد الشرك ، والخطاب وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم فالمراد أمته لاستحالة الشرك عليه . وعلى هذا الرأي سار المالكية والأحناف .

ويرى الشافعية أن الردة تحبط العمل في الدنيا متى مات المرتد كافراً ، لأن الآية تقول : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } ويظهر أثر الخلاف فيمن حج مسلما ، ثم أرتد ثم أسلم ، فالأحناف والمالكية يوجبون عليه إعادة الحج لأن الردة أحبطت حجه . والشافعية يقولون : لا حج عليه لأن حجه قد سبق والردة لا تحبط العمل إلا إذا مات الشخص كافراً .

ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه .