فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

{ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .

سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال الذي يحدث في أيام من شهر حرام -وهي أربعة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب- هل يحل لأحد أن يقاتل فيها فأجاب الوحي عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المولى جل علاه أن استحلال الأشهر الحرم بالقتال فيها خطيئة لكن صد الناس عن الإسلام والكفر بالملك العلام واستحلال حرمة البيت الحرام وإخراج النبي ومن آمن به وإقصائهم عن بيت ربهم وكعبته أعظم جرما وأكبر خطئا من الذي سألوا عنه والسائلون هم قريش والمشركون -على ما روي عن أبي اليسار عن جندب بن عبد الله- أو هم المسلمون على ما روى ابن عباس وأكثر الروايات على ذلك وهو اختيار أكثر المفسرين ، أما البيهقي فقد صحح رواية جندب{[672]} رضي الله تعالى عنه ؛ قال الزجاج المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام { قتال فيه } ربما يكون الخفض هنا على نية تكرار العامل وهو{ عن } أي عن الشهر الحرام عن قتال فيه أو هو بدل اشتمال من الشهر ، ولما كان النكرة موصوفة أو عاملة صح في إبدالها عن المعرفة ؛ { قل قتال فيه كبير } مبتدأ وخبر { وصد عن سبيل الله } مبتدأ { وكفر به } معطوف على صد { والمسجد الحرام } عطف على { سبيل الله { وإخراج أهله منه } عطف على صد وخبر الابتداء { أكبر عند الله } أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام { والفتنة أكبر من القتل } أي فتنتهم المسلمين عن دينهم أي أن ذلك أشد جرما من قتلكم في الشهر الحرام .

{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } تحذير من الله تعالى للمؤمنين من خبث وضغن الكافرين ، عن عروة بن الزبير : هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين يعني على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردوهم إلى الكفر كما كانوا يفعلون بمن قدروا عليه منهم قبل الهجرة ، و{ حتى } هنا بمعنى كي أو بمعنى إلى { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وعيد لمن يتبدل الكفر بالإيمان إلا من أكره ثم رجع مسلما فإن القرآن المجيد إذ توعد الذين كفروا بعد إيمانهم بأن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين ، قال مستثنيا { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم }{[673]} وحبوط الأعمال -أعاذنا الله منه- هو بطلانها وأن يذهب ويضيع ثوابها .


[672]:أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي بسند صحيح عن جندب ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الحارث فلما ذهب لينطلق بكى شوقا وصبابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس فبعث مكانه عبد الله بن جحش وكتب له كتابا وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك فلما قرأ الكتاب استرجع [أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون] وقال: سمعا وطاعة لله ولرسوله فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب فرجع رجلان ومضى بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى فقال المشركون للمسلمين قتلتم في الشهر الحرام فأنزل الله {يسألونك عن الشهر الحرام} الآية فقال بعضهم إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجرا فأنزل الله {إن الذين آمنوا والذين هاجروا} إلى آخر الآية. قال أبو عمر -في كتاب الدرر له- ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب كرز بن جابر وتعرف تلك الخرجة ببدر الأولى أقام بالمدينة بقية جمادى ورجب [وعلى هذا يكون قتل ابن الحضرمي قد وقع في ليلة ظنوها تستهل شعبان فتبين أنها متممة شهر رجب] وبعث في رجب عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين وهم أبو حذيفة بن عتبة وعكاشة بن محصن وعتبة بن غزوان وسهيل بن بيضياء الفهري وسعد بن أبي وقاص وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله التميمي وخالد بن بكير الليثي وكتب لعبد الله بن جحش كتابا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه (فيمضي لما أمره به) [ما بين العلامتين () من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري] ولا يستكره أحد من أصحابه وكان أميرهم ففعل عبد الله بن جحش ما أمره به فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه (إذا نظرت في كتابي هذا فأمضي حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريش وتعلم لنا من أخبارهم) فلما قرأ الكتاب قال لهم سمعا وطاعة ثم أخبر أصحابه بذلك وبأنه لا يستكره أحدا منهم وأنه ناهض لوجهه بمن أطاعه وأنه إن لم يطعه أحد مضى وحده فمن أحب الشهادة فلينهض ومن كره الموت فليرجع فقالوا كلنا نرغب فيما ترغب فيه وما بنا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونهضوا معه فسلكوا على الحجاز وشرد لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان جمل كانا يتعقبانه فتخلفا في طلبه ونفذ عبد الله بن جحش مع سائرهم لوجهه حتى نزل بنخلة فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي -واسمه الحضرمي عبد الله بن عباد بن الصدف والصدف بطن من حضرموت- وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة فتشاور المسلمون ثم قالوا نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام فإن نحن قاتلناهم هتكنا الشهر الحرام وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم ثم اتفقوا على لقائهم فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي فقتله وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وأفلت نوفل بن عبد الله ثم قدموا بالعير والأسيرين وقال لهم عبد الله بن جحش اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر الله ورسوله فعل عبد الله بن جحش ورضيه وسنه للأمة إلى يوم القيامة وهي أول غنيمة غنمت في الإسلام، ثم نزل القرآن {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه} فأقر الله ورسوله فعل عبد الله بن جحش ورضيه وسنه للأمة إلى يوم القيامة، وهي أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول أمير وعمرو بن الحضرمي أول قتيل، وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل بن الحضرمي في الشهر الحرام فسقط في أيدي القوم فأنزل الله عز وجل {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} إلى قوله {وهم فيها خالدون} وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء في الأسيرين، فأما عثمان بن عبد الله فمات بمكة كافرا، وأما الحكم بن كيسان فأسلم، وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد ببئر معونة، ورجع سعد وعتبة إلى المدينة سالمين وقيل: إن انطلاق سعد بن أبي وقاص وعتبة في طلب بعيرهما كان عن إذن من عبد الله بن جحش.
[673]:من سورة آل عمران الآية 89 وقبلها ثلاث آيات متتابعات.