الصدّ : ناحية الشعب والوادي المانع السالك ، وصدّه عن كذا كأنما جعل بينه وبين ما يريده صدّاً يمنعه . انتهى .
ويقال : صدّ يصدّ صدوداً : أعرض ، وكان قياسه للزومه : يصدّ بالكسر ، وقد سمع فيه ، وصدّه يصده صدّاً منعه ، وتصدّى للشيء تعرض له ، وأصله تصدّد ، نحو : تظنى بمعنى تظنن ، فوزنه تفعل ، ويجوز أن تكون تفعلى نحو : يعلني ، فتكون الألف واللام للإلحاق ، وتكون من مضاعف اللام .
زال : من أخوات كان ، وهي التي مضارعها : يزال ، وهي من ذوات الياء ، ووزنها فعل بكسر العين ، ويدل على أن عينها ياء ما حكاه الكسائي في مضارعها ، وهو : يزيل ، ولا تستعمل إلاَّ منفية بحرف نفي ، أو بليس ، أو بغير أو : لا ، لنهي أو دعاء .
الحبوط : أصله الفساد ، وحبوط العمل بطله ، وحبط بطنه انتفخ ، والحبطات قبيلة من بني تميم ، والحبنطي : المنتفخ البطن .
{ يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه } ؟ طوّل المفسرون في ذكر سبب نزول هذه الآية في عدّة أوراق ، وملخصها وأشهرها : أنها نزلت في قصة عبد الله بن جحش الأسدي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمانية معه : سعد بن أبي وقاص ، وعكاشة بن محيصن ، وعقبة بن غزوان ، وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، ووافد بن عبد الله ، وخال بن بكير ، وأميرهم عبد الله يترصدون عير قريش ببطن نخلة ، فوصلوها ، ومرت العير فيها عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، ونوفل بن عبد الله ، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى على ظنهم ، وهو أوّل يوم من رجب ، فرمى وافد عمراً بسهم فقتله ، وكان أول قتيل من المشركين ، وأسروا الحكم ، وعثمان ، وكانا أوّل أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل ، وقدموا بالعير المدينة ، فقالت قريش : استحل محمد الشهر الحرام ، وأكثر الناس في ذلك ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم العير ، وقال أصحاب السرية : ما نبرح حتى تنزل توبتنا ، فنزلت الآية ، فخمَّس العيرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فكان أوّل خمس في الإسلام .
، فوجهت قريش في فداء الأسيرين فقيل : حتى يقدم سعد وعتبة ، وكانا قد أضلا بعيراً لهما قبل لقاء العير فخرجا في طلبه ، فقدما ، وفودي الأسيران .
فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة وقتل شهيداً ببئر معونة ، وأما عثمان فمات بمكة كافراً ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين ، فوقع بالخندق مع فرسه ، فتحطما وقتلهما الله .
وفي هذه القصة اختلاف في مواضع ، وقد لخصّ السخاوندي هذا السبب فقال : نزلت في أول سرية الإسلام أميرهم عبد الله بن جحش ، أغاروا على عير لقريش قافلة من الطائف وقتلوا عمرو بن الحضرمي آخر يوم من جمادى الآخرة ، فاشتبه بأول رجب ، فعيرهم أهل مكة باستحلاله .
وقيل : نزلت حين عاب المشركون القتال في شهر حرام عام الفتح ، وقيل : نزلت في قتل عمرو بن أمية الضمري رجلين من كلاب كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمرو يعلم بذلك ، وكان في أول يوم من رجب ، فقالت قريش : قتلهما في الشهر الحرام ، فنزلت .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما فرض القتال لم يخصّ بزمان دون زمان ، وكان من العوائد السابقة أن الشهر الحرام لا يستباح فيه القتال ، فبين حكم القتال في الشهر الحرام .
وسيأتي معنى قوله { قل قتال فيه كبير } كما جاء : { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } وجاء بعده : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام }
ذلك التخصيص في المكان ، وهذا في الزمان .
