قوله تعالى : { قِتَالٍ فِيهِ } : قراءةُ الجمهور : " قتالٍ " بالجر ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدها : أنه خفضٌ على البدلِ من " الشهر " بدلِ الاشتمال ؛ إذ القتالُ واقعٌ فيه فهو مشتملٌ عليه . والثاني : أنه خفضٌ على التكرير ، قال أبو البقاء : " يريد أنَّ التقديرَ : " عن قتالٍ فيه " . وهو معنى قول الفراء ، لأنه قال : " وهو مخفوضٌ ب " عَنْ " مضمرةً . وهذا ضعيفٌ جداً ، لأنَّ حرفَ الجر لا يبقى عملُه بعد حذفِه في الاختيار " . وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين والكسائي والفراء ، لأنَّ البدلَ عند جمهور البصريين على نِيَّةِ تكرار العامل ، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي . وقوله : لأنَّ حرفَ الجرِّ لا يَبْقَى عملُه بعد حَذْفِه " إن أراد في غيرِ البدل فَمُسَلَّم ، وإن أرادَ في البدلِ فممنوعٌ ، وهذا هو الذي عناه الكسائي . الثالث : قاله أبو عبيدة : " أنه خفضٌ على الجِوار " . قال أبو البقاء : " وهو أَبْعَدُ من قولِهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأن الجِوار من مواضعِ الضرورةِ أو الشذوذِ فلا يُحْمَلُ عليه ما وُجِدَتْ عنه مَنْدُوحة " . وقال ابن عطية : " هو خطأ " . قال الشيخ : " إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجِوار المصطلحَ عليه فهو خطأ . وجهةٌ الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أن يكونَ الشيءُّ تابعاً لمرفوعٍ أو منصوبٍ من حيثُ اللفظُ والمعنى فَيُعْدَلَ به عن تَبَعيِّتِه لمتبوعِه لفظاً ، ويُخْفَضَ لمجاوَرَتِه لمخفوضٍ . كقولِهم : " هذا جُحْر ضَبًّ خَرِبٍ " بجرِّ " خرب " ، وكان من حقِّه الرفعُ ؛ لأنه من صفاتِ الجحر لا من صفاتِ الضبِّ ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضِعه إن شاء الله تعالى ، و " قتالٍ " هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ أو منصوب وجاور مخفوضاً فَخُفِض . وإن كان عَنَى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فَخَفْضُه بكونه جاور مخفوضاً ، أي صار تابعاً له ، لم يكنْ خطأً ، إلا أنه أغْمَضَ في عبارته فالتبس بالمصطلحِ عليه .
وقرأ ابن عباس والأعمش : " عن قتالٍ " بإظهارِ " عن " وهي في مصحفِ عبد الله كذلك ، ، وقرأ عكرمة : " قَتْلٍ فيه ، قل قتلٌ فيه " بغير ألف .
وقُرىء شاذاً : " قتالٌ فيه " بالرفع ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأٌ والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ ، وسَوَّغ الابتداء به وهو نكرةٌ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهامِ ، تقديرُه : أقتالٌ فيه . والثاني : أنه مرفوعٌ باسم فاعل تقديرُه : أجائزٌ قتالٌ فيه ، فهو فاعلٌ به . وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجهِ بان يكونَ خبر مبتدأٍ محذوفٍ ، فجاء رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ : إمَّا مبتدأٌ وإمَّا فاعلٌ وإمَّا خبرُ مبتدأٍِ .
قالوا : ويَظْهَرُ هذا من حيث إنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ أم لا ، وإنما كان سؤالُهم : هل يجوزُ القتالُ فيه أولا ؟ وعلى كِلا هذين الوجهين فهذه الجملةُ المُسْتَفْهَمُ عنها في محلِّ جرٍ بدلاً من الشهرِ الحرامِ ، لأن " سأل " قد أخَذَ مفعولَيْه فلا تكونُ هي المفعولَ وإن كانت مَحَطَّ السؤالِ .
