محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

{ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل اللّه وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون 217 } .

/ { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } قال الراغب : السائل عن ذلك ، قيل : أهل الشرك قصدا إلى تعيير المسلمين لما تجاوزوه من القتل في الشهر الحرام ، وقيل : هم أهل الإسلام .

وقد أخرج الطبرانيّ في ( الكبير ) ، والبيهقي في ( سننه ) ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن جندب بن عبد الله : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطا ، وبعث عليهم عبد الله بن جحش ، فلقوا ابن الحضرميّ فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى . فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام . فأنزل الله هذه الآية . فقال بعضهم : إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر ، فأنزل الله : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله . . . } الآية ) {[1234]} .

وأخرجه ابن منده في الصحابة عن ابن عباس .

وملخص ما ذكره الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) وابن هشام في ( السيرة ) في الكلام على هذه السرية ونزول هذه الآية : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم{[1235]} بعث عبد الله بن جحش الأسديّ إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة في اثني عشر رجلا من المهاجرين ، كل اثنين يعتقبان على بعير ، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيرا لقريش ، وفي هذه السرية سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتابا وأمره أن لا ينظر حتى يسير يومين ثم ينظر فيه . فلما سار يومين فتح الكتاب فوجد فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة بين مكة والطائف فترصد بها عيرا لقريش ، وتعلم لنا من أخبارهم ، فقال : سمعا وطاعة ! وأخبر أصحابه بذلك وبأنه لا يستكرههم ، فمن / أحب الشهادة فلينهض ، ومن كره الموت فليرجع ، فأما أنا فناهض ! فنهضوا كلهم . فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه . فتخلفا في طلبه . فبَعُد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة ، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة . فيها عمرو بن الحضرميّ ، وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة ، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة . فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب . لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ! فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على مقاتلتهم ، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرميّ فقتله ، وأسروا عثمان والحكم ، وأفلت نوفل فأعجزهم ، ثم أقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عزلوا من ذلك الخمس وهو أول خُمس كان في الإسلام ، وأول قتيل في الإسلام ، وأول أسيرين في الإسلام فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه واشتد تعييب قريش وإنكارهم ذلك . وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا فقالوا : قل أحلّ محمد الشهر الحرام ! ، واشتد ذلك على المسلمين حتى أنزل الله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام . . . } الآية ) .

وقوله تعالى : { قتال فيه } بدل من الشهر ، بدل الاشتمال ، لأن القتال يقع في الشهر .

وقال الكسائيّ : هو مخفوض على التكرير . يريد أن التقدير : عن قتال فيه . وهو معنى قول الفرّاء : مخفوض ب ( عن ) مضمرة . وهذا ضعيف جدا لأن حرف الجر لا يبقى عمله بعد حذفه في الاختيار . . ! وقال أبو عبيدة : هو مجرور على الجوار . وهو أبعد من قولهما ، لأن الجوار من مواضع الضرورة والشذوذ ولا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة . وفيه يجوز أن يكون نعتاً ل ( قتال ) ، ويجوز أن يكون متعلقا به كما يتعلق ب ( قاتل ) .

وقد قرئ بالرفع في الشاذ ، ووجهه على أن يكون خبر مبتدأ محذوف معه همزة الاستفهام تقديره : أجائز قتال فيه ؟

/ { قل } في جوابهم { قتال فيه كبير } أي : أمر كبير مستنكر ، وقد كانت العرب لا تسفك دما ولا تغير على عدو في الأشهر الحرم وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب . وسنذكر ، في تنبيه يأتي ، التحقيق في كون تحريم القتال فيهما محكما أو منسوخا .

قال الراغب : إن قيل : لِمَ لَمْ يقل : القتال فيه كبير ، وشرط النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها أن يعاد معرّفا نحو : سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا ، قيل : في ذكره منكرا تنبيه على أن ليس كل القتال في الشهر الحرام هذا حكمه ، فإن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه ، فقد قال : ( أحلّت لي ساعة من نهار ولم تكن تحلّ لأحد قبلي ){[1236]} .

{ وصد عن سبيل الله } أي : عن دينه الموصل إلى رضوانه ، أو عن البيت الحرام ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج ( سبيل الله ) .

قال الحراليّ : و( الصدّ ) : صرف إلى ناحية بإعراض وتكرّه ، و( السبيل ) : طريق الجادة السابلة عليه الظاهر لكل سالك منهجه . وصد مبتدأ .