وضمير الفاعل في يسألونك ، قيل : يعود على المشركين ، سألوا تعييباً لهتك حرمة الشهداء ، وقصداً للفتك ، وقيل : يعود على المؤمنين ، سألوا استعظاماً لما صدر من ابن جحش واستيضاحاً للحكم .
والشهر الحرام ، هنا هو رجب بلا خلاف ، هكذا قالوا ، وذلك على أن تكون الألف واللام فيه للعهد ، ويحتمل أن تكون للجنس ، فيراد به الأشهر الحرام وهي : ذو القعدة ، ذو الحجة ، والمحرم ورجب .
وسميت حرماً لتحريم القتال فيها ، وتقدّم شيء من هذا في قوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } وقرأ الجمهور : قتال فيه ، بالكسر وهو بدل من الشهر ، بدل اشتمال .
وقال الكسائي : هو مخفوض على التكرير ، وهو معنى قول الفراء ، لأنه قال : مخفوض بعن مضمرة ، ولا يجعل هذا خلافاً كما يجعله بعضهم ، لإن قول البصريين إن البدل على نية تكرار العامل هو قول الكسائي ، والفراء .
لا فرق بين هذه الأقوال ، هي كلها ترجع لمعنى واحد .
وقال أبو عبيدة : قتال فيه ، خفض على الجوار ، قال ابن عطية : هذا خطأ . انتهى .
فإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار الذي اصطلح عليه النحاة ، فهو كما قال ابن عطية : وجه الخطاً فيه هو أن يكون تابعاً لما قبله في رفع أو نصب من حيث اللفظ والمعنى ، فيعدل به عن ذلك الإعراب إلى إعراب الخفض لمجاورته لمخفوض لا يكون له تابعاً من حيث المعنى ، وهنا لم يتقدّم لا مرفوع ، ولا منصوب ، فيكون : قتال ، تابعاً له ، فيعدل به عن إعرابه إلى الخفض على الجوار ، وإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار أنه تابع لمخفوض ، فخفضه بكونه جاور مخفوضاً أي : صار تابعاً له ، ولا نعني به المصطلح عليه ، جاز ذلك ولم يكن خطأ ، وكان موافقاً لقول الجمهور ، إلاَّ أنه أغمض في العبارة ، وألبس في المصطلح .
وقرأ ابن عباس ، والربيع ، والأعمش : عن قتال فيه ، بإظهار : عن ، وهكذا هو في مصحف عبد الله .
وقرئ شاذاً : قتال فيه ، بالرفع ، وقرأ عكرمة : قتل فيه قل قتل فيه ، بغير ألف فيهما .
ووجه الرفع في قراءة : قتال فيه ، أنه على تقدير الهمزة فهو مبتدأ ، وسوغ جواز الابتداء فيه ، وهو نكرة ، لنية همزة الاستفهام ، وهذه الجملة المستفهم عنها هي في موضع البدل من : الشهر الحرام ، لأن : سأل ، قد أخذ مفعوليه ، فلا يكون في موضع المفعول ، وإن كانت هي محط السؤال ، وزعم بعضهم أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل تقديره : أجائز قتال فيه ؟ قيل : ونظير هذا ، لأن السائلين لم يسألوا عن كينونة القتال في الشهر الحرام ، إنما سألوا : أيجوز القتال في الشهر الحرام ؟ فهم سألوا عن مشروعيته لا عن كينونته فيه .
{ قل قتال فيه كبير } هذه الجملة مبتدأ وخبر ، و : قتال ، نكرة ، وسوغ الابتداء بها كونها وصفت بالجار والمجرور ، وهكذا قالوا ، ويجوز أن يكون : فيه ، معمولاً لقتال ، فلا يكون في موضع الصفة ، وتقييد النكرة بالمعمول مسوغ أيضاً لجواز الابتداء بالنكرة ، وحدّ الاسم إذا تقدّم نكرة ، وكان إياها ، أن يعود معرفاً بالألف واللام ، تقول : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، كما قال تعالى :
{ كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } قيل : وإنما لم يعد بالألف واللام هنا لأنه ليس المراد تعظيم القتال المذكور المسئول عنه .
