قوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } . سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش ، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم أخت أبيه ، في جمادى الآخرة ، قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه إلى المدينة ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين : سعد بن أبي وقاص الزهري ، وعكاشة بن محمص الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي وأبا حذيفة بن عتبة ابن ربيعة وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله ، وخالد ابن بكير ، وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وقال له : سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين ، فإذا نزلت فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك ، ولا تستكرهن أحداً من أصحابك على السير معك ، فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب ، فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم " أما بعد : فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصد بها عير قريش لعلك تأتينا منها بخبر ، فلما نظر في الكتاب قال : سمعاً وطاعة ، ثم قال لأصحابه ذلك ، وقال إنه نهاني أن أستكره أحداً منكم ، فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ، ومن كره فليرجع ، ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد ، حتى كان بمعدن ، فوق الفرع بموضع من الحجاز يقال له نجران ، أضل سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما يعتقبانه ، فتخلفا في طلبه ، ومضى ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف . فبينما هم كذلك إذ مرت عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة الطائف ، فيهم عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان ، فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم ، فقال عبد الله ابن جحش : إن القوم قد ذعروا منكم ، فاحلقوا رأس رجل منكم وليتعرض لهم ، فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم فقالوا : قوم عمار لا بأس عليكم ، فأمنوهم ، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة ، وكانوا يرون أنه من جمادى وهو من رجب ، فتشاور القوم وقالوا : لئن تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم ، فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم ، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين ، وهو أول قتيل في الهجرة وأدى النبي صلى الله عليه وسلم دية ابن الحضرمي إلى ورثته من قريش . قال مجاهد وغيره لأنه كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش عهد ، وادع أهل مكة سنين أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه . واستأسر الحكم وعثمان فكانا أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل فأعجزهم ، واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام فسفك فيه الدماء ، وأخذ الحرائب ، وعير بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين وقالوا : يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لابن جحش وأصحابه : ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ، ووقف العير والأسيرين ، وأبى أن يأخذ شيئاً من ذلك ، فعظم ذلك على أصحاب السرية ، وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم ، وقالوا : يا رسول الله إنا قد قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى ؟ وأكثر الناس في ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس ، فكان أول خمس في الإسلام ، وقسم الباقي بين أصحاب السرية ، فكان أول غنيمة في الإسلام ، وبعث أهل مكة في فداء أسيرهم فقال : بل نبقيهما حتى يقدم سعد وعقبة وإن لم يقدما قتلناهما بهما ، فلما قدما فاداهما ، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فقتل يوم بئر معونة شهيداً ، وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافراً ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعاً فقتله الله ، فطلب المشركون جيفته بالثمن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوه فإنه خبيث الجيفة ، خبيث الدية ، فهذا سبب نزول هذه الآية .
قوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام } . يعني رجباً ، سمي بذلك لتحريم القتال فيه .
قوله تعالى : { قتال فيه } . أي عن قتال فيه .
قوله تعالى : { قل } . يا محمد .
قوله تعالى : { قتال فيه كبير } . عظيم ، تم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال :
قوله تعالى : { وصد عن سبيل الله } . أي وصدكم المسلمين عن الإسلام .
قوله تعالى : { وكفر به } . أي كفركم بالله .
قوله تعالى : { والمسجد الحرام } . أي بالمسجد الحرام وقيل صدكم عن المسجد الحرام .
قوله تعالى : { وإخراج أهله } . أي إخراج أهل المسجد .
قوله تعالى : { منه أكبر } . وأعظم وزراً .
قوله تعالى : { عند الله والفتنة } . أي الشرك الذي أنتم فيه .
قوله تعالى : { أكبر من القتل } . أي أعظم من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن أنيس إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام ، فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ومنعهم المسلمين عن البيت الحرام ، ثم قال :
قوله تعالى : { ولا يزالون } . يعني مشركي مكة ، وهو فعل لا مصدر له مثل ما عسى .
قوله تعالى : { يقاتلونكم } . يا معشر المؤمنين .