وقوله : { فِيهِ } على قراءةِ خفضٍ " قتالٍ " فيه وجهان ، أحدُهما : أنه في محلِّ خفضٍ لأنه صفةٌ ل " قتال " . والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ لتعلُّقه بقتال لكونه مصدراً . وقال أبو البقاء : " كما يتعلَّقُ بقاتل " . ولا حاجة إلى هذا التشبيه ، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعلِ . والضميرُ في " يسألونك " قيل للمشركين ، وقيل للمؤمنين . والألفُ واللامُ في " الشهر " قيل : للعهدِ وهو رجب ، وقيل : للجنسِ فَيَعُمُّ جميعَ الأشهرِ الحُرُمِ .
قوله : { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ، مَحلُّها النصبُ بقُلْ ، وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ : إمَّا الوصفُ ، إذا جَعَلْنَا قولَه " فيه " صفةً له وإمَّا التخصيصُ بالعملِ إذا جَعَلْناه متعلقاً بقتال ، كما تقدَّم في نظيرِه . فإنْ قيل : قد تقدَّم لفظُ نكرة وأُعيدت من غيرِ دخول ألفٍ ولامٍ عليها وكان حقُّها ذلك ، كقوله تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [ المزمل : 15-16 ] فقال أبو البقاء : " ليس المرادُ تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان ، فعلى هذا " قتالٌ " الثاني غيرُ الأول " ، وهذا غيرُ واضحٍ ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً ، بل إنما تفيدُ العهد في الاسمِ السابقِ . وأَحْسَنُ منه قَولُ بعضِهم : " إنَّ الثاني غيرُ الأولِ ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبدِ الله بن جحش ، وكان لنصرةِ الإِسلامِ . وخُذْلانِ الكفرِ فليس من الكبائرِ ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غيرُ هذا ، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ ونصرةُ الكفرِ ، فاختير التنكيرُ في هذين اللفظين لهذه الدقيقةِ ، ولو جِيء بهما معرفتين أو بأَحدِهما مُعَرَّفاً لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ " .
قوله : { وَصَدٌّ } فيه وجهان ، أحدُهما مبتدأٌ وما بعده عطفٌ عليه ، و " أكبرُ " خبرٌ عن الجميعِ . وجاز الابتداءُ بصدّ لأحدِ ثلاثةِ أوجهٍ : إمَّا لتخصيصِه بالوصفِ بقولِه : { عَن سَبِيلِ اللَّهِ } وإمَّا لتعلُّقِه به ، وإمَّا لكونِه معطوفاً ، والعطفُ من المسوِّغات . والثاني : أنه عطفٌ على " كبيرٌ " أي : قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ ، قاله الفراء . قال ابن عطية : " وهو خطأٌ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله : " وكفرٌ به " عَطْفٌ أيضاً على " كبيرٌ " ، ويَجِيءُ من ذلك أنَّ إخراجَ أهلِ المسجدِ منه أكبرُ من الكفرِ ، وهو بَيِّنٌ فسادُه " . وهذا الذي رَدَّ به قولَ الفراء غيرُ لازم له ؛ إذ له أن يقول : إنَّ قولَه " وكفرٌ به " مبتدأٌ ، وما بعده عطفٌ عليه ، و " أكبرُ " خبرٌ عنهما ، أي : مجموعُ الأمرين أكبرُ من القتال والصدِّ ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر ، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ .
وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعولُه ؛ إذ التقديرُ : وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ .
و " كفرٌ " فيه وجهان ، أحدُهما : أنه عطفٌ على " صَدّ " على قولنا بأن " صداً " مبتدأٌ لا على قولنا بأنه خبرٌ ثان عن " قتال " ، لأنه يلزَمُ منه أن يكونَ القتالُ في الشهرِ الحرامِ كفراً وليس كذلك ، إلا أَنْ يرادَ بقتالِ الثاني ما فيه هَدْمُ الإِسلامِ وتقويةُ الكفرِ كما تقدَّم ذلك عن بعضِهم ، فيكونُ كفراً ، فَيَصِحُّ عطفُه عليه مطلقاً ، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط : أي : وكُفْرُكم . والثاني : أن يكونَ مبتدأً كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه . والضميرُ في " به " فيه وجهان ، أحدُهما :/ أنه يعودُ على " سبيل " لأنه المحدَّثُ عنه . والثاني أنه يعودُ على الله ، والأولُ أظهرُ . و " به " فيه الوجهان ، أعني كونَه صفةً لكفر ، أو متعلقاً به ، كما تقدَّم في " فيه " .
