قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ، أراد به أيمانهما ، وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . وجملة الحكم : أن من سرق نصاباً من المال من حرز لا شبهة له فيه تقطع يده اليمنى من الكوع ، ولا يجب القطع بسرقة ما دون النصاب عند عامة أهل العلم ، حكي عن الزبير أنه كان يقطع في الشيء القليل ، وعامة العلماء على خلافه . واختلفوا في القدر الذي يقطع فيه ، فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقطع في أقل من ربع دينار ، فإن سرق ربع دينار أو متاعاً قيمته ربع دينار يقطع ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، والأوزاعي ، والشافعي ، رحمهم الله ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا ابن عيينة ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( القطع في ربع دينار فصاعدا ) .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم . وروي عن عثمان أنه قطع سارقاً في أترجة قومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار . وهذا قول مالك رحمه الله تعالى ، أنه يقطع في ثلاثة دراهم . وذهب قوم إلى أنه لا تقطع في أقل من دينار ، أو عشرة دراهم ، ويروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي . وقال قوم : لا يقطع إلا في خمسة دراهم . يروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وبه قال ابن أبي ليلى ، أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمر بن حفص بن غياث ، أخبرني أبي ، أنا الأعمش قال : سمعت أبا صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لعن الله السارق ، يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده ) .
وقال الأعمش : كانوا يرون أنه بيض الحديد ، والحبل يرون أن منها ما يساوي ثلاثة دراهم ، ويحتج بهذا الحديث من يرى القطع في الشيء القليل ، وهو عند الأكثرين محمول على ما قاله الأعمش لحديث عائشة رضي الله عنها " وإذا سرق شيئاً من غير حرز كثمر في حائط لا حارس له ، أو حيوان في برية لا حافظ له ، أو متاع في بيت منقطع عن البيوت لا قطع عليه " . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا قطع في ثمر معلق ، ولا في حريسة جبل ، فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن " .
وروي عن ابن جريج ، عن الزبير ، عن جابر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس على خائن ، أو منتهب ، ولا مختلس ، قطع . و إذا سرق مالاً له فيه شبهة كالعبد يسرق من مال سيده ، أو الولد يسرق من مال والده ، أو الوالد يسرق من مال ولده ، أو أحد الشريكين يسرق من المال المشترك شيئاً ، لا قطع عليه . وإذا سرق السارق أول مرة تقطع يده اليمنى من الكوع ، ثم إذا سرق ثانياً تقطع رجله اليسرى من مفصل القدم ) .
واختلفوا فيما إذا سرق ثالثاً ، فذهب أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى ، وإذا سرق رابعاً تقطع رجله اليمنى ، ثم إذا سرق بعده يعزر ويحبس حتى تظهر توبته ، وهو المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وهو قول قتادة ، وبه قال مالك ، والشافعي ، لما روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في السارق : ( إن سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ، ثم إن سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ) .
وذهب قوم إلى أنه إن سرق ثالثاً بعدما قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى لا يقطع ، بل يحبس ، وروى ذلك عن علي رضي الله عنه ، وقال : إني لأستحي أن لا أدع له يداً يستنجي بها ، ولا رجلاً يمشي بها ، وهو قول الشعبي ، والنخعي ، وبه قال الأوزاعي ، وأحمد ، وأصحاب الرأي .
قوله تعالى : { جزاءً بما كسبا } ، نصب على الحال والقطع ومثله .
وبعد أن بين - سبحانه - عقوبة الذين يحاربون الله ورسوله ، ودعا المؤمنين إلى التقرب إليه بالعمل الصالح وبين سوء عاقبة الكافرين . بعد أن بين كل ذلك أعقبه ببيان عقوبة السرقة فقال - تعالى :
{ والسارق والسارقة فاقطعوا . . . }
قال الجمل ما ملخصه : قوله - تعالى - { والسارق والسارقة } . . إلخ . شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى .
وقرأ الجمهور : والسارق بالرفع وفيها وجهان :
أحدهما : وهو مذهب سيبويه والمشهور من أقوال البصرين - أن السارق مبتدأ محذوف الخبر . والتقدير : فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة . أي : حكم السارق ، ويكون قوله { فاقطعوا } بيانا لذلك الحكم المقدر . فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها ، ولذلك أتى بها فيه لأنه هو المقصود . ولو لم يؤت بالفاء لتوهم أنه أجنبي ، والكلام على هذا جملتان : الأولى خبرية والثانية أمرية .
والثاني : وهو مذهب الأخفش وجماعة كثيرة - أنه مبتدأ - أيضاً - والخبر الجملة الأمرية من قوله { فاقطعوا } وإنما دخلت الفاء في الخبر ، لأنه يشبه الشرط إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي والصفة صلتها ، فهي في قوة قولك والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا .
والمعنى : ( السارق ) أي : من الرجال ( السارقة ) أي : من النساء ( فاقطعوا ) أيديهما ، أي فاقطعوا يد كل منهما الذكر إذا سرق قطعت يده . والأنثى إذا سرقت قطعت يدها .
والخطاب في قوله : ( فاقطعوا ) لولاة الأمر الذين إليهم يرجع تنفيذ الحدود وجمع - سبحانه - اليد فقال " أيديهما " ولم يقل يديهما بالتثنية ، لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية .
وقوله { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } بيان لسبب هذه العقوبة وللحكمة التي من أجلها شرعت . أي : اقطعوا أيديهما جزاء لهما بسبب فعلهما الخبيث ، وكسبهما السيء ، وخيانتهما القبيحة ، ولكي يكون هذا القطع لأيديهما ( نكالا ) أي : عبرة وزجرا من الله - تعالى - لغيرهما حتى يكف الناس عن ارتكاب هذه الجريمة .
يقال : نكل فلان بفلان تنكيلا : أي : صنع به صنيعا يحذر غيره .
والاسم النكال وهو ما نكلت به غيرك . وأصله من النكل - بالكسر - وهو القيد الشديد ، وحديدة اللجام ، لكونهما مانعين وجمعه انكال .
وسميت هذه العقوبة نكالا ، لأنها تجعل غير من نزلت به يخاف من ارتكابها حتى لا ينزل به ما نزل بمرتكبها من قطع ليده ، وفضيحة لأمره .
وقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : والله - تعالى - غالب على أمره ، حكيم في شرائعه وتكاليفه .
قال صاحب المنار ما ملخصه . وقد كانت العرب بدوها وحضرها تفهم الكثير من وضع اسماء الله - تعالى - في الآيات بحسب المناسبة .
ومن ذلك ما نقل الأصمعي أنه قال : كنت أقرأ سورة المائدة ، ومعي أعرابي ، فقرأت هذه الآية فقلت { الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } سهوا فقال الأعرابي كلام من هذا ؟ فقلت : كلام الله . قال : أعد فأعدت { الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ثم تنبهت فقلت : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فقال : الآن أصبت فقلت له .
كيف عرفت ؟ يا هذا { عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فأمر بالقطع ، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع فقد فهم الأعرابي الأمي أن مقتضى العزة والحكمة ، غير مقتضى المغفرة والرحمة وأن الله - تعالى - يضع كل اسم موضعه من كتابه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.