قوله تعالى : { حتى يردوكم } . يصرفوكم .
قوله تعالى : { عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت } . جزم بالنسق .
قوله تعالى : { وهو كافر فأولئك حبطت } . بطلت .
قوله تعالى : { أعمالهم } . حسناتهم .
قوله تعالى : { في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } . قال أصحاب السرية ، يا رسول الله هل نؤجر على وجهنا هذا ؟ وهل نطمع أن يكون سفرنا هذا غزواً ؟ فأنزل الله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم } .
وبعد أن حرض الله - تعالى - المؤمنين على بذل أموالهم وأنفسهم في سبيله عقب ذلك ببيان حكم القتال في الأشهر الحرم فقال - تعالى - : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } . . . إلخ .
وقد ذكر كثير من المفسرين ومن أصحاب السير في سبب نزول هذه الآية قصة ملخصها : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش ومعه اثنا عشر رجلا كلهم من المهاجرين ، وأعطاء كتابا مختوما وأمره ألا يفتحه إلا بعد أن يسير يومين ، ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحداً من أصحابه . فسار عبد الله يومين ثم فتح الكتاب فإذا فيه " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة - مكان بين مكة والطائف - فترصد بها عيراً لقريش وتعلم لنا من أخبارهم " .
فقال عبد الله : سمعا وطاعة ! ! وأخبر أصحابه بذلك وأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فيلنهض ومن كره الموت فليرجع فأما أنا فناهض ! فنهضوا جميعاً ، فلما كانوا في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما يعتقبانه . فتخلفا في طلبه ، ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى وصلوا نخلة فمرت عير لقريش في طريقها لمكة وكانت في حراسة عمرو بن الخصومي وعثمان بن المغيرة ، وأخويه نوفل والحكم به كيسان . فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب . لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن في الحرم فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ! ! فترددوا وهابوا الإِقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، فرمى " واقد بن عبد الله " عمرو بن الحضرمي يسهم فقتله ، وأسروا عثمان والحكم ، وأفلت منهم نوفل فأعجزهم .
وقيل : كان ذلك في أول ليلة من رجب وقد ظنوها آخر ليلة من جمادي . فإقدامهم على ما أقدموا عليه كان على سبيل الخطأ .
ثم أقبل عبد الله ومن معه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله وقد عزلوا من ذلك الخمس فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه وقال لهم : " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام ، واشتد ذلك على المسلمين ، حتى أنزل الله تعالى قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ . . . }
والمعنى : يسألونك يا محمد عن حكم القتال في الشهر الحرام ، قل لهم . القتال فيه أمر كبير مستنكر ، وذنب عظيم مستقبح ، لأن فثيه اعتداء على الشهر الحرام المقدس ، وانتهاك لمحارم الله - تعالى - .
والسائلون قيل هم المؤمنون ؛ وقد سألوا عن حكم ذلك على سبيل التعليم والتماس المخرج لما حصل منهم . وقيل هم المشركون وسؤالهم على سبيل التعبير للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حيث أقدم بعضهم وهو عبد الله ومن معه على القتال فيه فرد الله عليهم بأن القتال فيه كبير ولكن ما فعله هؤلاء المشركون من صد عن سبيل الله وكفر به . . . الخ أكبر من ذلك بكثير .
فالجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين . وتبكيت وتوبيخ إن كان من المشركين ، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيه فيثيروا الشبهات حول الإِسلام والمسلمين ، فلما أجابهم بأن القتال فيه كبير وأن ما فعلوه من جرائم في حق المسلمين أكبر وأعظم كبتوا وألقموا حجراً .
والمراد بالشهر الحرم جميعها وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب .
وسميت بذلك لحرمة القتال فيها ، فأل في الشهر للجنس . وقيل للعهد والمراد بالشهر الحرام شهر رجب الذي حدثت فيه قصة عبد الله بن جحش وأصحابه .
وقوله " قتال فيه " بدل اشتمال من الشهر الحرام ، و { قِتَالٌ } مبتدأ و { كَبِيرٌ } خبر و { فِيهِ } ظرف صفة لقتال مخصصة له .