قوله : { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } الجمهورُ على قراءته مجروراً . وقرىء شاذاً مرفوعاً . فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ ، أحدها : - وهو قولُ المبرد وتبعه في ذلك الزمخشري وابنُ عطية ، قال ابن عطية : " وهو الصحيحُ - أنه عطفٌ على " سبيلِ الله " أي : وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجد " . وهذا مردودٌ بأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي تقريرُه أنَّ " صداً " مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ والفعلِ و " أَنْ " موصولٌ ، وقد جعلتم " والمسجدِ " عطفاً على " سبيلِ " فهو من تمام صلته ، وفُصِل بينهما بأجنبي وهو " وكفرٌ به " . ومعنى كونِه أجنبياً أنه لا تعلُّق له بالصلةِ . فإن قيل : يُتَوَسَّعُ في الظرفِ وحرفِ الجر ما لم يُتَّسَعْ في غيرِهما . قيل : إنما قيل بذلك في التقديمِ لا في الفصلِ .
الثاني : أنه عطفٌ على الهاءِ في " به " أي : وكفرٌ به وبالمسجِد ، وهذا يتخرَّج على قول الكوفيين . وأمَّا البصريون فيشترطون في العطفِ على الضميرِ المجرورِ إعادةَ الخافض إلا في ضرورة ، فهذا التخريجُ عندهم فاسدٌ . ولا بد من التعرُّض لهذه المسألة وما هو الصحيحُ فيها . فأقولُ وبالله العون : اختلف النحاةُ في العطفِ على الضمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهبَ : أحدُها - وهو مذهبُ الجمهور من البصريين - : وجوبُ إعادةِ الجار إلا في ضرورةٍ . الثاني : أنه يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مطلقاً ، وهو مذهبُ الكوفيين ، وتَبِعهم أبو الحسن ويونس والشلوبيين .
والثالث : التفصيلُ ، وهو إنْ أُكِّد الضميرُ جاز العطفُ من غيرِ إعادةِ الخافِض نحو : " مررت بك نفسِك وزيدٍ " ، وإلا فلا يجوزُ إلا ضرورةً ، وهو قولُ الجَرْميّ . والذي ينبغي أنه يجوزُ مطلقاً لكثرةِ السماعِ الوارد به ، وضَعْفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس .
أما السَّماعُ : ففي النثرِ كقولِهم : " ما فيها غيرُه وفرسه " بجرِّ " فرسه " عطفاً على الهاء في " غيره " . وقوله : { تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } في قراءة جماعةٍ كثيرة ، منهم حمزةُ ، وستأتي هذه الآيةُ إن شاء الله ، ومنه :
{ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } [ الحجر : 20 ] ف " مَنْ " عطف على " لكم " في قولِه تعالى : { لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } وقولُه : { مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } [ النساء : 127 ] عطف على " فيهِنّ " وفيما يُتْلى عليكم " . وفي النظم وهو كثيرٌ جداً ، فمنه قولُ العباس بن مرداس :
أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي *** أفيها كان حَتْفي أم سواها
ف " سواها " عطفٌ على " فيها " ، وقولُ الآخر :
تُعَلَّقُ في مثلِ السَّوارِي سيوفُنا *** وما بينها والأرضِ غَوْطٌ نَفانِفٌ
هَلاَّ سَأَلْتَ بذي الجماجم عنهمُ *** وأبي نُعَيْم ذي اللِّواء المُحْرِقِ
بنا أبداً لا غيرِنا تُدْرَكُ المُنَى *** وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخطوبِ الفَوادِحِ
لو كانَ لي وزهيرٍ ثالثٌ وَرَدَتْ *** من الحِمامِ عِدانا شَرَّ مَوْرودِ
إذا أَوْقدوا ناراً لحربِ عَدُوِّهمْ *** فَقَدْ خابَ مَنْ يَصْلَى بها وسعيرِها
إذا بنا بل أُنَيْسانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ *** ظَلَّتْ مُؤَمَنَّةً مِمَّنْ يُعادِيها
آبَكَ أيِّهْ بيَ أو مُصَدَّرِ *** من حُمُرِ الجِلَّةِ جَأْبٍ حَشُوَرِ
فاليومَ قَرَّبْتَ تهجُونا وَتشْتِمُنا *** فاذهبْ فما بك والأيام مِنْ عَجَبِ
فكثرةُ ورودِ هذا وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ ، فجاؤوا تارة بالواو ، وأخرى ب " لا " ، وأخرى ب " أم " ، وأخرى ب " بل " دليلٌ على جوازِه . وأمّا ضَعْفُ الدليل : فهو أنهم منعوا ذلك لأنَّ الضميرَ كالتنوين ، فكما لا يُعْطف على التنوين لا يُعْطَفُ عليه إلا بإعادة الجار . ووجهُ ضعفه أنه كان بمقتضى هذه العلةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضمير مطلقاً ، أعنى سواءً كان مرفوعَ الموضعِ أو منصوبَه أو مجرورَه ، وسواءً أُعيد معه الخافِضُ أم لا كالتنوين .
