الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } الآية ، قال المفسّرون : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش وهو ابن عمّة النبي صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين على رأس ستة عشر شهراً من مقدمه المدينة ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين : سعد بن أبي وقاص الزهري وعكاشة بن محصن الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكر وكتب بإمرة عبد الله بن جحش كتاباً وقال : سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين ، فإذا نزلت منزلين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ، ثم امضِ لما أمرتك ، ولا تُكرهنّ أحداً من أصحابك على السير معك ، فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فاذا فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصّد بها عير قريش لعلّك أن تأتينا منه بخبر ، فلمّا نظر عبد الله بن جحش قال : سمعاً وطاعة ثم قال ذلك لأصحابه وقال : إنه قد نهاني أن استكره أحداً منكم ، فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فإني ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له : نجوان أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه فاستأذنا أن يتخلّفا في طلب بعيرهما ، فأذن لهما فتخلفا في طلبه ، ومضى عبد الله ببقيتهم حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف ، فبينا هم كذلك إذ مرّ بهم عير لقريش تحمل زبيباً وأديماً وتجارة من تجار الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل ابن عبد الله المخزوميان ، فلمّا رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خافوهم ، فقال عبد الله بن جحش : إنّ القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فإذا رأوه محلوقاً أمِنُوا ، وقالوا : قوم عُمّار ، فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم وقالوا : قوم عُمّار لا بأس عليكم فأمنّوهم .

وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرون أنّه من جمادى وهو من رجب ، فتشاور القوم بينهم وقالوا : لئن تركتموهم هذه الليلة لتدخلنّ الحرم فليمنعنّ منكم فأجمعوا أمركم في مواقعة القوم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، فكان أول قتيل من المشركين واستأسرا الحكم وعثمان فكانا أول أسيرين في الاسلام وأفلت الآخران فأعجزاهم ، واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فقالت قريش : قد استحلّ محمد الشهر الحرام ، شهراً يأمن فيه الخائف وينذعر فيه الناس لمعايشهم ، فسفك فيه الدماء ، وأخذ فيه الحرائر ، وعيّر بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين ، وقالوا : يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه ، وتفاءلت اليهود بذلك وقالوا : واقد : وقدت الحرب وعمروا : عمرت الحرب ، والحضرمي : حضرت الحرب .

وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لابن جحش وأصحابه : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ، ودفعتُ العير والأسيرين فأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً ، فعظم ذلك على أصحاب السريّة وظنّوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا : يا رسول الله إنّا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أمسينا أم في جمادى ، وأكثر الناس في ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فأخذ رسول الله العير فعزل منها الخمس ، فكان أول خمس في الاسلام ، وقسّم الباقي بين أصحاب السريّة ، فكان أول غنيمة في الاسلام ، وبعث أهل مكة في فداء أسيرهم فقال : بل نوقفهم حتى يقدم سعد وعتبة وإن لم يقدما قتلناهما ، فلمّا قدما فداهم " .

وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقُتل يوم بئر معونة شهيداً ، وأمّا عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة ومات فيها كافراً ، وأمّا نوفل فضَرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين ، فوقع في الخندق مع فرسه فتحطّما جميعاً ، وقتله الله وحجب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوه فإنّه خبيث الجيفة خبيث الدية " فهذا سبب نزول قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } يعني توخياً ، سُمّي بذلك لتحريم القتال فيه لعظم حرمته ، وكذلك كان يسمّى في الجاهلية ، تنزع الأسنّة وتفصل الالّ ، لأنهم كانوا ينزعون الأسنّة والنصال عند دخول رجب انطواءً على ترك القتال فيه ، وكان يدعى الأصمّ لأنه لا تسمع فيه قعقعة السلاح فنسب الصمم إليه ، كما قيل : ليل نائم ، وسرٌّ كاتم .

يدلّ عليه ما روى عطاء عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن رجب شهر الله ويدعى الأصمّ ، وكان أهل الجاهلية إذا دخل رجب يعطلون أسلحتهم ويضعونها ، وكان الناس يأمنون ويأمن السبيل فلا يخاف بعضهم بعضاً حتى ينقضي " . { قِتَالٌ فِيهِ } خفضه على تكرير ( عن ) ، تقديره : وهل قتال فيه وكذلك هي في قراءة عبد الله ابن مسعود والربيع بن أنس { قُلْ } يامحمد { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } عظيم ثم [ كلام ] ثم قتال { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } منع عن سبيل الله على الابتداء وخبره أكبر ، وذلك حين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت { وَكُفْرٌ بِهِ } أي بالله { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي وبالمسجد { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي أهل المسجد { مِنْهُ أَكْبَرُ } وأعظم وزراً وعقوبة { عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ } أي الشرك أكبر من القتل ، يعني قتل ابن الحضرمي فلمّا نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش الى مؤمني مكّة : إذا عيّركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيرّوهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة ومنعهم عن البيت .

ثم قال : { وَلاَ يَزَالُونَ } يعني مشركي قريش وهو فعل لا مفعول له مثل عسى { يُقَاتِلُونَكُمْ } يا معشر المؤمنين { حَتَّى يَرُدُّوكُمْ } يصدّوكم ويصرفوكم { عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ } جزم بالنسق ولو كان جواباً لكان ( . . . ) { وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ } بطلت { أَعْمَالُهُمْ } حسناتهم { فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } وأصل الحبط من الحباط ( وهو من الحبط وهو فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الحباط ) وهو أن تنتفخ بطنه فيموت ، ثم سمّي الهلال حبطاً ، وقرأ الحسن حَبطت بفتح الباء في جميع القرآن يحبط بكسر الباء { وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

217