حتى يعاد بالألف واللام ، بل المراد تعظيم : أي قتال كان في الشهر الحرام ، فعلى هذا : قتال الثاني ، غير الأوّل انتهى .
وليست الألف واللام تفيد التعظيم في الاسم ، إذ كانت النكرة السابقة ، بل هي فيه للعهد السابق ، وقيل : في ( المنتخب ) : إنما نكر فيهما لأن النكرة الثانية هي غير الأولى ، وذلك أنهم أرادوا بالأول الذي سألوا عنه ، فقال عبد الله بن جحش ، وكان لنصرة الإسلام وإذلال الكفر ، فلا يكون هذا من الكبائر ، بل الذي يكون كبيراً هو قتال غير هذا ، وهو ما كان الفرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر ، فاختير التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة ، ولو وقع التعبير عنهما ، أو عن أحدهما ، بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة . انتهى .
واتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ، إذ المعنى : قل قتال فيه لهم كبير ، فقال ابن عباس ، وقتادة ، وابن المسيب ، والضحاك ، والأوزاعي : إنها منسوخة بآية السيف : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } إذ يلزم من عموم المكان عموم الزمان .
وقيل : هي منسوخة بقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } وإلى هذا ذهب الزهري ، ومجاهد ، وغيرهما .
وقيل : نسخهما غزو النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفاً في الشهر الحرام ، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام .
وقيل : نسخها بيعة الرضوان والقتال في ذي القعدة ، وضعف هذا القول بأن تلك البيعة كانت على الدفع لا على الابتداء بالقتال .
وقال عطاء لم تنسخ ، وحلف بالله ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ، ولا في الشهر الحرام إلاّ أن يقاتلوا فيه ، وروي هذا القول عن مجاهد أيضاً ؟ وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو في الأشهر الحرم إلاَّ أن يغزى ، وذلك قوله : قل قتال فيه كبير .
ورجح كونها محكمة بهذا الحديث ، وبما رواه ابن وهب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى ابن الحضرمي ، ورد الغنيمة والاسيرين ، وبأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة وهذا خاص ، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق .
{ وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام واخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل } هذة جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على قوله تعالى : فيه كبير ، وكلا الجملتين مقولة ، أي : قل لهم قتال في الشهر الحرام إثم كبير ، وقل لهم : صدّ عن كذا إلى آخره ، أكبر من القتال ، ويحتمل أن يكون مقطوعاً من القول ، بل إخبار مجرد عن أن الصدّ عن سبيل الله ، وكذا وكذا ، أكبر ، والمعنى : أنكم يا كفار قريش تستعظمون منا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم : من الصدّ عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ، ومن كفركم بالله ، واخراجكم أهل المسجد منه كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، أكبر جرماً عند الله مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام ، على سبيل البناء على الظن .
وتقدّم لنا أن هذه الجملة من مبتدأ وخبر ، فالمبتدأ : صدّ ، وهو نكرة مقيدة بالجار والمجرور ، فساغ الابتداء ، وهو مصدر محذوف فاعله ومفعوله للعلم بهما ، أي : وصدّكم المسلمين عن سبيل الله .
قاله مقاتل ، أو : الحج ، لأنهم صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة قاله ابن عباس ، والسدّي عن أشياخه ، أو : الهجرة ، صدّوا المسلمين عنها .
و : كفر به ، معطوف على : وصدّ ، وهو أيضاً مصدر لازم حذف فاعله ، تقديره : وكفركم به ، والضمير في : به ، يعود على السبيل لأنه هو المحدّث عنه بأنه صدّ عنه ، والمعنى : وكفر بسبيل الله ، وهو دين الله وشريعته ، وقيل : يعود الضمير في : به ، على الله تعالى ، قاله الحوفي .
