تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

الآية 217 وقوله : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) معناه ، والله أعلم ، ( يسألونك ) عن القتال في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام ( قل قتال فيه كبير ) لو لم يكن من الكفرة ما ذكر من الصد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والكفر به ( وإخراج أهله منه ) لكن إذا فعلوا ذلك لم يكن القتال بجنبيه كبيرا ، بل الكفر فيه أكبر من القتل . فكأنه ، والله أعلم ، ذكر هذه الأحرف ، وعنى بها{[2435]} الكناية عن الكفر ، ثم جعل الكفر أكبر من هذا كله ، مع المعرفة أن الذي يوازيه{[2436]} أقل منه . ثم ألزمهم اختيار الأيسر عند البلوى بما بين . والقتال بنفسه كبير لأن فيه تفاني الخلق ، ولم يخلقوا ثم فيه نقض على المعتزلة بوجهين :

أحدهما : أنه ذكر القتل ، وجعل الكفر أكبر منه ، ولو اوجب القتل التخليد ما أوجب الكفر لكان فيه التساوي ، ولا يكون الكفر أكبر من القتل ، فبان أن الكبيرة لا توجب التخليد ما أوجب الكفر ، والله أعلم .

والثاني : قال : والكفر أكبر منه ؛ فصيره أكبر ، ثم لأكبره في{[2437]} أن يكون بنفسه أو بالكافر أو بالله ، ولا يحتمل أن يكون بالكافر ؛ لأن فعل الكفر أصغر عنده من فعل الزنى والقتل لأنه يدين بالكفر ، ويستحسنه ، ويستقبح ذلك ، فبان أنه يكبر بنفسه أو بالله . فإن قالوا : بنفسه قيل لهم : لما جاز أن يكون كبره بغير من [ ينشئه لم لا ]{[2438]} جاز خلقه بغير من يفعله ، أو يكون بالله ، وهو قولنا ؟

وقوله : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم ) فيه دلالة إثبات رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر أنهم يفعلون كذا ، فكان كما قال ، فدل أنه إنما عرف ذلك بالله عز وجل .

وقوله : ( إن استطاعوا ) ولكن لا يستطيعون أن يردوكم عن دينكم ؛ ففيه إياس الكفرة عن رد هؤلاء إلى دينهم ، وأمن هؤلاء عن الرجوع إلى دينهم . وقيل : ( إن ) بمعنى لو : أي [ لو ]{[2439]} قدروا أن يردوكم عن دينكم إلى دينهم لفعلوا ؛ أخبر عز وجل عما ودوا ( إن استطاعوا ) لكن الله بما أكرمهم ، وبشرهم من النصر وإظهار الدين لا يستطيعون إلى{[2440]} ذلك ؛ أظهر ذلك بقوله : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) الآية{[2441]} [ المائدة : 3 ] .

وقوله : ( ومن يرتدد منكم عن دينه . فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ) ذكر إحباط الأعمال بالموت على الكفر ، والعمل يحبط بالكفر دون الموت . والوجه فيه أنه لا يحتمل أن يكون الموت هو سبب إحباط الأعمال بل الكفر نفسه إذا وجد ؛ إذ الموت لا صنع فيه للعباد ، والكفر فيه لهم اختيار ، لم يجز جعل العمل حبطا بما لا صنع له فيه ؛ دل أن الكفر هو المحبط لا الموت . ولكن ذكر الموت في هذا ، لما فيه تمام الحبط والإبطال . وما لم يمت ترجى له المنفعة بحسابه ، لأنه إذا كفر جحد تلك الحسنات ، فأبطلها . فإذا أسلم بعد ذلك ندم على جعل ذلك باطلا ، فصار مقابلا سيئاته{[2442]} / 34-ب/ بحسنات ، فهو [ حالة إحالة ]{[2443]} الانتفاع به كما قال عز وجل ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) [ الفرقان : 70 ] .

وقوله : ( فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ) ؛ أما في الدنيا فذهاب التعظيم والإجلال والثناء الحسن الذي يستوجب بالخير والدين عند الناس ، فإذا ارتد عن الإسلام حبط ذلك كله ، وصار على أعين الناس أخف من الكلب والخنزير . وأما حبطه في الآخرة فذهاب ثواب أعماله ، وكان ما يستوجب المرء من الثواب ، إنما يستوجب بما يأتي من الأعمال ، ويحضرها{[2444]} عند الله لا بالعمل نفسه ، ألا ترى إلى قوله : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) [ الأنعام : 160 ] وقوله : ( ومن يأته مؤمنا ) [ طه : 75 ] [ فله كذا ]{[2445]} ؟ دل هذا أن الثواب إنما يستوجب بإحضاره وإتيانه عند الله لا بالعمل نفسه ، والله أعلم .


[2435]:- في النسخ الثلاث: به.
[2436]:- في الأصل و م: يواذيه، في ط ع: يؤذيه.
[2437]:- في النسخ الثلاث: من.
[2438]:- من م، في ط ع: ينشئه لما لا، في الأصل: ينشئه لم لا.
[2439]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[2440]:- في م و ط ع: على.
[2441]:- أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[2442]:- في النسخ الثلاث: لسيئته.
[2443]:- في الأصل و م: حالة، في ط ع: حالة الإحالة.
[2444]:- في ط ع: ويحضره.
[2445]:- في ط ع: تتمة الآيتين: 75 و 76.