قال الإِمام الرازي : فإن قيل : لم نكر القتال في قوله - تعالى - : { قِتَالٌ فِيهِ } ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجئ باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول ، لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور غير الأول كما في قوله - تعالى - : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً . إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } قلنا : نعم ما ذكرتم من أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني غير الأول . والقوم أرادوا بقولهم : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ } ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله وأصحابه فقال - تعالى - { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } . وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيراً ليس هو القتال الذي سألتم عنه ؛ بل هو قتال آخر ؛ لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإِسلام وإذلال الكفر فكيف يكون هذا من الكبائر ؟ إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإِسلام وتقوية الكفر ؛ فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة ، ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة . فسبحان من له تحت كل كلمة من كلمات هذا الكتاب - بل تحت كل حرف منه - سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولو الألباب " .
ثم أخذ القرآن يعدد على المشركين جرائمهم التي كل جريمة منها أكبر من القتال في الشهر الحرام الذي فعله المؤمنون لدفع الضرر عن أنفسهم أو لجلهلهم بالميقات فقال - تعالى - : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله } .
أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين نحن نوافقكم على أن القتال في الشهر الحرام كبير ، ثم قل لهم أيضاً على سبيل التوبيخ إن ما فعلتموه أنتم من صرفكم المسلمين عن طاعة الله وعن الوصول إلى حرمه ، ومن شرككم بالله في بيته ، ومن إخراجكم لأهله منه أعظم وزرا عند الله من القتال في الشهر الحرام .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة إدخال الطمأنينة على قلوب المؤمنين بسبب ما وقع من عبد الله بن جحش ومن معه ، وتبكيت المشركين على إجرائمهم التي أولها يتمثل في قوله تعالى - : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } أي : منع من يريد الإِسلام من دخوله ، وابتدأ - سبحانه - ببيان صدهم عن سبيله للإِشارة إلى أنهم يعاندون الحق في ذاته .
وثانيها قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ } أي : كفر بالله - تعالى - وهو معطوف على ما قبله .
وثالثها قوله : { والمسجد الحرام } وهو معطوف على سبيل الله أي : وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام بمنعهم المؤمنين من الحج والاعتمار .
ورابعها قوله : { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ } أي : وإخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من مستقرهم حول المسجد الحرام بمكة وهم القائمون بحقوقه ، كل ذلك " أكبر " جرما ، وأعظم إثما { عِندَ الله } من القتال في الشهر الحرام .
قال الجمل : فقوله " أكبر " خبر عن الثلاثة أعنى : صد وكفر وإخراج وفيه حينئذ احتمالان :
أحدهما : أن يكون خبراً عن المجموع .
وثانيهما : أن يكون خبرا عنهما باعتبار كل واحد كما تقول : زيد وبكر وعمرو أفضل من خالد أي : كل واحد منهم على انفراده أفضل من خالد ، وهذا هو الظاهر . والمفضل عليه محذوف أي : أكبر مما فعلته السرية " .
ثم أضاف - سبحانه - إلى جرائهم السابقة جريمة خامسة فقال : { والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } أي : ما فعله المشركون من إنزال الشدائد بالمؤمنين تارة بإلقاء الشبهات وتارة بالتعذيب ليحملوهم على ترك عقيدتهم أكبر إثما من القتال في الشهر الحرام ، لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة .
وقيل المراد بالفتنة هنا الكفر . أي : كفركم بالله أكبر من القتل في الشهر الحرام .
وأصيل الفتنة : عرض الذهب على النار ، لاستخلاصه من الغش ، ثم استعملت في الشرك وفي الامتحان بأنواع الأذى والاضطهاد .
ويعزى إلى عبد الله بن جحش أنه قال ردا على المشركين عندما قالوا : استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام .
