الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يسألك يا محمد أصحابك عن الشهر الحرام، وذلك رجب عن قتال فيه. قل يا محمد: قتال فيه، يعني في الشهر الحرام، كبير: أي عظيم عند الله استحلاله، وسفك الدماء فيه... وإنما قال: قل قتال فيه كبير، لأن العرب كانت لا تقرع فيه الأسنة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يهيجه تعظيما له، وتسميه مضر «الأصمّ» لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه... عن جابر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى، أو يغزو حتى إذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ.

"وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ": ومعنى الصدّ عن الشيء: المنع منه، والدفع عنه، ومنه قيل: صدّ فلان بوجهه عن فلان: إذا أعرض عنه فمنعه من النظر إليه.

"وكُفْرٌ بِه": وكفر بالله، والباء في به عائدة على اسم الله الذي في "سبيل الله".

وتأويل الكلام: وصدّ عن سبيل الله، وكفر به، وعن المسجد الحرام وإخراج أهل المسجد الحرام، وهم أهله وولاته أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ من القتال في الشهر الحرام... ثم ابتدأ الخبر عن الفتنة فقال: "وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ": الشرك أعظم وأكبر من القتل، يعني من قتل ابن الحضرمي الذي استنكرتم قتله في الشهر الحرام...

لم يكن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عما ارتابوا بحكمه كارتيابهم في أمر قتل ابن الحضرمي، إذ ادّعوا أن قاتله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الشهر الحرام، فسألوا عن أمره، لارتيابهم في حكمه. فأما إخراج المشركين أهل الإسلام من المسجد الحرام، فلم يكن فيهم أحد شاكا أنه كان ظلما منهم لهم فيسألوا عنه.

ولا خلاف بين أهل التأويل جميعا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب قتل ابن الحضرمي وقاتله:

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، قال: ثني الزهري، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب مقفله من بدر الأولى، وبعث معه بثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره، ولا يستكره من أصحابه أحدا. وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين أبو حذيفة بن ربيعة ومن بني أمية بن عبد شمس، ثم من حلفائهم عبد الله بن جحش بن رياب، وهو أمير القوم، وعكّاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله، وخالد بن البكير، وسهيل بن بيضاء. فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه، فإذا فيه: «إذا نظرت إلى كتابي هذا، فسر حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا، وتعلّم لنا من أخبارهم». فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى أصحابه معه، فلم يتخلف عنه أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرُع يقال له نُجْران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا عليه يعتقبانه، فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرّت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش فيها منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وقد كان حلق رأسه فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمار فلا بأس علينا منهم وتشاور القوم فيهم، وذلك في أخر يوم من جمادى، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلُنّ الحرم فليمتنعنّ به منكم، ولئن قتلتموهم لنقتلنهم في الشهر الحرام. فتردّد القوم فهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم. وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمتم الخمس وذلك قبل أن يفرض الخمس من الغنائم. فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها على أصحابه فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أمَرْتُكُمْ بِقِتالٍ فِي الشّهْرِ الحَرَامِ»، فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سُقِط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم المسلمون فيما صنعوا، وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به، وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال وأسروا. فقال من يردّ ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى وقالت يهود تتفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو: عمرت الحرب، والحضرمي: حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب، فجعل الله عليهم ذلك وبهم. فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله جل وعز على رسوله: "يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ "أي عن قتال فيه. "قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ "إلى قوله: "وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ" أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم عنه، إذ أنتم أهله وولاته، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم، "وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ" أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردّوه إلى الكفر بعد إيمانه وذلك أكبر عند الله من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، أي هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشّفَق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين...

عن أبي مالك، قال: لما نزلت: "يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ" إلى قوله: "وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ" استكبروه، فقال: والفتنة: الشرك الذي أنتم عليه مقيمون أكبر مما استكبرتم...

ثم اختلف أهل التأويل في قوله: "يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ" هل هو منسوخ أم ثابت الحكم؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بقوله الله جل وعز: "وَقاتِلُوا المُشْركِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافّةً" وبقوله: "اقْتُلُوا المُشْركينَ". وقال آخرون: بل ذلك حكم ثابت لا يحل القتال لأحد في الأشهر الحرم بهذه الآية، لأن الله جعل القتال فيه كبيرا. والصواب من القول في ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة، من أن النهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرم منسوخ بقول الله جل ثناؤه: (إنّ عِدّةَ الشّهِور عِنْدَ الله اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهنّ أنْفُسَكُمْ، وَقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكمْ كافّة). وإنما قلنا ذلك ناسخ لقوله: (يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوطاس لحرب من بها من المشركين في بعض الأشهر الحرم، وذلك في شوّال وبعض ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم. فكان معلوما بذلك أنه لو كان القتال فيهن حراما وفيه معصية، كان أبعد الناس من فعله صلى الله عليه وسلم. وأخرى: أن جميع أهل العلم بسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتدافع أن بيعة الرضوان على قتال قريش كانت في أول ذي القعدة، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما دعا أصحابه إليها يومئذ لأنه بلغه أن عثمان بن عفان قتله المشركون إذ أرسله إليهم بما أرسله به من الرسالة، فبايع صلى الله عليه وسلم على أن يناجز القوم الحرب ويحاربهم حتى رجع عثمان بالرسالة، وجرى بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وقريش الصلح، فكفّ عن حربهم حينئذ وقتالهم، وكان ذلك في ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم. فإذا كان ذلك كذلك فبين صحة ما قلنا في قوله: "يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ" وأنه منسوخ.

فإن ظنّ ظانّ أن النهي عن القتال في الأشهر الحرم كان بعد استحلال النبيّ صلى الله عليه وسلم إياهنّ لما وصفنا من حروبه، فقد ظنّ جهلاً وذلك أن هذه الآية، أعني قوله: "يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ" في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه، وما كان من أمرهم وأمر القتيل الذي قتلوه، فأنزل الله في أمره هذه الآية في آخر جمادى الاَخرة من السنة الثانية من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهجرته إليها، وكانت وقعة حنين والطائف في شوّال من سنة ثمان من مقدمه المدينة وهجرته إليها، وبينهما من المدة ما لا يخفى على أحد.

"وَلا يَزَالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حّتى يَرُدّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطاعُوا": ولا يزال مشركو قريش يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن قدروا على ذلك... مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين، كما كانوا يفعلون بمن قدروا عليه منهم قبل الهجرة.

"وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ فِي الدّنْيا والآخِرَةِ وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خالِدُون": من يرجع منكم عن دينه... "فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ": من يرجع عن دينه، دين الإسلام، "فيمت وهو كافر": فيمت قبل أن يتوب من كفره، فهم الذين حبطت أعمالهم يعني بقوله: "حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ": بطلت وذهبت، وبطولها: ذهاب ثوابها، وبطول الأجر عليها والجزاء في دار الدنيا والآخرة.

"وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خالِدُونَ": يعني الذين ارتدوا عن دينهم فماتوا على كفرهم، هم أهل النار المخلدون فيها. وإنما جعلهم أهلها لأنهم لا يخرجون منها، فهم سكانها المقيمون فيها. "هُمْ فِيهَا خالِدُونَ": هم فيها لابثون لبثا من غير أمد ولا نهاية.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{قل قتال فيه كبير} لو لم يكن من الكفرة ما ذكر من الصد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والكفر به {وإخراج أهله منه} لكن إذا فعلوا ذلك لم يكن القتال بجنبيه كبيرا، بل الكفر فيه أكبر من القتل.

فكأنه، والله أعلم، ذكر هذه الأحرف، وعنى بها الكناية عن الكفر، ثم جعل الكفر أكبر من هذا كله، مع المعرفة أن الذي يوازيه أقل منه. ثم ألزمهم اختيار الأيسر عند البلوى بما بين. والقتال بنفسه كبير لأن فيه تفاني الخلق،

{ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم} فيه دلالة إثبات رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر أنهم يفعلون كذا، فكان كما قال، فدل أنه إنما عرف ذلك بالله عز وجل.

وقوله: {إن استطاعوا} ولكن لا يستطيعون أن يردوكم عن دينكم؛ ففيه إياس الكفرة عن رد هؤلاء إلى دينهم، وأمن هؤلاء عن الرجوع إلى دينهم.

وقيل: {إن} بمعنى لو: أي [لو] قدروا أن يردوكم عن دينكم إلى دينهم لفعلوا؛ أخبر عز وجل عما ودوا {إن استطاعوا} لكن الله بما أكرمهم، وبشرهم من النصر وإظهار الدين لا يستطيعون إلى ذلك؛ أظهر ذلك بقوله: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} الآية [المائدة: 3].

{ومن يرتدد منكم عن دينه. فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} ذكر إحباط الأعمال بالموت على الكفر، والعمل يحبط بالكفر دون الموت. والوجه فيه أنه لا يحتمل أن يكون الموت هو سبب إحباط الأعمال بل الكفر نفسه إذا وجد؛ إذ الموت لا صنع فيه للعباد، والكفر فيه لهم اختيار، لم يجز جعل العمل حبطا بما لا صنع له فيه؛ دل أن الكفر هو المحبط لا الموت. ولكن ذكر الموت في هذا، لما فيه تمام الحبط والإبطال. وما لم يمت ترجى له المنفعة بحسابه، لأنه إذا كفر جحد تلك الحسنات، فأبطلها. فإذا أسلم بعد ذلك ندم على جعل ذلك باطلا، فصار مقابلا سيئاته بحسنات، فهو [حالة إحالة] الانتفاع به كما قال عز وجل {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان: 70].

{فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة}؛

أما في الدنيا فذهاب التعظيم والإجلال والثناء الحسن الذي يستوجب بالخير والدين عند الناس، فإذا ارتد عن الإسلام حبط ذلك كله، وصار على أعين الناس أخف من الكلب والخنزير.

وأما حبطه في الآخرة فذهاب ثواب أعماله...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

وأصل الحبط من الحباط، وهو من الحبط وهو فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الحباط، وهو أن تنتفخ بطنه فيموت...

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

إنهم استعظموا القتل في الشهر الحرام، فالذي كان منهم أعظم، وإنما سقطت حرمتهم في الشهر الحرام لعظم جرائمهم، وهو الكفر بالله في الشهر الحرام.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{حتى} معناها التعليل، كقولك: فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة، أي يقاتلونكم كي يردّوكم.

و {إِنِ اسْتَطَاعُواْ} استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوّه: إن ظفرت بي فلا تبق عليَّ. وهو واثق بأنه لا يظفر به.

{وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ}: ومن يرجع عن دينه إلى دينهم ويطاوعهم على ردّه إليه {فَيَمُتْ} على الردّة {فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة} لما يفوتهم بإحداث الردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام، وباستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

القوم أرادوا بقولهم: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش، فقال تعالى: {قل قتال فيه كبير} وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيرا ليس هو هذا القتال الذي سألتم عنه، بل هو قتال آخر لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإسلام وإذلال الكفر فكيف يكون هذا من الكبائر، إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة إلا أنه تعالى ما صرح بهذا الكلام لئلا تضيق قلوبهم بل أبهم الكلام بحيث يكون ظاهره كالموهم لما أرادوه، وباطنه يكون موافقا للحق، وهذا إنما حصل بأن ذكر هذين اللفظين على سبيل التنكير، ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة الجليلة، فسبحان من له تحت كل كلمة من كلمات هذا الكتاب سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولوا الألباب.

[و] الفتنة هي الامتحان، وإنما قلنا: إن الفتنة أكبر من القتل لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا، وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة، فصح أن الفتنة أكبر من القتل فضلا عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي.

ومعنى: {لا يزالون} أي يدومون على ذلك الفعل لأن الزوال يفيد النفي فإذا أدخلت عليه: ما، كان ذلك نفيا للنفي فيكون دليلا على الثبوت الدائم.

[و] لما بين تعالى أن غرضهم من تلك المقاتلة هو أن يرتد المسلمون عن دينهم، ذكر بعده وعيدا شديدا على الردة، فقال: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} واستوجب العذاب الدائم في النار.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما أخبرهم سبحانه وتعالى بإيجاب القتال عليهم مرسلاً في جميع الأوقات وكان قد أمرهم فيما مضى بقتلهم حيث ثقفوهم ثم قيد عليهم في القتال في المسجد الحرام كان بحيث يسأل هنا: هل الأمر في الحرم والحرام كما مضى أم لا؟ وكان المشركون قد نسبوهم في سرية عبد الله بن جحش التي قتلوا فيها من المشركين عمرو بن الحضرمي إلى التعدي بالقتال في الشهر الحرام واشتد تعييرهم لهم به فكان موضع السؤال: هل سألوا عما عيرهم به الكفار من ذلك؟

فقال مخبراً عن سؤالهم مبينا لحالهم: {يسئلونك} أي أهل الإسلام لا سيما أهل سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنهم {عن الشهر الحرام} فلم يعين الشهر وهو رجب ليكون أعم، وسميت الحرم لتعظيم حرمتها حتى حرموا القتال فيها، فأبهم المراد من السؤال ليكون للنفس إليه التفات ثم بينه ببدل الاشتمال في قوله: {قتال فيه} ثم أمر بالجواب في قوله: {قل قتال فيه} أيّ قتال كان فالمسوغ العموم.

