مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام } أي يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام .

{ قِتَالٍ فِيهِ } بدل الاشتمال من «الشهر » . وقرىء «عن قتال فيه » على تكرير العامل كقوله : { للذين استضعفوا لمن آمن منهم } [ الأعراف : 75 ] .

{ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } أي إثم كبير . «قتال » مبتدأ و«كبير » خبره وجاز الابتداء بالنكرة لأنها قد وصفت ب «فيه » وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } أي منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت عام الحديبية وهو مبتدأ { وَكُفْرٌ بِهِ } أي بالله عطف على صد { والمسجد الحرام } «عطف على سبيل الله » أي وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام . وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في به أي كفر به وبالمسجد الحرام ، ولا يجوز عند البصريين العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار فلا تقول : مررت به وزيد ولكن تقول وبزيد ، ولو كان معطوفاً على الهاء هنا لقيل وكفر به وبالمسجد الحرام . { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي أهل المسجد الحرام وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وهو عطف على «صد » أيضاً { مِنْهُ } من المسجد الحرام وخبر الأسماء الثلاثة { أَكْبَرُ عِندَ الله } أي مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن { والفتنة } الإخراج أو الشرك { أَكْبَرُ مِنَ القتل } في الشهر الحرام ، أو تعذيب الكفار المسلمين أشد قبحاً من قتل هؤلاء المسلمين في الشهر الحرام { وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } أي إلى الكفر وهو إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم .

«حتى » معناها التعليل نحو «فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة » أي يقاتلونكم كي يردوكم . وقوله تعالى : { إِنِ اسْتَطَاعُواْ } استبعاد لاستطاعتهم كقولك لعدوك «إن ظفرت بي فلا تبق علي » وأنت واثق بأنه لا يظفر بك { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } ومن يرجع عن دينه إلى دينهم { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } أي يمت على الردة { فأولئك حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والآخرة } لما يفوتهم بالردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام وفي الآخرة من الثواب وحسن المآب { وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } وبها احتج الشافعي رحمه الله على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت عليها . وقلنا : قد علق الحبط بنفس الردة بقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] والأصل عندنا أن المطلق لا يحمل على المقيد ، وعنده يحمل عليه فهو بناء على هذا .