تعدون قتلا في الحرام عظيمة . . . وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد . . . وكفر به ، والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله . . . لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن عيَّر تُمونا بقتله . . . وأرجف بالإِسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا . . . بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دماً ، وابن عبد الله عثمان بيننا . . . ينازعه غل من القد عاند
وقوله - تعالى - : { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } بيان لشدة عداوة الكفار للمؤمنين ودوامها .
أي : ولا يزال المشركون يقاتلونكم أيها المؤمنون ويضمرون لكم السوء ويداومون على إيذائكم لكي يرجعوكم عن دين الإِسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وقدروا عليه . والتعبي بقوله { وَلاَ يَزَالُونَ } المفيد للدوام والاستمرار للإِشعار بأن عداوة المشركين للمسلمين لا تنقطع وأنهم لن يكفوا عن الإِعداد لقتالهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، فعلى المؤمنين ألا يغفلوا عن الدفاع عن أنفسهم .
و { حتى } للتعليل أي : { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ } لكي { يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } أو بمعنى إلى ، أي : إلى أن يردوكم عن دينكم . والرد : الصرف عن الشيء والإِرجاع إلى ما كان عليه قبل ذلك : فغاية المشركين أن يردوا المسلمين بعد إيمانهم كافرين .
وقوله : { إِن اسْتَطَاعُواْ } يدل - كما يقول الزمخشري - على استبعاد استطاعتهم رد المسلمين عن دينهم ، وذلك كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي فلا تبق على .
وهو واثق من أنه لن يظفر به . ويشهد لذلك التعبير بإن المفيدة للشك .
وفائدة التقييد بالشرط " إن " التنبيه على سخافة عقول المشركين ، وكون دوام عداوتهم للمؤمنين لن تؤدي إلى النتيجة التي يتمنونها وهي رد السملمين عن دينهم ، لأن لهذا الدين ربا يحميه ، وأتباعه يفضلون الموت على الرجوع عنه .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة من يرتد عن الإِسلام فقال : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
ويرتدد يفتعل من الرد وهو الرجوع عن دينه إلى الكفر .
و { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : بطلت وفسدت وأصله من الحبط ، بفتح الباء - وهو أن تأكل الدابة أكلا كثيراً تنتفخ معه بطونها فلا تنتفع بما أكلت ويفسد حالها وربما تموت من ذلك . شبه - سبحانه - حال من يعمل الأعمال الصالحة ثم يفسدها بارتداده فتكون وبالا عليه ، بحال الدابة التي أكلت حتى أصابها الحبط ففسد حالها .
والمعنى : ومن يرتدد منكم عن دين الإِسلام ، فيمت وهو كافر دون أن يعود إلى الإِيمان فأولئك الذين ارتدوا وماتوا على الكفر بطلبت جميع أعمالهم الصالحة ، وصارت غير نافعة لهم لا في الدنيا بسبب انسلاخهم عن جماعة المسلمين ، ولا في الآخرة بسبب ردتهم وموتهم على الكفر ، وأولئك الذين هذا شأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون خلوداً أبدياً كسائر الكفرة ، ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئاً .
وجيء بصيغة الافتعال من الردة وهي مؤذنة بالتكلف ، للإِشارة إلى أن من باشر الدين الحق وخالطت بشاشته قلبه كان من المستبعد عليه أن يرجع عنه ، فهذا المرتد لم يكن مستقراً على هذا الدين الحق وإنما قلقاً مضطرباً غير مستقر حتى انتهى به الأمر بموته على الكفر لتكلفه الدخول في الدين الحق دون الثبات عليه .
وفي قوله : { مِنْكُمْ } إشعار بأنه لا يتصور أن تتحقق بغية المشركين وهي أن يردوا المسلمين جميعاً عن دينهم . بل أقصى ما يتصوره العقلاء أن ينالوا ضعيف الإِيمان فيردوه إلى دينهم ، فيكون الله - تعالى - قد نفى خبثه عن هذا الدين ، إذ لا خير في هؤلاء المشركين ولا فيمن عاد إليهم بعد إيمانه ، والكل مأواهم النار وبئس القرار .