ولما كان مطلق القتال فيه في زعمهم لا يجوز حتى ولا لمستحق القتل وكان في الواقع القتال عدواناً فيه أكبر منه في غيره قال: {كبير} أي في الجملة.

ولما كان من المعلوم أن المؤمنين في غاية السعي في تسهيل سبيل الله فليسوا من الصد عنه ولا من الكفر في شيء لم يشكل أن ما بعده كلام مبتدأ هو للكفار وهو قوله: {وصد} أيّ صد كان {عن سبيل الله} الملك الذي له الأمر كله أي الذي هو دينه الموصل إليه أي إلى رضوانه، أو البيت الحرام فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج سبيل الله.

قال الحرالي: والصد صرف إلى ناحية بإعراض وتكره، والسبيل طريق الجادة السابلة عليه الظاهر لكل سالك منهجه {وكفر به} أيّ كفر كان، أي بالدين، أو بذلك الصد أي بسببه فإنه كفر إلى كفرهم، وحذف الخبر لدلالة ما بعده عليه دلالة بينة لمن أمعن النظر وهو أكبر أي من القتال في الشهر الحرام، والتقييد فيما يأتي بقوله: {عند الله} يدل على ما فهمته من أن المراد بقوله: {كبير} في زعمهم وفي الجملة لا أنه من الكبائر.

ولما كان في تقدم الإذن بالقتال في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام بشرط كما مضى كان مما يوجب السؤال عن القتال فيه في الجملة بدون ذلك الشرط أو بغيره توقعاً للإطلاق لا سيما والسرية التي كانت سبباً لنزول هذه الآية وهي سرية عبد الله بن جحش كان الكلام فيها كما رواه ابن إسحاق عن الأمرين كليهما فإنه قال: إنهم لقوا الكفار الذين قتلوا منهم وأسروا وأخذوا عيرهم في آخر يوم من رجب فهابوهم فلطفوا لهم حتى سكنوا فتشاوروا في أمرهم وقالوا: لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فترددوا ثم شجعوا أنفسهم ففعلوا ما فعلوا فعيرهم المشركون بذلك فاشتد تعييرهم لهم واشتد قلق الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لا سيما أهل السرية من ذلك ولا شك أنهم أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بكل ذلك فإخبارهم له على هذه الصورة كاف في عدة سؤالاتهم فضلاً عن دلالة ما مضى على التشوف إلى السؤال عنه لما كان ذلك قال تعالى: {والمسجد} أي ويسألونك عن المسجد

{الحرام} أي الحرم الذي هو للصلاة والعبادة بالخضوع لا لغير ذلك {قتال فيه قل قتال فيه كبير} عندكم على نحو ما مضى، ثم ابتدأ قائلاً: {وإخراج} كما ابتدأ قوله: {وصد عن سبيل الله} وقال: {أهله} أي المسجد الذي كتبه الله لهم في القدم وهم أولى الناس به {منه أكبر} أي من القتال في الشهر الحرام خطأ وبناء على الظن والقتل فيه {عند الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً فقد حذف من كل جملة ما دل عليه ما ثبت في الأخرى فهو من وادي الاحتباك، وسر ما صنع في هذا الموضع من الاحتباك أنه لما كان القتال في الشهر الحرام قد وقع من المسلمين حين هذا السؤال في سرية عبد الله بن جحش أبرز السؤال عنه والجواب،

ولما كان القتال في المسجد الحرام لم يقع بعد وسيقع من المسلمين أيضاً عام الفتح طواه وأضمره،

ولما كان الصد عن سبيل الله الذي هو البيت والكفر الواقع بسببه لم يقع وسيقع من الكفار عام الحديبية أخفى خبره وقدّره،

ولما كان الإخراج قد وقع منهم ذكر خبره وأظهره؛ فأظهر سبحانه وتعالى ما أبرزه على يد الحدثان، وأضمر ما أضمره في صدر الزمان، وصرح بما صرح به لسان الواقع، ولوح إلى ما لوح إليه صارم الفتح القاطع -والله الهادي.

ولما كان كل ما تقدم من أمر الكفار فتنة كان كأنه قيل: أكبر، لأن ذلك فتنة {والفتنة} أي بالكفر والتكفير بالصد والإخراج وسائر أنواع الأذى التي ترتكبونها بأهل الله في الحرم والأشهر الحرم {أكبر من القتل} ولو كان في الشهر الحرام لأن همه يزول وغمها يطول.

ولما كان التقدير: وقد فتنوكم وقاتلوكم وكان الله سبحانه وتعالى عالماً بأنهم إن تراخوا في قتالهم ليتركوا الكفر لم يتراخوا هم في قتالهم ليتركوا الإسلام وكان أشد الأعداء من إذا تركته لم يتركك قال تعالى عاطفاً على ما قدرته: {ولا يزالون} أي الكفار {يقاتلونكم} أي يجددون قتالكم كلما لاحت لهم فرصة.

ولما كان قتالهم إنما هو لتبديل الدين الحق بالباطل علله تعالى بقوله: {حتى} ولكنهم لما كانوا يقدرون أنه هيّن عليهم لقلة المسلمين وضعفهم تصوروه غاية لا بد من انتهائهم إليها، فدل على ذلك بالتعبير بأداة الغاية، {يردوكم} أي كافة ما بقي منكم واحد {عن دينكم} الحق، ونبه على أن {حتى} تعليلية بقوله مخوفاً من التواني عنهم فيستحكم كيدهم ملهباً للأخذ في الجد في حربهم وإن كان يشعر بأنهم لا يستطيعون: {إن استطاعوا} أي إلى ذلك سبيلاً، فأنتم أحق بأن لا تزالوا كذلك، لأنكم قاطعون بأنكم على الحق وأنكم منصورون وأنهم على الباطل وهم مخذولون؛ ولا بد وإن طال المدى لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم، ومن وكل إلى نفسه ضاع؛ فالأمر الذي بينكم وبينهم أشد من الكلام فينبغي الاستعداد له بعدته والتأهب له بأهبته فضلاً عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه إليهم الشياطين طعناً في الدين وصداً عن السبيل وشبههم التي أصَلوا عليهم دينهم ولا أصل لها،

وفي الآية إشارة إلى ما وقع من الردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فإن القتال على الدين لم ينقض إلا بعد الفروغ من أمرهم.