والمسجد الحرام : هو الكعبة ، وقرئ شاذاً والمسجدُ الحرام بالرفع ، ووجهه أنه عطفه على قوله : وكفر به ، ويكون على حذف مضاف ، أي : وكفر بالمسجد الحرام ، ثم حذف الباء وأضاف الكفر إلى المسجد ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، فيؤول إلى معنى قراءة الجمهور من خفض المسجد الحرام على أحسن التأويلات التي نذكرها ، فنقول : اختلفوا فيما عطف عليه والمسجد ، فقال ابن عطية ، والزمخشري ، وتبعا في ذلك المبرد : هو معطوف على : سبيل الله ، قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح ، ورد هذا القول بأنه إذا كان معطوفاً على : سبيل الله ، كان متعلقاً بقوله : وصدّ إذ التقدير : وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، فهو من تمام عمل المصدر ، وقد فصل بينهما بقوله : وكفر به ، ولا يجوز أن يفصل بين الصلة والموصول ، وقيل : معطوف على الشهر الحرام ، وضعف هذا بأن القوم لم يسألوا عن الشهر الحرام ، إذ لم يشكوا في تعظيمه ، وإنما سألوا عن القتال في الشهر الحرام ، لأنه وقع منهم ولم يشعروا بدخوله ، فخافوا من الإثم .
وكان المشركون عيروهم بذلك ، انتهى ، ما ضعف به هذا القول ، وعلى هذا التخريج يكون السؤال عن شيئين : أحدهما : عن قتال في الشهر الحرام ، والآخر : عن المسجد الحرام والمعطوف على الشهر الحرام ، والشهر الحرام لم يسأل عنه لذاته ، إنما سئل عن القتال فيه ، فكذلك المعطوف عليه يكون السؤال عن القتال فيه ، فيصير المعنى : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام ، وفي المسجد الحرام ، فأجيبوا : بأن القتال في الشهر الحرام كبير ، وصد عن سبيل الله ، وكفر به ، ويكون : وصد عن سبيل الله ، على هذا ، معطوفاً على قوله : كبير ، أي : القتال في الشهر الحرام أخبر عنه بأنه إثم كبير ، وبأنه صد عن سبيل الله وكفر به .
ويحتمل أن يكون : وصد ، مبتدأ وخبره محذوف لدلالة خبر : قتال ، عليه ، التقدير : وصد عن سبيل الله وكفر به كبير ، كما تقول : زيد قائم وعمرو ، أي : وعمرو قائم ، وأجيبوا بأن : القتال في المسجد الحرام إخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال فيه ، وكونه معطوفاً على الشهر الحرام متكلف جداً ، ويبعد عنه نظم القرآن ، والتركيب الفصيح ، ويتعلق كما قيل بفعل محذوف دل عليه المصدر ، تقديره : ويصدون عن المسجد الحرام ، كما قال تعالى : { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } قال بعضهم : وهذا هو الجيد ، يعني من التخاريج التي يخرج عليه ، والمسجد الحرام وما ذهب إليه غير جيد ، لأن فيه الجر بإضمار حرف الجر ، وهو لا يجوز في مثل هذا إلاَّ في الضرورة ، نحو قوله :
أي : إلى كليب ، وقيل : هو معطوف على الضمير في قوله : وكفر به ، أي : وبالمسجد الحرام ، قاله الفراء ، ورد بأن هذا لا يجوز إلاَّ بإعادة الجار ، وذلك على مذهب البصريين .
ونقول : العطف المضمر المجرور فيه مذاهب :
أحدها : أنه لا يجوز إلاَّ بإعادة الجار إلاَّ في الضرورة ، فإنه يجوز بغير إعادة الجار فيها ، وهذا مذهب جمهور البصريين .
الثاني : أنه يجوز ذلك في الكلام ، وهو مذهب الكوفيين ، ويونس ، وأبي الحسن ، والأستاذ أبي علي الشلوبين .
الثالث : أنه يجوز ذلك في الكلام إن أكد الضمير ، وإلاَّ لم يجز في الكلام ، نحو : مررت بك نفسك وزيد ، وهذا مذهب الجرمي .
والذي نختاره أن يجوز ذلك في الكلام مطلقاً ، لأن السماع يعضده ، والقياس يقويه .