قال الجمل : ومن شرطية في محل رفع بالابتداء ، يرتدد فعل الشرط ، ومنكم متعلق بمحذوف لأنه حال من الضمير المستكن في يرتدد ؛ ومن للتبعيض . والتقدير : ومن يرتدد في حال كونه كائناً منكم أي بعضكم ، وعن دينه متعلق بيرتدد ، وقوله فيمت وهو كافر عطف على الشرط والفاء مؤذنة بالتعقيب ، وقوله : { وَهُوَ كَافِرٌ } جملة حالية من ضمير بمت . وقوله : فأولئك جواب اشرط .
وقوله : وأولئك أصحاب النار مستأنف لمجرد الإِخبار بأنهم أصحاب النار أو معطوف على جواب الشرط . . " .
وفي الإِتيان باسم الإِشارة " أولئك " في الموضعين تنبيه إلى أنهم أحرياء بتلك العقوبات الأليمة بسبب ردتهم وموتهم على الكفر .
وفي التنصيص على حبوط أعمالهم في الدنيا والآخرة زيادة مذمة لهم ، فهم في الدنيا - بسبب ردتهم - تسلب عنهم آثار كلمة الشهادتين من حرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليهم بعد الموت ، والدفن في مقابر المسلمين ، ومن طلاق زوجته المسلمة منه ومن عدم التوارث إلى غير ذلك من حقوق المسلمين ، أما في الآخرة فشأنهم شأن الكافرين في ملازمتهم للنار . هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة :
1 - حرمة القتال في الشهر الحرام ، والجمهور على أن هذا الحكم منسوخ ، وأنه لا حرج في قتال المشركين في الأشهر الحرم لقوله - تعالى - : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } فإن المراد بالأشهر الحرم هنا : هي أشهر العهد الأربعة التي أبيح للمشركين السياحة فيها في الأرض ، لا الأشهر الحرم الأربعة المعروفة ، فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأزمنة والأمكنة . وأيضاً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غزا هوازن وثقيف وأرسل بعض أصحابه إلى أوطاس ليحارب من فيها من المشركين ، وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم ، ولو كان القتال فيهن حراما لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الآلوسي : وخالف عطاء في ذلك ، فقد روى عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله - تعالى -ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكما مستمراً إلى يوم القيامة ، والأمة اليوم على خلافه في سائر الأمصار " .
وقد رجح بعض العلماء ما ذهب إليه عطاء فقال : ومهما يكن فإن القتال في الأشهر الحرم حرام في حال الاختيار والابتداء فلا يصح البدء بالغزو فيه . ولقد قال جابر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يُغزَى أو يغزو حتى إذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ .
ولقد قال بعض العلماء : إن تحريم القتال في الشهر الحرام منسوخ بقوله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } وبقتال النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فيه . والحقيقة أنه لم يثبت ناسخ صريح في النسخ فإن قوله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } العموم فيه بالنسبة للمقاتلين لا بالنسبة لزمان القتال ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبتدئ قتالا في الشهر الحرام مختاراً قط ، والتحريم في الاختيار والابتداء كما بينا لا في البقاء والاضطرار ، لذا قال - سبحانه - :
{ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } ولأن الأشهر الحرم نص عليها في خطبة الوداع وكل ما جاء فيها غير منسوخ " .
2 - كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من الآية أن الردة تحبط العمل في الدنيا سواء أمات المرتد على كفره أم عاد إلى الإِسلام قبل موته بدليل قوله - تعالى - في آية أخرى { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } فقد علق الحبوط بمجرد الشرك ، والخطاب وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم فالمراد أمته لاستحالة الشرك عليه . وعلى هذا الرأي سار المالكية والأحناف .
ويرى الشافعية أن الردة تحبط العمل في الدنيا متى مات المرتد كافراً ، لأن الآية تقول : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } ويظهر أثر الخلاف فيمن حج مسلما ، ثم أرتد ثم أسلم ، فالأحناف والمالكية يوجبون عليه إعادة الحج لأن الردة أحبطت حجه . والشافعية يقولون : لا حج عليه لأن حجه قد سبق والردة لا تحبط العمل إلا إذا مات الشخص كافراً .