قال الحرالي الاستطاعة مطاوعة النفس في العمل وإعطاؤها الانقياد فيه، ثم قال: فيه إشعار بأن طائفة ترتد عن دينها وطائفة تثبت، لأن كلام الله لا يخرج في بته واشتراطه إلا لمعنى واقع لنحو ما ويوضحه تصريح الخطاب في قوله: {ومن يرتدد} إلى آخره؛ وهو من الردة ومنه الردة وهو كف بكره لما شأنه الإقبال بوفق... وكان صيغة الافتعال المؤذنة بالتكلف والعلاج إشارة إلى أن الدين لا يرجع عنه إلا بإكراه النفس لما في مفارقة الإلف من الألم؛ وإجماع القراء على الفك هنا للإشارة إلى أن الحبوط مشروط بالكفر ظاهراً باللسان وباطناً بالقلب فهو مليح بالعفو عن نطق اللسان مع طمأنينة القلب، وأشارت قراءة الإدغام في المائدة إلى أن الصبر أرفع درجة من الإجابة باللسان وإن كان القلب مطمئناً.

ولما حماهم سبحانه وتعالى بإضافة الدين إليهم بأنهم يريدون سلبهم ما اختاروه لأنفسهم لحقيته وردهم قهراً إلى ما رغبوا عنه لبطلانه خوفهم من التراخي عنهم حتى يصلوا إلى ذلك فقال: {ومن يرتدد منكم} أي يفعل ما يقصدونه من الردة {عن دينه} وعطف على الشرط قوله: {فيمت} أي فيتعقب ردته أنه يموت {وهو} أي والحال أنه {كافر}.

ولما أفرد الضمير على اللفظ نصاً على كل فرد فرد جمع لأن إخزاء الجمع إخزاء لكل فرد منهم ولا عكس، وقرنه بفاء السبب إعلاماً بأن سوء أعمالهم هو السبب في وبالهم فقال: {فأولئك} البعداء البغضاء {حبطت أعمالهم} أي بطلت معانيها وبقيت صورها؛ من حبط الجرح إذا برأ ونفي أثره.

قال الحرالي: من الحبط وهو فساد في الشيء الصالح يأتي عليه من وجه يظن به صلاحه وهو في الأعمال بمنزلة البطح في الشيء القائم الذي يقعده عن قيامه كذلك الحبط في الشيء الصالح يفسده عن وهم صلاحه {في الدنيا} بزوال ما فيها من روح الأنس بالله سبحانه وتعالى ولطيف الوصلة به وسقوط إضافتها إليهم إلا مقرونة ببيان حبوطها فقط بطل ما كان لها من الإقبال من الحق والتعظيم من الخلق {والآخرة} بإبطال ما كان يستحق عليها من الثواب بصادق الوعد. ولما كانت الردة أقبح أنواع الكفر كرر المناداة بالبعد على أهلها فقال: {وأولئك أصحاب النار} فدل بالصحبة على أنهم أحق الناس بها فهم غير منفكين منها. ولما كانوا كذلك كانوا كأنهم المختصون بها دون غيرهم لبلوغ ما لهم فيها من السفول إلى حد لا يوازيه غيره فتكون لذلك اللحظ لهم بالأيام من غيرهم فقال تقريراً للجملة التي قبلها: {هم فيها خالدون} أي مقيمون إقامة لا آخر لها، وهذا الشرط ملوح إلى ما وقع بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من الردة لأن الله سبحانه وتعالى إذا ساق شيئاً مساق الشرط اقتضى أنه سيقع شيء منه فيكون المعنى: ومن يرتد فيتب عن ردته يتب الله عليه كما وقع لأكثرهم، وكان التعبير بما قد يفيد الاختصاص إشارة إلى أن عذاب غيرهم عدم بالنسبة إلى عذابهم لأن كفرهم أفحش أنواع الكفر.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

والظاهر المتبادر أن إثبات كون القتال في الشهر الحرام كبيرا تمهيد للحجة على أن ما فعله عبد الله بن جحش وما عساه يفعله المسلمون من القتال فيه مبني على قاعدة لا ينكرها عقل، وهي وجوب ارتكاب أخف الضررين إذا لم يكن بد من أحدهما.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

... قالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال. وقالت اليهود تفاءلوا بذلك على محمد.. عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله.. عمرو: عمرت الحرب. والحضرمي: حضرت الحرب. وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب! وانطلقت الدعاية المضللة على هذا النحو بشتى الأساليب الماكرة التي تروج في البيئة العربية، وتظهر محمدا وأصحابه بمظهر المعتدي الذي يدوس مقدسات العرب، وينكر مقدساته هو كذلك عند بروز المصلحة! حتى نزلت هذه النصوص القرآنية. فقطعت كل قول. وفصلت في الموقف بالحق. فقبض الرسول [ص] الأسيرين والغنيمة.

{يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه؟ قل قتال فيه كبير}.. نزلت تقرر حرمة الشهر الحرام، وتقرر أن القتال فيه كبيرة، نعم! ولكن {وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله. والفتنة أكبر من القتل}.. إن المسلمين لم يبدؤوا القتال، ولم يبدؤوا العدوان. إنما هم المشركون. هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله، والكفر به وبالمسجد الحرام. لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله. ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون. ولقد كفروا بالمسجد الحرام. انتهكوا حرمته؛ فآذوا المسلمين فيه، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاما قبل الهجرة. وأخرجوا أهله منه، وهو الحرم الذي جعله الله آمنا، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته.. وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام.. وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل. وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام. ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات؛ الذي يتخذون منها ستارا حين يريدون، وينتهكون قداستها حين يريدون! وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يرقبون حرمة، ولا يتحرجون أمام قداسة. وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة! لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل. وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي.. وهم المعتدون ابتداء. وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء.

إن الإسلام منهج واقعي للحياة، لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية. إنه يواجه الحياة البشرية -كما هي- بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية. يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد. يواجهها بحلول عملية تكافئ واقعياتها، ولا ترفرف في خيال حالم، ورؤى مجنحة: لا تجدي على واقع الحياة شيئا هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون. لا يقيمون للمقدسات وزنا، ولا يتحرجون أمام الحرمات، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة. يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام!.. ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات، ويرفعون أصواتهم: انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام! فكيف يواجههم الإسلام؟ يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة؟ إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من السلاح، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح، ولا يتورعون عن سلاح..! كلا إن الإسلام لا يصنع هذا، لأنه يريد مواجهة الواقع، لدفعه ورفعه. يريد أن يزيل البغي والشر، وأن يقلم أظافر الباطل والضلال. ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة. ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة، وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة! إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه. ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان! ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة. ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة.. إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم، وإلى قتالهم وقتلهم، وإلى تطهير جو الحياة منهم.. هكذا جهرة وفي وضح النهار.. وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات.. حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله. هذا هو الإسلام.. صريحا واضحا قويا دامغا، لا يلف ولا يدور؛ ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور. وهذا هو القرآن يقف المسلمين على أرض صلبة، لا تتأرجح فيها أقدامهم، وهم يمضون في سبيل الله، لتطهير الأرض من الشر والفساد، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس.. هذا شر وفساد وبغي وباطل.. فلا حرمة له إذن، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات، ليضرب من ورائها الحرمات! وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة؛ في سلام مع ضمائرهم، وفي سلام من الله..