وأمَّا القياسُ فلأنه تابعٌ من التوابعِ الخمسةِ فكما يُؤَكَّدُ الضميرُ المجرورُ ويُبْدَلُ منه فكذلك يُعْطَفُ عليه .
الثالث : أن يكونَ معطوفاً على " الشهر الحرام " أي : يسألونَك عن الشهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام . قال أبو البقاء : " وضَعُفَ هذا بأنَّ القومَ لم يَسْأَلوا عن المسجدِ الحرام إذ لم يَشُكُّوا في تعظيمِه ، وإنما سَأَلوا عن القتالِ في الشهرِ الحرامِ لأنه وَقَعَ منهم ، ولم يَشْعُروا بدخولِه فخافُوا من الإِثمِ ، وكانَ المشركونَ عيَّروهم بذلك " ولا يَظْهَرُ ضَعْفُه بذلكَ لأنه على هذا التخريجِ يكونُ سؤالُهم عن شيئين ، أحدُهما القتالُ في الشهر الحرامِ .
والثاني : القتالُ في المسجد الحرام ، لأنهم لم يَسْأَلوا عن ذات الشهر ولا عن ذاتِ المسجدِ ، إنما سألوا عن القتالِ فيهما كما ذَكَرْتُم ، فَأُجيبوا بأنَّ القتالَ في الشهرِ الحرامِ كبيرٌ وصَدُّ عن سبيلَ الله تعالى ، يكون " قتال " أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله ، وأُجيبوا بأنَّ القتالَ في المسجد الحرامِ وإخراجَ أهلِه أكبرُ من القتالِ فيه . وفي الجملةِ فَعَطْفُه على الشهرِ الحرامِ متكلَّفٌ جداً يَبْعُدُ عنه نَظمُ القرآنِ والتركيبُ الفصيحُ .
الرابع : أَنْ يتعلَّقَ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديرُه : ويَصُدُّون عن المسجدِ ، كما قال تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ الفتح : 25 ] قاله أبو البقاء ، وجَعَله جيداً . وهذا غيرُ جيد لأنه يَلْزَمُ منه حذفُ حرفِ الجرِ وإبقاءُ عملهِ ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها ، على خلافٍ في بعضها ، ونصَّ النحويون على أنَّه ضرورةٌ كقوله :
إذا قيل : أيُّ الناسِ شَرُّ قبيلةٍ *** أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ
أي : إلى كليب فهذه أربعة أوجه ، أجودها الثاني .
وأمَّا رفعُه فوجهُه أنَه عَطْفٌ على " وكفرٌ به " على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه " وكفرٌّ بالمسجدِ " فَحُذِفَتْ الباءُ وأُضيف " كفرٌ " إلى المسجدِ ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه ، ولا يَخْفَى ما فيه من التكلُّفِ ، إلا أنه لا تُخَرَّجُ هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرُ مِنْ ذلك .
قوله : { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } عَطْفٌ على " كفرٌ " أو " صدٌ " على حَسَبِ الخلافِ المتقدَّمِ ، وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ، وأُضيف إلى مفعولُه ، تقديرُه : " وإخراجُكم أهلَه " . والضميرُ في " أهله " و " مِنه " عائدٌ على المسجدِ وقيل : الضميرُ في " منه " عائدٌ على سبيلِ الله ، والأول أظهرُ و " منه " متعلِّقٌ بالمصدرِ .
