التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

قوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ) .

جاء في سبب نزول هذه الآية أن الرسول ( ص ) بعث في رجب عبد الله بن جحش الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين ، وكتب لعبد الله بن جحش كتابا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه ، ففعل عبد الله بن جحش ما أمره به ، فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا ، وتعلّم لنا من أخبارهم " فلما قرأ الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ثم أخبر أصحابه بذلك ، وبأنه لا يستكره أحدا منهم ، وأنه ناهض لوجهه بمن أطاعه ، وأنه إن لم يطعه أحد مضى وحده ، فمن أحب الشهادة فلينهض ومن كره الموت فليرجع . فقالوا : كلنا نرغب فيه وما منا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله ( ص ) ، ونهضوا فسلك على الحجاز ، وشرد لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان جمل كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه ، ونفذ عبد الله بن جحش مع سائرهم لوجهه حتى نزل بنخلة ، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان ، والحكم بن كيسان . فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام فإن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام ، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرام ثم أنفقوا على لقائهم فقتلوا عمرو ابن الحضرمي ، وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، ثم قدموا بالعير والأسيرين . فأنكر رسول الله ( ص ) قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فسقط في أيدي القوم ، فأنزل الله عز وجل ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) .

وهذه إحدى الروايات التي ذكرت في سبب نزول الآية ، وهي في مجموعها تبيين أن نفرا من المسلمين بعثهم النبي ( ص ) لرصد قريش فقتلوا ابن الحضرمي ثم عادوا ومعهم أسيران والعير ، وكان ذلك في أول رجب أحد الأشهر الحرم التي لا يباح فيها القتال . وقد عيّرت قريش المسلمين في ذلك بقولها : إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب . فرد الله مقالتهم فيما أنزله من هذه الآية . وهو أن القتال في الشهر الحرام غير مباح ، ذلك صحيح ، لكن الذي اقترفتموه أنتم أيها المشركون أكبر وأشد من القتل في الشهر الحرام ، وهو أنكم كفرتم بالله ، وصددتم عن دينه ، وحاربتم نبيه وأصحابه ، وكفرتم بالمسجد الحرام ، وصددتم عنه المؤمنين وهم أهله ، وأخرجتموهم منه ، وفتنتم المسلمين في دينهم حين آذيتموهم وعذبتموهم{[293]} .

وقوله : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) ( قتال ) بدل من الشهر ، وهو بدل اشتمال ؛ لأنهم سؤالهم شمل الشهير والقتال . والمعنى أن المشركين يسألونك يا محمد مستنكرين للقتل الذي في الشهر الحرام .

وقوله : ( قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ) أي قل لهم يا محمد : لئن كان القتال في الشهر الحرام مستنكرا ومحرما فإن ما فعلتموه أنتم من صد عن الإسلام وكفر بالله والمسجد الحرام وإخراج المؤمنين من ديارهم وهو الحرم ، لهو أشد نكرا وتحريما . فقبل أن تعيروا المسلمين بهذه المخالفة فاذكروا أنتم ما صنعتموه من مخالفات هي أشد وأعظم . فعيروا أنفسكم قبل أن تعيروا غيركم .

قوله : ( والفتنة أكبر من القتل ) الفتنة هي حرف المسلم عن دينه عن طريق التعذيب وغيره . المعنى أن تعذيبكم وتنكيلكم بالمسلمين لحرفهم عن دينهم وصرفهم إلى ملة الكفر ، لهو أعظم جرما مما عمله المسلمون من القتل في الشهر الحرام .