ويمضي السياق بعد بيان هذه الحقيقة، وتمكين هذه القاعدة، وإقرار قلوب المسلمين وأقدامهم.. يمضي فيكشف لهم عن عمق الشر في نفوس أعدائهم، وأصالة العدوان في نيتهم وخطتهم: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}.. وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر؛ وعلى فتنة المسلمين عن دينهم؛ بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم. وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل.. إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين؛ ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم. فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد. إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج، ومن منهج قويم، ومن نظام سليم.. إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد. ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون. ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه، ويردوهم كفارا في صورة من صور الكفر الكثيرة. ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين، وتتبع هذا المنهج، وتعيش بهذا النظام. وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته، ولكن الهدف يظل ثابتا.. أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا. وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحا غيره، وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها..

والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى الخطر؛ ويدعوها إلى الصبر على الكيد، والصبر على الحرب، وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة؛ والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.. والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثا فانتفخت ثم نفقت.. والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل، فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي.. يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره، وهلاكه في النهاية وبواره.. مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ ّ! ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه؛ تحت مطارق الأذى والفتنة -مهما بلغت- هذا مصيره الذي قرره الله له.. حبوط العمل في الدنيا والآخرة. ثم ملازمة العذاب في النار خلودا. إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه، لا يمكن أن يرتد عنه ارتدادا حقيقيا أبدا. إلا إذا فسد فسادا لا صلاح له. وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة. فالله رحيم. رخص للمسلم -حين يتجاوز العذاب طاقته- أن يقي نفسه بالتظاهر، مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان. ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي، وفي الارتداد الحقيقي، بحيث يموت وهو كافر.. والعياذ بالله.. وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان.. ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه، ويرتد عن إيمانه وإسلامه، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه.. وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله. والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به، ويصبرون على الأذى في سبيله. فهو معوضهم خيرا: إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

من أهم تفاصيل الأحوال في القتال الذي كتب على المسلمين في الآية قبل هذه أن يعلموا ما إذا صادف القتال بينهم وبين المشركين الأشهرَ الحرمَ إذ كان محجراً في العرب من عهد قديم، ولم يذكر الإسلام إبطال ذلك الحجر؛ لأنه من المصالح قال تعالى {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام} [المائدة: 97] فكان الحال يبعث على السؤال عن استمرار حرمة الشهر الحرام في نظر الإسلام. والتعريف في (الشهر الحرام) تعريف الجنس، ولذلك أحسن إبدال النكرة منه في قوله: {قتال فيه}، وهو بدل اشتمال فيجوز فيه إبدال النكرة من المعرفة، بخلاف بدل البعض على أن وصف النكرة هنا بقوله (فيه) يجعلها في قوة المعرفة. فالمراد بيان أيِّ شهر كان من الأشهر الحُرم وأيِّ قتال، فإن كان السؤال إنكارياً من المشركين فكون المراد جنس هذه الأشهر ظاهر، وإن كان استفساراً من المسلمين فكذلك، ومجرد كون الواقعة التي تسبب عليها السؤال وقعت في شهر معين لا يقتضي تخصيص السؤال بذلك الشهر، إذ لا يخطر ببال السائل بل المقصود السؤال عن دوام هذا الحكم المتقرر عندهم قبل الإسلام وهْوَ لا يختص بشهر دون شهر. وإنما اختير طريق الإبدال هنا وكان مقتضى الظاهر أن يقال: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام لأَجل الاهتمام بالشهر الحرام تنبيهاً على أن السؤال لأجل الشهر أيقع فيه قتال؟ لاَ لأَجل القتال هل يقع في الشهر وهما متآيلان، لكن التقديم لقضاء حق الاهتمام، وهذه نكتة لإبدال عطفِ البيان تنفع في مواقع كثيرة، على أن في طريق بدل الاشتمال تشويقاً بارتكاب الإجمال ثم التفصيل. وتنكير (قتال) مراد به العموم، إذ ليس المسؤول عنه قتالاً معيناً ولا في شهر معين، بل المراد هذا الجنس في هذا الجنس.

و {فيه} ظرف صفة لقتال مخصصة له. وقوله: {قل قتال فيه كبير} إظهار لفظ القتال في مقام الإضمار ليكون الجواب صريحاً حتى لا يتوهم أن الشهر الحرام هو الكبير، وليكون الجواب على طبق السؤال في اللفظ، وإنما لم يعرف لفظ القتال ثانياً باللام مع تقدم ذكره في السؤال، لأنه قد استغنى عن تعريفه باتحاد الوصفين في لفظ السؤال ولفظ الجواب وهو ظرف {فيه}، إذ ليس المقصود من تعريف النكرة باللام إذا أعيد ذكرها إلاّ التنصيصَ على أن المراد بها تلك الأولى لا غيرها، وقد حصل ذلك بالوصف المتحد،

قال التفتازاني: فالمسؤول عنه هو المجاب عنه وليس غيره كما توهم بناء على أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، لأن هذا ليس بضربة لازب يريد أن ذلك يتبع القرائن. والجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين، واعتراف وإبكات إن كان السؤال إنكاراً من المشركين، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيثَوِّروا بذلك العرب ومن في قلبه مرض.

والكبير في الأصل هو عظيم الجثة من نوعه، وهو مجاز في القوى والكثير والمسن والفاحش، وهو استعارة مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس، شبه القوي في نوعه بعظيم الجثة في الأفراد، لأنه مألوف في أنه قوى، وهو هنا بمعنى العظيم في المآثم بقرينة المقام، مثل تسمية الذنب كبيرة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم « وما يعذَّبان في كبير وإنه لكبير» الحديثَ.