/ { وكفر به } أي : بالسبيل أعني الدين أو بالله ، عطف عليه . { والمسجد الحرام } عطف على { سبيل الله } أي : وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام . وزعم الفرّاء أنه معطوف على الهاء في { به } أي : كفر به وبالمسجد الحرام . { وإخراج أهله } أي : أهل المسجد الحرام وهم : رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الذين هم أولياؤه وهو عطف على { صد } أيضا { منه } من المسجد الحرام ؛ وخبر الأسماء الثلاثة { أكبر عند الله } جرما مما فعلته السرية من قتلهم إياهم في الشهر الحرام . لأن الإخراج فتنة { والفتنة أكبر من القتل } في الشهر الحرام ، أي : فقد فعلوا بكم في المسجد الحرام ما هو أكبر من القتل فيه ، وحرمة المسجد كحرمة الشهر . . . ! هذا ، وقيل : خبر { صد } و{ كفر } محذوف لدلالة ما تقدم عليه .

وأشار الرازيّ إلى إعراب آخر وهو : إن { صد } و{ كفر } معطوفان على { كبير } أي : قتال فيه ، موصوف بهذه الصفات . وعليه ف { أكبر } خبر { إخراج } فقط .

وقد جنح لهذا المهايميّ حيث قال في ( تفسيره ) :

{ قل قتال فيه كبير } من المعاصي الكبائر كيف { و } هو { صد عن سبيل الله } أي عن التجارة التي جعلها الله سبيل الرزق لعباده { و } لو استبيح هذا القتل فهو { كفر به و } صد عن { المسجد الحرام } إذا قتل الحجاج الخارجون في الشهر الحرام ، فهذا وجه تحريم القتال في هذا الشهر { و } لكن { إخراج أهله } أي إخراجهم أهل المسجد الحرام وهم النبيّ والمؤمنون { منه أكبر عند الله } . . . إلى آخره . وهذا الوجه من الإعراب بديع ، والأكثرون على الأول .

قال ابن القيّم في ( زاد المعاد ) في تأويل هذه الآية : يقول سبحانه : هذا الذي أنكرتموه عليهم وإن كان كبيرا فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله ، والصد عن سبيله وعن بيته . وإخراج المسلمين الذين هم أهله منه ، والشرك الذي أنتم عليه ، والفتنة التي حصلت نكم به أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام . ومما نسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في هذا المعنى هذه الأبيات ، يقال هي لعبد الله بن جحش :

تعدّون قتلا في الحرام عظيمة !*** وأعظم منه لو يرى الرشدَ راشدُ

صدودكم عما يقول محمد*** وكفر به ، والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله ***لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن عيّرتمونا بقتله ***وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرميّ رماحنا***بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دما ، وابن عبد الله عثمان بيننا ***ينازعه غل من القدّ عاند

قال الإمام ابن القيّم في ( زاد المعاد ) : وأكثر السلف فسروا ( الفتنة ) هنا بالشرك ، كقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } {[1237]} ويدل عليه قوله : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } {[1238]} أي لم يكن مآل شركهم وعاقبته وآخر أمرهم إلا أن تبرأوا منه وأنكروه . وحقيقتها أنها الشرك الذي يدعو صاحبه إليه ، ويقاتل عليه ، ويعاقب من لم يفتتن به . ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها : { ذوقوا فتنتكم } . قال ابن عباس : تكذيبكم . وحقيقته : ذوقوا نهاية فتنتكم وغايتها ومصير أمرها ، كقوله : { ذوقوا ما كنتم تكسبون } {[1239]} . وكما فتنوا عباده على الشرك ، فتنوا على النار وقيل لهم : / { ذوقوا فتنتكم } {[1240]} . ومنه قوله تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا . . . } {[1241]} فسّرت الفتنة هنا بتعذيبهم المؤمنين وإحراقهم إياهم بالنار ، واللفظ أعم من ذلك . وحقيقته : عذبوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم . فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين . وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه ويضيفها رسوله إليه كقوله : { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } {[1242]} وقول موسى : { إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء } {[1243]} فتلك بمعنى آخر ، وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر ، بالنعم والمصائب . فهذا لون ، وفتنة المشركين لون . وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر . والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية ، وبين أهل الجمل وصفين ، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ويتهاجروا لون آخر . وهي الفتنة التي قال فيها محمد صلى الله عليه وسلم{[1244]} : ( ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير ن الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ) . . . وأحاديث الفتنة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين هي هذه الفتنة{[1245]} . وقد تأتي الفتنة مرادا بها المعصية ، كقوله تعالى : { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنّي } {[1246]} . يقوله الجدّ بن قيس لما ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك{[1247]} ، يقول : إئذن لي في القعود ولا تفتني بتعريضي لبنات الأصفر فإني لا أصبر / عنهن . . ! قال تعالى : { ألا في الفتنة سقطوا } ، أي : وقعوا في فتنة النفاق وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر .

والمقصود : أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام ، بل أخبر الله أنه كبير وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام ، فهم أحق بالذم ، والعيب والعقوبة ، لاسيما أولياؤه . كانوا متأولين في قتالهم ذلك ، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم . في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله ، فهم كما قيل :

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد *** جاءت محاسنه بألف شفيع . . !

فكيف يقاس ببغيض عدوّ جاء بكل قبيح ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن ؟ . .

تنبيه : اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية : حرمة القتال في الشهر الحرام . ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ ؟

قال ابن القيّم في ( زاد المعاد ) في الفصل الذي عقده لما كان في غزوة خبير من الأحكام الفقهية . ما نصه : منها محاربة الكفار ومقاتلتهم في الأشهر الحرم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في الحجة . فمكث بها ثم سار إلى خيبر في المحرم كذلك . قال الزهري عن عروة عن مروان والمسور ، وكذلك قال الواقديّ : خرج في أول سنة سبع من الهجرة . ولكن في الاستدلال بذلك نظر . فإن خروجه كان في أواخر المحرم لا في أوله ، وفتحها إنما كان في الصفر . وأقوى من هذا الاستدلال بيعة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحت الشجرة بيعة الرضوان على القتال وأن لا يفروا . وكانت في ذي القعدة . ولكن لا دليل في ذلك . لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يريدون قتاله ، فحينئذ بايع الصحابة . ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام دفعا ، وإنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء . فالجمهور جوزوه وقالوا : تحريم القتال فيه منسوخ ، وهو مذهب الأئمة / الأربعة رحمهم الله . وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير منسوخ ، وكان عطاء يحلف بالله ما يحل القتال في الشهر الحرام ولا نسخ من تحريه شيء . . ! وأقوى من هذين الاستدلالين ، الاستدلال بحصار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف . فإنه خرج إليها في أواخر شوال فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة . فبعضها كان في ذي القعدة . فإنه فتح مكة لعشر بقين من رمضان ، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرة يقصر الصلاة . فخرج إلى هوازن وقد بقي من شوال عشرون يوما ففتح الله عليه هوازن وقسّم غنائمها . ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصروه عشرين ليلة . وهذا يقتضي أن بعضها في ذي القعدة بلا شك . وقد قيل إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة . ( قال ابن حزم : وهو الصحيح بلا شك ) وهذا عجيب منه . فمن أين له هذا التصحيح والجزم به . . ؟ وفي ( الصحيحين ) {[1248]} عن أنس بن مالك في قصة الطائف قال : ( فحاصرناهم أربعين يوما فاستعصوا وتمنّعوا ) ، وذكر الحديث . فهذا الحصار وقع في ذي القعدة بلا ريب . ومع هذا ، فلا دليل في القصة لأن غزو الطائف كان من تمام غزوة هوازن ، وهم بدأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال . ولما انهزموا دخل ملكهم وهو مالك بن عوف النضريّ مع ثقيف في حصن الطائف ، فحاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكان غزوهم من تمام الغزو التي شرع فيها ، والله أعلم .

وقال الله تعالى في سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ : / { يا أيها الذين آمنوا لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد } {[1249]} وقال في سورة البقرة : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ، قل قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل الله } {[1250]} . فهاتان آيتان مدنيتان . بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام . وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ناسخ لحكمها . ولا اجتمعت الأمة على نسخه . ومن استدل على النسخ بقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة } {[1251]} ونحوها من العمومات ، فقد استدل على النسخ بما لا يدل . ومن استدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة ، فقد استدل بغير دليل ، لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام .

{ ولا يزالون } يعني أهل مكة { يقاتلونكم } أيها المؤمنون { حتى يردّوكم عن دينكم } أي : يرجعوكم عن دينكم الإسلام إلى الكفر { إن استطاعوا } أي : قدروا على ردّتكم . وفيه استبعاد لاستطاعتهم . فهو كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي / فلا تُبق عليّ . وهو واثق أنه لا يظفر به . وجملة { ولا يزالون } إما معطوفة على { يسألونك } أو معترضة . والمقصود : تحذير المؤمنين منهم وعدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور ، لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة في الدين . وفي الآية إشعار بأنكم أحق بأن لا تزالوا تقاتلونهم . لأنهم قاطعون بأنكم على الحق وأنكم منصورون ، وأنهم على الباطل وهم مخذولون ، ولابد ، وإن طال المدى ، لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم . ومن وُكِلَ إلى نفسه ضاع . فالأمر الذي بينكم وبينهم أشد من الكلام . فينبغي الاستعداد له بعدّته ، والتأهّب له بأهبته ، فضلا عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه إليه الشياطين طعنا في الدين ، وصدا عن السبيل . أشار لذلك البقاعيّ . ثم حذر تعالى عن الارتداد بقوله : { ومن يرتدد منكم عن دينه } وهو الإسلام . وبناء صيغة الافتعال من الردة المؤذنة بالتكلف ، إشارة إلى أن من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه ، فهو متكلف في ذلك { فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } أي : بطلت جميع مساعيهم النافعة لهم ، وردت { في الدنيا } إذ يرفع الأمان عن أموالهم وأهلهم { والآخرة } إذ يسقط ثوابهم فلا يجزون ثمّت بحسناتهم { و } لا يقتصر عليه بل { أولئك أصحاب النار } أي : أهل النار { هم فيها خالدون } مقيمون لا يموتون ولا يخرجون كسائر الكفار .


[1234]:[2/ البقرة/ 218] ونصها: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم 218}.
[1235]:انظر سيرة ابن هشام، صفحة 423، و424 (طبعة جوتنجن بألمانيا).
[1236]:أخرجه البخاري في: 3 – كتاب العلم، 39 – باب كتابة العلم. ونصه: عن أبي هريرة (أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكة، بقتيل منهم قتلوه. فأُخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فركب راحلته فخطب فقال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولم تحل لأحد بعدي. ألا وإنها حلّت لي ساعة من نهار. إلا وإنها ساعتي هذه، حرام لا يختلي شوكها ولا يعضد شجرها ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد. فمن قُتِل فهو بخير النظرين. أما أن يعقل وإما أن يقاد أهل القتيل. فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله. فقال اكتبوا لأبي فلان فقال رجل من قريش: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر، إلا الإذخر.
[1237]:[8/ الأنفال/ 39] ونصها: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير 39}.
[1238]:[6/ الأنعام/ 23].
[1239]:[39/ الزمر/ 24] ونصها: {أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون 24}.
[1240]:[51/ الذاريات/ 14] ونصها:{ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون 14}.
[1241]:[85/ البروج/ 10] ونصها: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق 10}.
[1242]:[6/ الأنعام/ 53] ونصها: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين 53}.
[1243]:[7/ الأعراف/ 155] ونصها: {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين 155}.
[1244]:أخرجه البخاري في: 92 – كتاب الفتن، 9 – باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم. ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذ به).
[1245]:أخرجه البخاري في: 92 – كتاب الفتن، 11 – باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة ونصه: عن حذيفة بن اليمان قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير؟ وكنت أسأله عن الشر؟ مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن) قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت: يا رسول الله! صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
[1246]:[9/ التوبة/ 49] ونصها: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين 49}.
[1247]:انظر سيرة ابن هشام، الجزء الرابع صفحة 159 (طبعة الحلبي) وصفحة 893 (طبعة جوتنجن بألمانيا).
[1248]:ذكر المؤلف أن حديث أنس أخرجه صاحبا الصحيحين. وبحثت عنه فيهما فلم أهتد إليه. لكني أرجح أنه في صحيح مسلم فقط. بدليل أن الحافظ ابن حجر، عند قول البخاري (في الحديث 1928 في: 64 – كتاب المغازي، 56 – باب غزوة الطائف) لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف، قال: وذكر أنس في حديثه عند مسلم، أن مدة حصارهم كانت أربعين يوما. فقوله (عند مسلم) دليل على أن البخاري لم يخرجه. فمن وقف عليه عند مسلم فليذكره هنا. وأجره على الله.
[1249]:[5/ المائدة/ 2] ونصها: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمّين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب 2}.
[1250]:[2/ البقرة/ 217].
[1251]:[9/ التوبة/ 36] ونصها: {إن عدة الشهور عند الله اثتا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين 36}.