أما السماع فما روي من قول العرب : ما فيها غيره وفرسه ، بجر الفرس عطفاً على الضمير في غيره ، والتقدير : ما فيها غيره وغير فرسه ، والقراءة الثانية في السبعة : { تساءلون به والأرحام } أي : وبالأرحام وتأويلها على غير العطف على الضمير ، مما يخرج الكلام عن الفصاحة ، فلا يلتفت إلى التأويل .
قرأها كذلك ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والنخعي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وأبو رزين ، وحمزة .
ومن ادعى اللحن فيها أو الغلط على حمزة فقد كذب ، وقد ورد من ذلك في أشعار العرب كثير يخرج عن أن يجعل ذلك ضرورة ، فمنه قول الشاعر :
بنا أبداً لا غيرنا يدرك المنى***
إذا أوقدوا ناراً لحرب عدوهم***
إذا بنا ، بل أنيسان ، اتَّقت فئة***
فاليوم قد بت تهجونا وتشمتنا***
فأنت ترى هذا السماع وكثرته ، وتصرّف العرب في حرف العطف ، فتارة عطفت بالواو ، وتارة بأو ، وتارة ببل ، وتارة بأم ، وتارة بلا ، وكل هذا التصرف يدل على الجواز ، وإن كان الأكثر أن يعاد الجار كقوله ، تعالى : { وعليها وعلى الفلك تحملون } { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً } { قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب } وقد خرج على العطف بغير إعادة الجار قوله : { ومن لستم له برازقين } عطفاً على قوله : { لكم فيها معايش } أي : ولمن .
وقوله : { وما يتلى عليكم } عطفاً على الضمير في قوله : فيهنّ ، أي : وفيما يتلى عليكم .
وأما القياس فهو أنه كما يجوز أن يبدل منه ويؤكد من غير إعادة جار ، كذلك يجوز أن يعطف عليه من غير إعادة جار ، ومن احتج للمنع بأن الضمير كالتنوين ، فكان ينبغي أن لا يجوز العطف عليه إلاَّ مع الإعادة لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه ، وإذا تقرّر أن العطف بغير إعادة الجار ثابت من كلام العرب في نثرها ونظمها ، كأن يخرج عطف : والمسجد الحرام ، على الضمير في : به ، أرجح ، بل هو متعين ، لأن وصف الكلام ، وفصاحة التركيب تقتضي ذلك .
وإخراج أهله ، معطوف على المصدر قبله ، وهو مصدر مضاف للمفعول ، التقدير : وإخراجكم أهله ، والضمير في : أهله ، عائد على : المسجد الحرام ، وجعل ، المؤمنين أهله لأنهم القائمون بحقوقه ، أو لأنهم يصيرون أهله في العاقبة ، ولم يجعل المقيمين من الكفار بمكة أهله لأن بقاءهم عارض يزول ، كما قال تعالى : { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاَّ المتقون } و : منه ، متعلق بإخراج ، والضمير في : منه ، عائد على المسجد الحرام ، وقيل : عائد على : سبيل الله ، وهو الإسلام ، والأول أظهر .
و : أكبر ، خبر عن المبتدأ الذي هو : وصد ، وما عطف عليه ، ويحتمل أن يكون خبراً عن المجموع ، ويحتمل أن يكون خبراً عنها باعتبار كل واحد واحد ، كما تقول : زيد وعمرو وبكر أفضل من خالد ، نزيد : كل واحد منهم أفضل من خالد ، وهذا هو الظاهر لا المجموع ، وإفراد الخبر لأنه أفعل تفضيل مستعمل : بمن ، الداخلة على المفضول في التقدير ، وتقديره : أكبر من القتال في الشهر الحرام ، فحذف للعلم به .
و : كفر ، معطوف عليه ، وخبرهما محذوف لدلالة خبر : وإخراج ، عليه .
والتقدير : وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام أكبر ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير لأنا قد بينا كون : أكبر ، خبراً عن الثلاثة .
وعند الله ، منصوب بأكبر ، ولا يراد : بعند ، المكان بل ذلك مجاز .
وذكر ابن عطية ، والسجاوندي عن الفراء أنه قال : وصد عطف على كبير ، قال ابن عطية : وذلك خطأ ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله : وكفر به ، عطف أيضاً على كبير ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بيِّن فساده .