قوله : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) وفوق جرائم المشركين في الصد عن دين الله والكفر به والمسجد الحرام وإخراج المؤمنين منه ظلما وعدوانا ، فإنهم لا يزالون مصممين وماضين في حربكم وقتلكم ليردوكم عن الإسلام إن استطاعوا . ومن المعلوم أن الارتداد عن ملة الإسلام إلى ملل الكفر جريمة شنيعة بل هو كبرى الجرائم التي يتردى فيها التعساء في هذه الحياة ، فإن الذي يبدل دين الإسلام ليدخل في الكفر ثم يظل على حاله من الارتداد إلى أن يموت كافرا قد باء الخسران وحبوط الأعمال في الدنيا والآخرة . وحبوط الأعمال أي فسادها أو بطلانها ، ومنه الحبط وهو مرض يصيب الدواب والأنعام في بطونها ؛ لكثرة ما تأكله من الكلأ مما يؤدي إلى انتفاخ أجوافها واحتمال موتها{[294]} . وينسحب مثل هذا المعنى على الأعمال الصالحة إذا أتى عليها الحبوط ، فإنه يفسدها ويجعلها هدرا بغير قيمة أو اعتبار ، وذلك في الدنيا والآخرة . أما حبوطها في الدنيا فهو أن يُضرب عن ذكرها صفحا ، فتصبح كأنها لم تكن ، فلا يبقى لها في أذهان الناس وذكرياتهم أي تقدير أو حساب . ولا يكون للمرتد بعد موته وحبوط عمله من ثناء عليه أو إحساس بتذكره وإطرائه طيلة الحياة الدنيا ، ليكون بذلك نسيا منسيا . وأما حبوطها في الآخرة فهو فسادها وزواها البتة حتى إذا جاء المرتد يوم القيامة لم يجد من أعماله الصالحة شيئا .

وثمة أحكام للمرتد نعرض لبعضها في هذا الصدد ، وأولها الاستتابة . فقد ذهب فريق من العلماء إلى أن المرتد عن الإسلام يستتاب ، فإن تاب صين دمه وإذا لم يتب قتل .

وفي حجم المدة التي يتاح فيها للمرتد أن يتوب ، اختلفوا ، فقيل : يستتاب مدة ساعة من نهار ، وقيل : يستتاب شهرا ، وقيل كذلك : يستتاب أياما ثلاثة وهو قول الإمام مالك . وقال الحسن البصري : يستتاب مائة مرة . وللشافعي في أحد قوليه أن المرتد يقتل في الحال ودون استتابة .

وذكر عن أبي حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه ، إلا أن يطلب التأجيل ، فإن طلب ذلك أمهل أياما ثلاثة . مع أن المشهور في المذهب الحنفي أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب .

أما الذي يبدل ملة الكفر بأخرى كالذي ينتقل من الكفر إلى الكفر ، فلا شان لنا به ؛ لأنه انتقل إلى ما لو كان عليه في الأصل لترك وحاله . وذلك الذي عليه جمهور الفقهاء . أما الإمام الشافعي فقد ذكر عنه أنه يقتل مستندا في ذلك إلى العموم من حديث النبي ( ص ) " من بدل دينه فاقتلوه " وهو في لم يخص مسلما أو كافرا . وفي تقديرنا أن الأول أرجح ؛ إذ لا صحة لما استدل به الإمام الشافعي من الحديث المذكور على القتل ، فإن أصدق تأويل للحديث أنه ينطبق على من بدّل دينه الإسلام بدين آخر .

والآن ما حكم المرتد إذا رجع إلى الإسلام ، فهل يحبط عمله السابق ؟ فقد قال الإمام الشافعي : إن الذي يرتد ثم يعود إلى الإسلام لم يحبط عمله ، وعليه فإن حجه وصيامه وصلواته وسائر أعماله باق بغير حبوط ، وهو بعد عوده إلى الإسلام لا يبقى في ذمته فريضة بحج أو صيام أو غيره ، أما الذي يموت وهو باق على حاله من الردة فإن أعماله كلها قد أتى عليها الحبوط . وذهب مالك إلى أن المرتد يحبط عمله بمجرد ارتداده . وبناء على ذلك فإن المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم فإنه يلزمه الحج من جديد . وقال الشافعي : ليس عليه إعادة للحج من جديد ، فإن حجه الأول باق{[295]} .


[293]:- أسباب النزول للنيسابوري ص 42 وتفسير الطبري جـ 2 ص 202 وتفسير ابن كثير جـ 1 ص 252.
[294]:- مختار الصحاح ص 120.
[295]:- تفسير القرطبي جـ 2 ص 47 والمغني جـ 8 ص 124 والأنوار للأردبيلي جـ 2 ص 481 والأحكام السلطانية للماوردي ص 55 والمهذب جـ 2 ص 222 وأسهل المدارك جـ 3 ص 160 والهداية جـ 2 ص 164.