والمعنى أن القتال في الأشهر الحرم إثم كبير، فالنكرة هنا للعموم بقرينة المقام، إذ لا خصوصية لقتال قوم دون آخرين، ولا لقتل في شهر دون غيره، لا سيما ومطابقة الجواب للسؤال قد أكدت العموم، لأن المسؤول عنه حُكْم هذا الجنس وهو القتال في هذا الجنس وهو الشهر الحرام من غير تفصيل، فإن أجدر أفراد القتال بأن يكون مباحاً هو قتالنا المشركين ومع ذلك فهو المسؤول عنه وهو الذي وقع التحرج منه، أما تقاتل المسلمين فلا يختص إثمه بوقوعه في الشهر الحرام، وأما قتال الأمم الآخرين فلا يخطر بالبال حينئذٍ.

والآية دليل على تحريم القتال في الأشهر الحُرم وتقرير لما لتلك الأشهر من الحرمة التي جعلها الله لها منذ زمن قديم، لعله من عهد إبراهيم عليه السلام فإن حرمة الزمان تقتضي ترك الإثم في مُدَّته. وهذه الأشهر هي زمن للحج ومقدماته وخواتمه وللعمرة كذلك فلو لم يحرم القتال في خلالها لتعطل الحج والعمرة، ولذلك أقرها الإسلام أيام كان في بلاد العرب مشركون لفائدة المسلمين وفائدة الحج، قال تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام} [المائدة: 97] الآية. فإن المشركين استعظموا فعلاً واستنكروه وهم يأتون ما هو أفظع منه، ذلك أن تحريم القتال في الشهر الحرام ليس لذات الأشهر، لأن الزمان لا حرمة له في ذاته وإنما حرمته تحصل بجعل الله إياه ذا حرمة، فحرمته تبع لحوادث تحصل فيه، وحرمة الأشهر الحرم لمراعاة تأمين سبيل الحج والعمرة ومقدماتهما ولواحقهما فيها، فلا جرم أن الذين استعظموا حصول القتل في الشهر الحرام واستباحوا حرمات ذاتيَّة بصد المسلمين، وكفروا بالله الذي جعل الكعبة حراماً وحَرَّم لأجل حجها الأشهرَ الحرم، وأخرجوا أهل الحرم منه، وآذوهم، لأحْرِياء بالتحميق والمذمة، لأن هاته الأشياء المذكورة كلها محرمة لذاتها لا تبعاً لغيرها.

والتفضيل في قوله: {أكبر}: تفضيل في الإثم أي كل واحد من تلك المذكورات أعظم إثماً. والمراد بالصد عن سبيل الله: منع من يريد الإسلام منه ونظيره قوله تعالى: {توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به} [الأعراف: 86].

وقوله {به} الباء فيه لتعدية {كُفْر} وليست للظرفية والضمير المجرور بالباء عائد إلى اسم الجلالة.

و {المسجد الحرام} معطوف على (سبيل الله) فهو متعلق ب {صد} تبعاً لتعلق متبوعه به. وعلم أن مقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يقال: وصدٌّ عن سبيل الله وكفر به وصد عن المسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله، فخولف مقتضى هذا النظم إلى الصورة التي جاءت الآية عليها، بأن قُدم قوله {وكفر به} فجعل معطوفاً على {صد} قبل أن يستوفَى صد ما تعلق به وهو {والمسجِد الحرام} فإنه معطوف على {سبيل الله} المتعلق ب {صد} إذ المعطوف على المتعلَّق متعلِّقٌ فهو أولى بالتقديم من المعطوف على الاسم المتعلَّق به، لأن المعطوف على المتعلَّق به أجنبي عن المعطوف عليه، وأما المعطوف على المتعلِّق فهو من صلة المعطوف عليه، والداعي إلى هذا الترتيب هو أن يكون نظم الكلام على أسلوب أدق من مقتضى الظاهر وهو الاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهمِّ فالأهمِّ، فإن الصد عن سبيل الإسلام يجمع مظالم كثيرة؛ لأنه اعتداء على الناس في ما يختارونه لأنفسهم، وجحد لرسالة رسول الله، والباعث عليه انتصارهم لأصنامهم {أجعل الآلهة إلهاً وَاحداً إنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجاب} [ص: 5] فليس الكفر بالله إلا ركناً من أركان الصد عن الإسلام فلذلك قدم الصد عن سبيل الله ثم ثنَّى بالكفر بالله ليفاد بدلالة المطابقة بعد أن دَلَّ عليه الصدُّ عن سبيل الله بدلالة التضمن، ثم عد عليهم الصد عن المسجد الحرام ثم إخراج أهله منه. ولا يصح أن يكون « والمسجد الحرام» عطفاً على الضمير في قوله (به) لأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام فإن الكفر يتعدى إلى ما يُعبد ومَا هو دين وما يتضمن ديناً، على أنهم يعظمون المسجد الحرام ولا يعتقدون فيه ما يسوغ أن يتكلف بإطلاق لفظ الكفر عليه على وجه المجاز.

والأهل: الفريق الذين لهم مزيد اختصاص بما يضاف إليه اللفظ، فمنه أهل الرجل عشيرته، وأهل البلد المستوطنون به، وأهل الكرم المتصفون به، أراد به هنا المستوطنين بمكة وهم المسلمون، وفيه إيماء إلى أنهم أحق بالمسجد الحرام، لأنهم الذين اتبعوا ملة من بنى المسجد الحرام قال تعالى: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} [الأنفال: 34]. وإذ قد كان إخراج أهل الحرم منه أكبر من القتل؛ كان ما ذكر قبله من الصد عن الدِّين والكفر بالله والصد عن المسجد الحرام أكبر بدلالة الفحوى، لأن تلك أعظم جرماً من جريمة إخراج المسلمين من مكة.

والفتنة: التشغيب والإيقاع في الحيرة واضطراب العيش فهي اسم شامل لما يعظم من الأذى الداخل على أحد أو جماعة من غيرهم، وأريد بها هنا ما لقيه المسلمون من المشركين من المصائب في الدين بالتعرض لهم بالأذى بالقول والفعل، ومنعهم من إظهار عبادتهم، وقطيعتهم في المعاملة، والسخرية بهم والضرب المدمي والتمالئ على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم والإخراج من مكة ومنع من أموالهم ونسائهم وصدهم عن البيت، ولا يخفى أن مجموع ذلك أكبر من قتل المسلمين واحداً من رجال المشركين وهو عَمرو الحضرمي وأسِرهم رجلين منهم.

