الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

وقوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام . . . } [ البقرة :217 ] .

نزلَتْ في قصَّة عمرو بن الحَضْرَمِيِّ ، وذلك أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً علَيْها عبد اللَّه بن جَحْشٍ الأسَدِيُّ مَقْدَمَهُ من بَدْر الأولى ، فلقوا عمرو بن الحَضْرَمِيِّ ، ومعه عثمانُ بنُ عبد اللَّهِ بْنِ المُغِيرَةِ ، وأخوه نَوْفَلٌ ، المخزوميَّان ، والحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ في آخر يومٍ من رَجَبٍ ، على ما قاله ابْنُ إِسْحَاق ، وقالوا : إِن تركْنَاهم اليَوْمَ ، دخَلُوا الحَرَم ، فأزمعوا قتالَهُم ، فرمى واقدُ بْنُ عبدِ اللَّهِ عمْرَو بْنَ الحَضْرَمِيِّ بسهْمٍ فقتله ، وأَسَرَ عثمانَ بْنَ عبدِ اللَّهِ ، والحَكَمَ ، وفَرَّ نوفَلٌ ، فأعجزهم ، واستسهل المسْلمون هذا في الشَّهْر الحرام ، خوف فوتهم ، فقالَتْ قريشٌ : محمَّد قد استحلَّ الأشهر الحُرُم ، وعَيَّروا بذلك ، وتوقَّف النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقَالَ : ( مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ ) ، فنزلَتْ هذه الآية ، و{ قِتَالٍ } بدلُ اشتمالٍ عند سيبوَيْه .

وقال الفَرَّاء : هو مخفوضٌ بتقدير ( عَنْ ) وقرئ بِهِ ، والشهْرُ في الآيةِ : اسمُ الجنسِ ، وكانتِ العربُ قد جعل اللَّه لها الشهْرَ الحرامَ قِوَاماً تعتدلُ عنده ، فكانت لا تسفكُ دماً ، ولا تغيِّر في الأشهر الحرم ، وهي ذُو القَعْدة ، وذو الحجَّة ، والمُحَرَّم ، ورَجَبٌ ، وروى جابر بن عبد اللَّه ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَغْزُو فِيهَا إِلاَّ أَنْ يغزى ، فذلكَ قولُهُ تعالى : { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ } مبتدأٌ مقطوعٌ ممَّا قبله ، والخبرُ ( أَكْبَرُ ) ، ومعنى الآيةِ ، على قول الجمهورِ : إِنكم يَا كُفَّار قُرَيْشٍ تَسْتَعْظِمُون علَيْنا القتالَ في الشَّهْرِ الحَرَام ، وما تفْعَلُون أنْتُمْ من الصَّدِّ عن سبيلِ اللَّهِ لِمَنْ أراد الإِسلام ، وكُفْرِكم بِاللَّه ، وإِخراجِكُم أهْلَ المسْجد عنْه ، كما فعلتم برَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ ، أَكْبَرُ جُرْماً عند اللَّه ،

قال الزُّهْرِيُّ ومجاهدٌ وغيرهما : قوله تعالى : { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } منسوخٌ .

( ص ) و{ سبيل اللَّه } دينُهُ ، و{ المسجد } : قراءة الجمهور بالخَفْض ، قال المبرِّد ، وتبعه ابن عطية وغيره : هو معطوفٌ على { سَبِيلِ الله } ، وردَّ بأنه حينئذٍ يكون متعلِّقاً بصَدّ ، أي : وصَدّ عن سبيل اللَّهِ ، وعن المسجدِ الحرامِ ، فيلزم الفَصْلُ بين المصدر ، وهو صَدّ ، وبين معموله ، وهو المسجد ، بأجنبيٍّ ، وهو : ( وكُفْرٌ بِهِ ) ، ولا يجوز .

وقيل : معطوفٌ على ضمير ( بِهِ ) ، أي : وكُفْرٌ بِهِ وَبِالْمَسجِدِ ، ورُدَّ بأن فيه عطفاً على الضمير المجرور من غير إعادة الخافض ، ولا يجوز عند جمهور البَصْرِيِّين ، وأجازه الكوفيُّون ، ويونُسُ وأبو الحَسَنِ ، والشَّلَوْبِينُ ، والمختار جوازه لكثرته سماعاً ، ومنه قراءة حمزة : { تَسَاءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء : 1 ] أي : وبالأرحام ، وتأويلها على غيره بعيدٌ يُخْرِجُ الكلام عن فصاحته ، انتهى .

وقوله تعالى : { والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } .

المعنى عند جمهور المفسِّرين : والفتنةُ التي كُنْتُمْ تفتنون المُسْلمين عن دينهم حتى يهلكوا ، أشدُّ اجتراما من قَتْلكم في الشَّهْر الحرام ، وقيل : المعنى والفِتْنَة أشَدُّ من أن لو قتلوا ذلك المَفْتُون .

وقوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ }[ البقرة :217 ] .

هو ابتداءُ خبرٍ من اللَّه تعالى ، وتحذيرٌ منه للمؤمنين .

وقوله تعالى : { وَمَن يَرْتَدِدْ }[ البقرة :217 ] .

أي : يرجع عن الإِسلام إِلى الكفر ، عياذاً باللَّه ، قالَتْ طائفةٌ من العلماء : يُستَتَابُ المرتدُّ ثلاثةَ أيامٍ ، فإِن تاب ، وإِلا قتل ، وبه قال مالك ، وأحمد ، وأصحابُ الرَّأيِ ، والشَّافعيُّ في أحد قولَيْه ، وفي قولٍ له : يُقْتَلُ دون استتابةٍ ، وحبط العمل ، إِذا انفسد في آخره فبطل ، وميراث المرتدِّ عند مالكٍ والشافعيِّ : في بيْتِ مال المسلمين .