قوله : { أَكْبَرُ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرٌ عن الثلاثةِ ، أعني : صداً وكفراً وإخراجاً كما تقدَّم ، وفيه حينئذٍ احتمالان ، أحدُهما : أن يكونَ خبراً عن المجموعِ ، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونَ خبراً عنها باعتبارِ كلِّ واحدٍ ، كما تقول : " زيدٌ وبكرٌ وعمرٌ أفضلُ من خالدٍ " أي : كلُّ واحِدٍ منهم على انفرادِه أفضلُ من خالدٍ . وهذا هو الظاهرُ . وإنما أُفْرِد الخبرُ لأنه أفضلُ من تقديرِه : أكبر من القتال في الشهرِ الحرامِ . وإنِّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى .
الثاني من الوجهين في " أكبر " : أن يكونَ خبراً عن الأخير ، ويكون خبر " وصد " و " كفر " محذوفاً لدلالة خبر الثالث عليه تقديرُه : وصد وكفر أكبر . قال أبو البقاء/ في هذا الوجه : " ويجب أن يكونَ المحذوفُ على هذا " أكبر " لا " " كبير " كما قدَّره بعضهم ؛ لأن ذلك يوجب أن يكون إخراج أهل المسجد منه حُذِفَ خبر " وصد " و " كفر " لدلالة خبر " قتال " عليه أي : القتال في الشهر الحرام كبير ، والصد والكفر كبيران أيضاً ، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشهر الحرام .
ولا يلزم من ذلك أن يكونَ أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتى يلزمَ ما قاله من المحذور .
قوله : { عِندَ اللَّهِ } متعلِّق ب " أكبر " ، والعنديةُ هنا مجازٌ لِما عُرف . وصرح هنا بالمفضول في قوله : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل } ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حُذِفَ ، بخلاف الذي قبله حيث حُذِفَ . قوله : " حتى يَرُدُّوكم " حتى حرف جر ، ومعناها يَحتمل وجهين : أحدهما : الغاية ، والثاني : التعليل بمعنى كي ، والتعليلُ أحسنُ لأن فيه ذِكْرَ الحامل لهم على الفعل ، والغاية ليس فيها ذلك ، ولذلك لم يَذْكر الزمخشري غيرَ كونِها للتعليل قال : " وحتى " معناها التعليل كقولك : فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة " أي : " يقاتلونكم كي يردُّكم " ولم يذكر ابن عطية غير كونها غايةً قال : " ويردُّوكم " نصب ب " حتى " لأنها غاية مجردة " وظاهر قوله : " منصوب بحتى " أنه لا يُضْمِر " أَنْ " لكنه لا يريدُ ذلك وإن كان بعضهم يقول بذلك . الفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أن وجوباً .
و " يزالون " مضارع زال الناقصة التي ترفع الاسم وتنصب الخبر ، ولا تعمل إلا بشرطِ أَنْ يتقدَّمها نفيٌ أو نهي أو دعاء ، وقد يُحْذف النافي بإطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جوابِ قسم وإلاَّ فسماعاً ، وأحكامُها في كتب النحو ، ووزنُها فَعِل بكسر العين ، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائي في مضارعها : يَزيل ، وإن كان الأكثر يَزال ، فأمَّا زال التامة فوزنها فَعَل بالفتح ، وهي من ذوات الواو لقولِهم في مضارعها يَزُول ، ومعناها التحول . و " عن دينكم " متعلق " بيردوكم " وقوله : " إن استطاعوا " شرط جوابه محذوف للدلالة عليه أي : إن استطاعوا ذلك فلا يزالون يقاتلونكم ، ومَنْ رأى جوازَ تقديمِ الجواب جعل " لا يزالون " جواباً مقدماً ، وقد تقدَّم الردُّ عليه بأنه كان ينبغي أَنْ تَجِبَ الفاَءُ في قولِهم : " أنت ظالم إنْ فعلت " .
قوله : { وَمَن يَرْتَدِدْ } " مَنْ " شرطيةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ ، ولم يَقْرأ هنا أحدٌ بالإِدغام ، وفي المائدة اختلفوا فيه ، فنُؤَخِّر الكلامَ على هذه المسألةِ إلى هناك إن شاءَ اللهُ تعالى .