و {أكبر} أي أشد كِبَراً أي قوة في المحارم، أي أكبر من القتل الذي هو في الشهر الحرام كبير. جملة معترضة دعا إلى الاعتراض بها مناسبة قوله: {والفتنة أكبر من القتل} لما تضمنته من صدور الفتنة من المشركين على المسلمين وما تتضمنه الفتنة من المقاتلة التي تداولَها المسلمون والمشركون. إذ القتال يشتمل على أنواع الأذى وليس القتل إلاّ بعض أحوال القتال ألا ترى إلى قوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج: 39] فسمى فعل الكفار مع المسلمين مقاتلة وسمى المسلمين مقاتَلين بفتح التاء، وفيه إعلام بأن المشركين مضمرون غزو المسلمين ومستعدون له وإنما تأخروا عنه بعد الهجرة، لأنهم كانوا يقاسون آثار سني جدب فقوله

{لا يزالون} وإن أشعر أن قتالهم موجود فالمراد به أسباب القتال، وهو الأذى وإضمار القتال كذلك، وأنّهم إن شرعوا فيه لا ينقطعون عنه، على أن صريح لا يزال الدلالة على أن هذا يدوم في المستقبل، و {حتى} للغاية وهي هنا غاية تعليلية.

وقوله: {إن استطاعوا} تعريض بأنهم لا يستطيعون رد المسلمين عن دينهم، فموقع هذا الشرط موقع الاحتراس مما قد تُوهِمُه الغاية في قوله: {حتى يردوكم عن دينكم} ولهذا جاء الشرط بحرف (إن) المشعر بأن شرطه مرجو عدم وقوعه.

والرد: الصرف عن شيء والإرجاع إلى ما كان قبل ذلك، فهو يتعدى إلى المفعول بنفسه وإلى ما زاد على المفعول بإلى وعَن، وقد حذف هنا أحد المتعلِّقين وهو المتعلق بواسطة إلى لظهور أنهم يقاتلونهم ليردوهم عن الإسلام إلى الشرك الذي كانوا عليه، لأن أهل كل دين إذا اعتقدوا صحة دينهم حرصوا على إدخال الناس فيه قال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} [البقرة: 120]، وقال: {ودوا لو تكفرون كما كفروا} [النساء: 89].

وتعليق الشرط ب"إن" للدلالة على أن استطاعتهم ذلك ولو في آحاد المسلمين أمر مستبعدُ الحصول لقوة إيمان المسلمين فتكون محاولة المشركين ردَّ واحد من المسلمين عناء باطلاً.

وجيء بصيغة {يرتدد} وهي صيغة مطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قُدر حصوله لا يكون إلاّ عن محاولة من المشركين فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلاّ بعناء، ولم يلاحظ المفعول الثاني هنا؛ إذ لا اعتبار بالدين المرجوع إليه وإنما نيط الحكم بالارتداد عن الإسلام إلى أيِّ دين ومن يومئذٍ صار اسم الردة لقباً شرعياً على الخروج من دين الإسلام وإن لم يكن في هذا الخروج رجوع إلى دين كان عليه هذا الخارج.

وحَبَطُ الأعمال: زوال آثارها المجعولة مرتبة عليها شرعاً، فيشمل آثارها في الدنيا والثواب في الآخرة وهو سر قوله: {في الدنيا والآخرة}.

والمراد بالأعمال: الأعمال التي يتقربون بها إلى الله تعالى ويرجون ثوابها بقرينة أصل المادة ومقام التحذير؛ لأنه لو بطلت الأعمال المذمومة لصار الكلام تحريضاً، وما ذكرت الأعمال في القرآن مع حبطت إلاّ غير مقيدة بالصالحات اكتفاء بالقرينة.

وقوله: {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} عطف على جملة الجزاء على الكفر، إذ الأمور بخواتمها، فقد ترتب على الكفر أمران: بطلان فضل الأعمال السالفة، والعقوبة بالخلود في النار، ولكون الخلود عقوبة أخرى أعيد اسم الإشارة في قوله: {وأولئك أصحاب النار}.

وفي الإتيان باسم الإشارة في الموضعين التنبيه على أنهم أحرياء بما ذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة. إنما ذكر الله الموافاة شرطاً ههنا، لأنه عَلَّق الخلود في النار عليها فمن أوفى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية، ومن أَشرك حبط عمله بالآية الأخرى فهما آيتان مفيدتان لمعنيين وحكمين متغايرين اهـ يريد أن بين الشرطين والجوابين هنا توزيعاً فقوله: {فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} جواب لقوله: {ومن يرتدد منكم عن دينه}. وقوله: {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} جواب لقوله: {فيمت وهو كافر}، ولعل في إعادة {وأولئك} إيذاناً بأنه جواب ثان،

وفي إطلاق الآي الأخرى عن التقييد بالموت على الكفر قرينة على قصد هذا المعنى من هذا القيد في هذه الآية.

فإن قلت: ما السر في اقتران هذين الشرطين في هذه الآية مع خلو بقية نظائرها عن ثاني الشرطين، قلت: تلك الآي الأخر جاءت لتهويل أمر الشرك على فرض وقوعه من غير معين كما في آية {ومن يكفر بالإيمان} [المائدة: 5] أو وقوعه ممن يستحيل وقوعه منه كما في آية: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام: 88] وآية {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] فاقتصر فيها على ما ينشأ عن الشرك بعد الإيمان من حبْط الأعمال، ومن الخسارة بإجمال، أما هذه الآية فقد وردت عقب ذكر محاولة المشركين ومعالجتهم ارتدادَ المسلمين المخاطبين بالآية، فكان فرض وقوع الشرك والارتداد منهم أقرب، لمحاولة المشركين ذلك بقتال المسلمين، فذكر فيها زيادة تهويل وهو الخلود في النار. وقد أشار العطف في قوله: {فيمت} بالفاء المفيدة للتعقيب إلى أن الموت يعقب الارتداد وقد علم كل أحد أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد فيعلم السامع حينئذٍ أن المرتد يعاقب بالموت عقوبة شرعية، فتكون الآية بها دليلاً على وجوب قتل المرتد.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

المؤمنون الذين كرهوا القتال في ذاته كرهوه أيضا لملابساته، فقد يكون في زمان له حرمة وتقديس،أوفي مكان مقدس قد حرم فيه القتال جاهلية وإسلاما، فتتضاعف الكراهة، إذ تتجمع الكراهة الذاتية، والكراهة الإضافية لزمان القتال أو مكانه، فبين الله سبحانه ما يطمئن قلوب المؤمنين، وإن من يرد الاعتداء بر لا فاجر، ولو اضطر إلى القتال في الشهر الحرام أو البيت الحرام.