انتهى كلام ابن عطية ، وليس كما ذكر ، ولا يتعين ما قاله من أن : وكفر به ، عطف على كبير ، إذ يحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله : وصد عن سبيل الله ، ويكون قد أخبر عن القتال في الشهر الحرام بخبرين .
أحدهما : أنه كبير ، والثاني : أنه صد عن سبيل الله ، ثم ابتدأ فقال : والكفر بالله ، وبالمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال الذي هو كبير ، وهو صد عن سبيل الله .
وهذا معنى سائغ حسن ، ولا شك أن الكفر بالله وما عطف عليه أكبر من القتال المذكور .
وقوله : ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بين فساده ، ليس بكلام مخلص ، لأنه لا يجيء منه ما ذكر إلاَّ بتكلف بعيد ، بل يجيء منه أن إخراج أهل المسجد منه أكبر عند الله من القتال المخبر عنه بأنه كبير ، وبأنه صد عن سبيل الله ، فالمحكوم عليه بالأكبرية هو الإخراج ، والمفضول فيها هو القتال لا الكفر والفتنة ، أي : الكفر والشرك ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة وغيرهم .
أو التعذيب الحاصل للمؤمنين ليرجعوا عن الإسلام ، فهي أكبر حرماً من القتل ، والمعنى عند جمهور المفسرين أن الفتنة التي كانت تفتن المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا ، أشد اجتراماً من قتلهم إياكم في المسجد الحرام ، وقيل : المعنى : والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون ، أي فعلكم بكل إنسان ، أشد من فعلنا ، لأن الفتنة ألم متجدد ، والقتل ألم منقض .
ومن فسر الفتنة بالكفر كان المعنى عنده : وكفركم أشد من قتلنا أولئك ، وصرح هنا بالمفضول ، وهو قوله : من القتل ، ولم يحذف .
لأنه لا دليل على حذفه ، بخلاف قوله : أكبر عند الله ، فإنه تقدم ذكر المفضول عليه ، وهو : القتال ، وقال عبد الله بن جحش في هذه القصة شعراً :
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا***
دماً ، وابن عبد الله عثمان بيننا***
{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا } الضمير في : يزالون ، للكفار ، وهذا يدل على أن الضمير المرفوع في قوله : يسألونك ، هو الكفار ، والضمير المنصوب في : يقاتلونكم ، خوطب به المؤمنون ، وانتقل عن خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خطاب المؤمنين ، وهذا إخبار من الله للمؤمنين بفرط عداوة الكفار ، ومباينتهم لهم ، ودوام تلك العداوة ، وأن قتالهم إياكم معلق بإمكان ذلك منهم لكم ، وقدرتهم على ذلك .
و : حتى يردوكم ، يحتمل الغاية ، ويحتمل التعليل ، وعليهما حملها أبو البقاء وهي متعلقة في الوجهين : بيقاتلونكم ، وقال ابن عطية : ويردوكم ، نصب بحتى لأنها غاية مجردة ، وقال الزمخشري : وحتى ، معناها التعليل ، كقولك : فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة ، أي : يقاتلونكم كي يردوكم . انتهى .
وتخريج الزمخشري أمكن من حيث المعنى ، إذ يكون الفعل الصادر منهم المنافي للمؤمنين ، وهو : المقاتلة ، ذكر لها علة توجيهاً ، فالزمان مستغرق للفعل ما دامت علة الفعل ، وذلك بخلاف الغاية ، فإنها تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه ، فزمان وجوده مقيد بغايته ، وزمان وجود الفعل المعلل مقيد بوجود علة ، وفرق في القوة بين المقيد بالغاية والمقيد بالعلة لما في التقييد بالعلة من ذكر الحامل وعدم ذلك في التقييد بالغاية .
و : عن دينكم ، متعلق : بيردوكم ، والدين هنا الإسلام ، و : إن استطاعوا ، شرط جوابه محذوف يدل عليه ما قبله ، التقدير : إن استطاعوا فلا يزالون يقاتلونكم ، ومن جوّز تقديم جواب الشرط ، قال : ولا يزالون ، هو الجواب .