وَيَرْتَدِدُ يَفْتَعِلُ من الردِّ وهو الرجوعُ كقولِه : { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] : قال الشيخ : " وقد عَدَّها بعضُهم فيما يتعدَّى إلى اثنين إذا كانت عنده بمعنى صَيَّر ، وَجَعَلَ من ذلك قولَه : { فَارْتَدَّ بَصِيراً } [ يوسف : 96 ] أي : رَجَع " وهذا منه [ سهو ] ؛ لأنَّ الخلافَ إنما هو بالنسبةِ إلى كونِها بمعنى صار أم لا ، ولذلك مثَّلوا بقوله : " فارتدَّ بصيراً " فمنهم مَنْ جَعَلها بمعنى " صار " ، ومنهم مَنْ جَعَل المنصوبَ بعدَها حالاً ، وإلا فأينَ المفعولان هنا ؟ وأمَّا الذي عَدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى " صَيَّر " فهو رَدَّ لا ارتدَّ ، فاشتبه عليه ردَّ ب " ارتَدَّ " . وصيَّر ب " صارَ " .
و " منكم " متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في " يَرْتَدِدْ " ، و " من " للتبعيض ، تقديرُه : ومَنْ يَرْتَدِدْ في حالِ كونِه كائناً منكم ، أي : بعضكم . و " عن دينه " متعلِّقٌ بيرتددْ . و " فَيَمُتْ " عطفٌ على الشرط والفاءُ مُؤْذِنَةٌ بالتعقيب .
{ وَهُوَ كَافِرٌ } جملةٌ حاليةٌ من ضميرِ " يَمُتْ " ، وكأنها حالٌ مؤكِّدَةٌ لأنها لو حُذِفَتْ لفُهِم معناها ، لأنَّ ما قبلَها يُشْعِرُ بالتعقيبِ للارتداد ، وجيء بالحالِ هنا جملةً ، مبالغةً في التأكيدِ من حيث تكرُّرُ الضميرِ بخلافِ ما لو جِيء بها اسماً مفرداً .
وقوله : { فَأُوْلئِكَ } جوابُ الشرطِ . قالَ أبو البقاء : و " مَنْ في موضعِ مبتدأ ، والخبرُ هو الجملةُ التي هي قولُه : " فأولئك حَبِطَتْ " ، وكان قد سَلَفَ له عند قوله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [ البقرة : 38 ] أنَّ خبرَ اسم الشرطِ هو فعلُ الشرطِ لا جوابُه ورَدَّ على مَنْ يَدَّعي ذلك بما حَكَيْتُه عنه ثَمَّةَ ، ويَبْعُدُ منه تَوَهُّمُ كونِها موصولةً لظهورِ الجزمِ في الفعلِ بعدها ، ومثلُه لا يقعُ في ذلك .
و " حَبِط " فيه لغتان : كسرُ العينِ - وهي المشهورةُ - وفَتْحُها ، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميعِ القرآنِ ، ورويتْ عن الحسنِ أيضاً . والحُبوط : أصلُه الفسادُ ومنه : " حَبِطَ بطنُه " أي : انتفخ ، ومنه " رَجلٌ حَبَنْطَى " أي : منتفخُ البطنِ .
وحُمِل أولاً على لفظِ " مَنْ " فَأَفْرَدَ في قوله : " يَرْتَدِدْ ، فيمتْ وهو كافرٌ " وعلى معناها ثانياً في قولِه : " فأولئك " إلى آخره ، فَجَمَع ، وقد تقدَّم أن مثلَ هذا التركيبِ أحسنُ الاستعمالَيْنِ : أعني الحَمْلَ أولاً على اللفظِ ثم على المعنى . وقولُه " في الدنيا " متعلِّقٌ ب " حَبِطَتْ " .
وقوله : { وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ } إلى آخرِهِ تقدَّم إعرابُ نظيرتِها . واختلفوا في هذه الجملةِ : هل هي استئنافيةٌ ، أي : لمجرَّدِ الإخبارِ بأنهم أصحابُ النارِ ، فلا تكونُ داخلةٍ في جزاء الشرطِ ، بل تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ ، أو هيَ معطوفةً على الجوابِ فيكونُ محلُّها الجزم ؟ قولان ، رُجِّع الأولُ بالاستقلالِ وعدمِ التقييدِ ، والثاني بأنَّ عطفَها على الجزاءِ أقربُ من عطفِها على جملةِ الشرطِ ، والقربُ مُرَجِّحٌ .