ولذا قال سبحانه: {يسألونك عن الشهر الحرام}. والمعنى: أن السؤال عن القتال في الشهر الحرام، لا عن ذات الشهر، وإنما ابتدأ بذكر الشهر لأنه موضع القداسة في نفوسهم، ولأنه أساس التحريم، فالقتال في ذاته لم يعد موضع تفكير، بعد أن اطمأنت قلوبهم إلى أمر ربهم، وأنه سبيل الدفاع عن نفوسهم، إنما موضع السؤال هو القتال في تلك الأزمنة، فابتدئ بذكرها، لأنها الباعث على السؤال: وهو الذي سارع إلى الخاطر، فكان الابتداء به مجاوبة للمسارعة الفكرية بالسبق البياني.

أما الصد عن سبيل الله فمعناه المنع من سبيل الله، أي السنن المستقيم الذي سنه الله سبحانه وتعالى لخلقه ليسيروا على الفضيلة متآخين متحابين. وابتدأ الله بيان صدهم عن سبيله للإشارة إلى أنهم يعاندون الحق في ذاته ويمنعون أن تقام العلاقات بين الناس على أسس من الفضيلة.

والكفر بالله يشمل الشرك، ويشمل كفر النعم التي غمرهم الله بها وأسبغها عليهم، سواء أكانت مادية ببسط الرزق، أم كانت معنوية بآياته البينات، وبعث الرسالة فيهم تهديهم وترشدهم، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم [و كذب به قومك وهو الحق...66] (الأنعام).

و الكفر بالمسجد الحرام عدم شكر الله على نعمته إذ جعلهم في حرم آمن والناس يتخطفون من حولهم: {أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم...67} (العنكبوت)، ومن الكفر أنه بيت الله ومع ذلك يقيمون عليه الأصنام وهي الأحجار التي يشركونها بالله في العبادة، ومن الكفر به أن يمنعوا الناس من القيام بحقه في الزيارة والطواف في الحج والاعتمار، ومن الكفر أن يؤذوا الناس حوله ويقتلوهم ويفتنوهم عن دينهم في بطحاء مكة، وهكذا لم يقيموا للبيت أي حرمة ويتمسحون بالشهر الحرام والقتال فيه، فيعيبون ناسا اضطروا إلى القتال غير قاصدين، وقد ارتكبوا هم معهم المنكر والزور.

و إخراج أهل المسجد منه، فإن إخراج الآمنين من مستقرهم جريمة كبيرة، وإخراج الساكنين حول البيت أكبر جرما وأعظم إثما، لأنه اعتداء عليهم، اعتداء على البيت واعتداء على الأمن الذي بقي لهم من شريعة إبراهيم عليه السلام، إذ قال: {رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام 35} (إبراهيم) فهم تعدد اعتداؤهم عليه: فأزالوا الأمن الذي أوجبه الله، ووضعوا حوله الأصنام، وأخرجوا أهله منه.

هذه الأمور الأربعة كلها جرائم متتالية، وكل واحدة منها جريمة بذاتها، ولكنها في مجموعها تساوي جريمة واحدة قائمة بذاتها وهي الفتنة في دين الله، ولذلك خصها الله سبحانه وتعالى بالذكر كأنها وحدها تساوي الكل أو تزيد وهي مبعث أكثرها، فقال سبحانه: {و الفتنة أكبر من القتل}. و الفتنة فوق ذلك محاربة الفضيلة، ومحاربة قيام الجماعة على أسس من الخير فهي تؤدي إلى موت الجماعة، لأن حياة الأمم بروابط الفضيلة بين أحدها وكيف يكون قتل واحد أو اثنين أو عشرة مساويا لقتل أمة، وذهاب وحدتها وتحكم الأشرار وسيادة الظلم وانتشار الفوضى؟! وإن الحرية الدينية هي معنى الإنسانية، فقتلها بالفتنة قتل لأقدس المعاني الإنسانية.

و إن أولئك الذين فتنوا المؤمنين الأولين وهم مستضعفون، ولا يزالون على نيتهم، وقد صار الإسلام في عزة، ولذا قال سبحانه: {و لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} فهؤلاء المشركون أعداؤكم لا تأخذكم بهم هوادة، ولا تجعلوا لهم عندكم إرادة، لأنهم أعداء دينكم، فتنوكم فيه في الماضي وأخرجوكم من دياركم، وما زالوا على هذه النية في الحاضر، لا يودون لكم إلا خبالا، وهم دائما في قتال معكم، فالتعبير بالفعل الدال على الاستمرار مع التعبير بالمضارع يدل على الدوام والبقاء، فهم مستمرون على القتال معكم، وأنتم معهم في قتال دائم، فإن قاتلتموهم في الشهر الحرام، فأنتم لم تبتدئوهم، بل هم الطغاة المبتدئون، وإن تركتموهم لن يتركوكم، وإن تركتموهم زمنا فقد مكنتموهم من فرصة ينتهزونها، وسهلتم لهم رغبتهم التي يضعونها نصب أعينهم وهي أن يردوكم عن دينكم.

و قد بين الله سبحانه أيضا غايتهم من القتال، وأمنيتهم التي يتمنونها، وهي أن يردوكم عن دينكم الذي ارتضيتم، لأنهم رأوا أن هذا الدين يهدم طغيانهم، ويأتي بنيانهم من قواعده، ولأنه دين الفضيلة وهم أعداؤها، ودين المساواة وهم لا يحبونها، ودين العدل وهم لا يرتضونه، ودين النور وهم يطمسونه. و لكن الله سبحانه وتعالى لا يمكنهم وهو ناصركم، [إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده...160] (آل عمران).و لقد عقب الله سبحانه وتعالى الجملة الكريمة بقوله: [إن استطاعوا]. وكأنه قيل لهم وأنى لهم أن يستطيعوا ذلك، والله محيط بهم، ولهذا الدين رب يحميه، ولن يذل قوم الله ناصرهم!!

بيد أنهم [إن] عجزوا عن ذلك بالنسبة للجماعة فلن ترد تلك العصابة المطهرة عن دينها، [ف] قد يميل معهم من يكون في قلبه مرض، أو فيه ضعف، أو لم يكن قوي الإيمان بحيث يصبر على المحن، وتصقله التجارب، وتضيء قلبه الشدائد. و لقد حذر الله سبحانه وتعالى أولئك الضعفاء، فقال تعالت كلماته: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} بين الله سبحانه وتعالى في تلك العبارات السامية حال من يرتد، ويستمر على ردته إلى أن يموت، ولقد أشار في قوله تعالى: {منكم} إلى أنه لا يتصور أن تتحقق بغية المشركين، وهي أن يردوكم أجمعين، بل أقصى ما يصلون أن ينالوا ضعيف الإيمان، فيعيدوه إليهم ولا خير فيهم ولا خير فيه، والنار أولى بهم جميعا.