وقال الزمخشري : إن استطاعوا ، استبعاد لاستطاعتهم ، كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي قلا تبقِ عليّ ، وهو واثق بأنه لا يظفر به .
{ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } ارتد : افتعل من الرد ، وهو الرجوع ، كما قال تعالى : { فارتدا على آثارهما قصصاً } وقد عدّها بعضهم فيما يتعدّى إلى اثنين ، إذا كانت عنده ، بمعنى : صير وجعل ، من ذلك قوله : { فارتد بصيراً } أي : صار بصيراً ، ولم يختلف هنا في فك المثلين ، والفك هو لغة الحجاز ، وجاء افتعل هنا بمعنى التعمل والتكسب .
لأنه متكلف ، إذ من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه ، فلذلك جاء افتعل هنا ، وهذا المعنى ، وهو التعمل والتكسب ، هو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل .
و : منكم ، في موضع الحال من الضمير المستكن في : يرتدد ، العائد على : من ، و : من ، للتبعيض ، و : عن دينه ، متعلق بيرتدد ، والدين : هنا هو الإسلام ، لأن الخطاب مع المسلمين ، والمرتد إليه هو دين الكفر ، بدليل أن ضد الحق الباطل ، وبقوله : { فيمت وهو كافر } وهذان شرطان أحدهما معطوف على الآخر بالفاء المشعرة بتعقيب الموت على الكفر بعد الردة واتصاله بها ، ورتب عليه حبوط العمل في الدنيا والآخرة .
وهو حبطه في الدنيا باستحقاق قبله ، وإلحاقه في الأحكام بالكفار ، وفي الآخرة بما يؤول إليه من العقاب السرمدي ، وقيل : حبوط أعمالهم في الدنيا هو عدم بلوغهم ما يريدون بالمسلمين من الإضرار بهم ومكايدتهم ، فلا يحصلون من ذلك على شيء ، لأن الله قد أعزّ دينه بأنصاره .
وظاهر هذا الشرط والجزاء ترتب حبوط العمل على الموافاة على الكفر ، لا على مجرد الارتداد ، وهذا مذهب جماعة من العلماء ، منهم : الشافعي ، وقد جاء ترتب حبوط العمل على مجرد الكفر في قوله : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } { والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم } { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } والخطاب في المعنى لأمته ، وإلى هذا ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، وغيرهما ، يعني : أنه يحبط علمه بنفس الردة دون الموافاة عليها ، وإن راجع الإسلام ، وثمرة الخلاف تظهر في المسلم إذا حج ، ثم ارتد ، ثم أسلم ، فقال مالك : يلزمه الحج ، وقال الشافعي : لا يلزمه الحج .
ويقول الشافعي : اجتمع مطلق ومقيد ، فتقيد المطلق ، ويقول غيره : هما شرطان ترتب عليهما شيئان ، أحد الشرطين : الإرتداد ، ترتب عليه حبوط العمل ، الشرط الثاني : الموافاة على الكفر ، ترتب عليها الخلود في النار .
والجملة من قوله : وهو كافر ، في موضع الحال من الضمير المستكن في : فيمت ، وكأنها حال مؤكدة ، لأنه لو استغنى عنها فهم معناها ، لأن ما قبلها يشعر بالتعقيب للارتداد .
وكون الحال جاء جملة فيها مبالغة في التأكيد ، إذ تكرر الضمير فيها مرتين ، بخلاف المفرد ، فإنه فيه ضمير واحد .
وتعرض المفسرون هنا لحكم المرتد ، ولم تتعرض الآية إلاَّ لحبوط العمل ، وقد ذكرنا الخلاف فيه هل يشترط فيه الموافاة على الكفر أم يحبط بمجرد الردة ؟ وأما حكمه بالنسبة إلى القتل ، فذهب النخعي والثوري : إلى أنه يستتاب محبوساً أبداً ، وذهب طاووس ، وعبيد بن عمير ، والحسن ، على خلاف عنه ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، والشافعي : في أحد قوليه ، إلى أنه يقتل من غير استتابة .
وروي نحو هذا عن أبي موسى ، ومعاذ ، وقال جماعة من أهل العلم : يستتاب ، وهل يستتاب في الوقت ؟ أو في ساعة واحدة ؟ أو شهر ؟ روي هذا عن علي ، أو ثلاثة أيام ؟ وروي عن عمر ، وعثمان ، وهو قول مالك فيما رواه ابن القاسم ، وقول أحمد ، وإسحاق ، والشافعي ، في أحد قوليه ، وأصحاب الرأي : أو مائة مرة ؟ وهو قول الحسن .
وقال عطاء : إن كان ابن مسلمين قتل دون استتابة ، وإن كان أسلم ثم ارتد أستتيب .
وقال الزهري : يدعى إلى الإسلام ، فإن تاب وإلاَّ قتل .
وقال أبو حنيفة : يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم وإلاَّ قتل مكانه إلاَّ أن يطلب أن يؤجل ، فيؤجل ثلاثة أيام .
والمشهور عنه ، وعن أصحابه ، أنه لا يقتل حتى يستتاب .
وقال مالك : تقتل الزنادقة من غير استتابة ، ولو ارتد ثم راجع ثم ارتد ، فحكمه في الردة الثانية أو الثالثة أو الرابعة كالأولى ، وإذا راجع في الرابعة ضرب وخلي سبيله ، وقيل : يحبس حتى يرى أثر التوبة والإِخلاص عليه ، ولو انتقل الكافر من كفر إلى كفر ، فالجمهور على أنه لا يقتل .
وذكر المزني ، والربيع ، عن الشافعي : أن المبدل لدينه من أهل الذّمة يلحقه الإِمام بأرض الحرب ، ويخرجه من بلده ، ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار ، هذا حكم الرجل .
وأما المرأة إذا ارتدّت فقال مالك ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي : تقتل كالرجل سواء ، وقال عطاء ، والحسن ، والثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وابن شبرمة ، وابن عطية لا تقتل .
وأمّا ميراثه ، فأجمعوا على أن أقرباءه من الكفار لا يرثونه إلاَّ ما نقل عن قتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، أنهم يرثونه ، وقد روي عن عمر خلاف هذا ، وقال علي ، والحسن ، والشعبي ، والحكم ، والليث ، وأبو حنيفة في أحد قوليه ، وابن راهويه : يرثه أقرباؤه المسلمون .
وقال مالك ، وربيعة ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وأبو ثور : ميراثه في بيت المال ، وقال ابن شبرمة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والأوزاعي في إحدى الروايتين : ما اكتسبه بعد الردة لورثته المسلمين .
وقال أبو حنيفة ، ما اكتسبه في حالة الإِسلام قبل الردة لورثته المسلمين .
وقرأ الحسن : حبطت بفتح الباء ، وهما لغتان ، وكذا قرأها أبو السماك في جميع القرآن ، وقوله : { فأولئك حبطت أعمالهم } أتى باسم الإشارة وهو يدل على من اتصف بالأوصاف السابقة ، وأتى به مجموعاً حملاً على معنى : من ، لأنه أولاً حمل على اللفظ في قوله : { يرتدد فيمت وهو كافر } وإذا جمعت بين الحملين ، فالأصح أن تبدأ أولاً بالحمل على اللفظ ، ثم بالحمل على المعنى .
وعلى هذا الأفصح جاءت هذه الآية { وفي الدنيا } متعلق بقوله : { حبطت } .
{ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } تقدّم تفسير هذه الجملة ، فأغنى عن إعادته ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون ابتداء إخبار من الله تعالى بخلود هؤلاء في النار ، فلا تكون داخلة في الجزاء وتكون معطوفة على الجملة الشرطية ، ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله : { فأولئك حبطت أعمالهم } فتكون داخلة في الجزاء ، لأن المعطوف على الجزاء جزاء ، وهذا الوجه أولى ، لأن القرب مرجح ، وترجح الأول بأنه يقتضي الاستقلال .