الأوَّل : أنه لما أوْجَبَ في الآية المتقدِّمة قَطْع الأيْدي والأرْجُل عند أخذ المالِ على سبيل [ المحاربة ، بيَّن في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل ]{[11682]} السَّرِقَة يُوجبُ قطع الأيدي ، والأرجُل أيضاً .
الثاني : أنَّهُ لما ذكر تَعْظِيم أمْر القَتْلِ حيث قال : { مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ [ أَو فسادٍ في الأرض ]{[11683]} فكأنما قتل النَّاس جميعاً ومنْ أحيَاها فكأنَّما أحْيَا النَّاس جميعاً } ذكره بعد الجنايات التي تُبيحُ القَتْلَ والإيلام فذكر :
قوله تعالى : " والسَّارقُ والسَّارقَةُ " قرأ الجمهور بالرفع .
وعيسى بن عُمَر وابن أبي عبلة{[11684]} بالنَّصْبِ .
ونقل عن أبيّ{[11685]} : " والسُّرَّق والسُّرَّقة " بضم السِّين وفتح الرَّاء مُشَدَّدَتَيْن ؛ قال الخَفَّاف : " وجدته في مُصْحَفِ أبَيّ كذلك " .
وممن ضبطهما بما ذكرت أبو عمرو ، إلاَّ أن ابن عطيَّة جعل هذه القِراءة تَصْحيفاً [ فإنَّه قال : " ويُشبهُ أنْ يكُون هذا تَصْحِيفاً ]{[11686]} من الضابط " . لأن قراءة الجماعة إذا كتبت : " والسّرق " : بغير ألف وافقت في الخط هذه ، قلت : ويمكن توجيه هذا القِرَاءة بأنَّ " السرق " جمع " سَارِق " ، فإنَّ فُعَّلاً يَطّرد جَمْعاً لفاعِل صِفَةً ، نحو ضارِب وضُرَّب .
والدَّليل على أنَّ المراد الجمع قراءة{[11687]} عبد الله " والسَّارقون والسَّارقَات " بصيغتي جمع السلامة ، فدلَّ على أنَّ المُرَاد الجَمْع ، إلا أنه يَشْكُل في أنّ " فُعَّلا " يكُون من جمع : فاعِل وفاعلة تقول : نِسَاءٌ ضُرَّب ، كما تقول : رِجَالٌ ضُرَّب ، ولا يُدْخِلُون عليه تاء التَّأنِيث حيث يُرادُ به الإنَاثُ ، والسُّرَّقة هنا - كما رأيت - في هذه القراءة بِتَاءِ التَّأنيث ، حيث أُرِيد ب " فُعَّل " {[11688]} جمع فاعلة ، فهو مُشْكِلٌ من هذه الجِهَة لا يقال : إن هذه التَّاء يجوز أن تكُون لِتَأكِيد الجمع ؛ لأنَّ ذلك محفُوظٌ لا يُقَاس عليه نحو : " حِجَارة " وأمَّا قِرَاءَةُ الجُمْهُور فَفِيهَا وجهان :
أحدهما : هو مذهَبُ سيبَوَيْه{[11689]} ، والمشهُور من أقوال البَصريِّين أن " السَّارِق " مبتدأ مَحْذُوف الخَبَر تقديرُهُ : { فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم } أو فيما فَرَضَ - " السَّارِق " و " السَّارِقَة " أي : حُكم السَّارِق ، وكذا قوله : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ } [ النور : 2 ] .
ويكون قوله : " فَاقْطَعُوا " بياناً لذلك الحُكم المقدَّر ، فما بعد الفاء مُرْتَبِطٌ بما قَبْلَها ، ولذلك أتى بها فيه ؛ لأنَّهُ هُوَ المَقْصُود .
ولو لم يَأتِ بالفَاءِ لَتوهّم أنه أجْنَبِيّ والكلامُ على هذا جُملتان : الأولى : خَبَريَّة ، والثَّانية : أمْرِيَّة .
والثاني : وهو مذهب الأخْفَش ، ونُقِلَ عن المُبَرِّد وجماعة كثيرة أنَّهُ مُبْتَدأ أيضاً ، والخبر الجُمْلَةُ الأمْرِية من قوله : " فاقْطَعُوا " ، وإنَّما دخلت الفاء في الخَبَر ؛ لأنه يُشْبِهُ الشَّرْط ؛ إذ الألِفُ واللاَّم فيه موصُولة ، بمعنى " الَّذِي " و " الَّتِي " والصفَةُ صلتُهَا ، فهي في قُوَّةِ قولك : " والذي سرق والتي سَرَقَت فاقْطَعُوا " ، وهو اختيار الزَّجَّاج{[11690]} . وما يدلُّ على أنَّ المراد من الآيَة الشَّرْط والجزاء وُجُوه :
الأوَّل : أنه تعالى صَرَّح بذلك في قوله تعالى { جَزَاء بما كَسَبَا } . وهذا يدلُّ على أنَّ القَطْع جزاءٌ على فِعْل السَّرِقة ، فوجَبَ أن يَعُمَّ الجَزَاء لعُموم الشَّرط .
والثاني : أن السَّرِقة جناية ، والقطع عُقُوبة ، فربط العُقُوبة بالجناية مناسب ، وذكر الحُكم عَقِيب الوَصْف المُنَاسب يدلُّ على أنَّ الوصْفَ عِلَّة لذلك الحُكم .
الثالث : أنّا إذا حملنا الآيَة على هذا الوجه كانت [ الآية ]{[11691]} مُفِيدة ، ولوْ{[11692]} حملْنَاها على سَارِقٍ مُعَيَّن صَارَت مُجْمَلة غير مفيدة ، فالأوَّل أوْلى .
وأجاز الزمَخْشَري{[11693]} الوجهَيْن ، ونسب الأوَّل لسيبَويه ، ولم يَنْسِبِ الثَّانِي ، بل قال : وَوَجْهٌ آخر ، وهو أن يَرْتفعَا بالابْتداء ، والخبر : " فَاقْطَعُوا " .
وإنما اخْتَارَ سيبوَيْه أنَّ خبره مَحْذوف كما تقدَّم تقديرُه دون الجُمْلَة الطَّلَبِيَّة بعده لوجْهَيْن :
أحدهما : النَّصْب في مثله هو الوجه في كلام العرب ، نحو : " زَيْداً فاضْرِبْهُ " لأجل الأمْرِ بعده .
قال سيبويه{[11694]} في هذه الآية : الوجْهُ في كلام العرب النَّصب ، كما تقول " زَيْداً فاضْرِبْه " ، ولكن أبتِ العَامَّةُ إلاَّ{[11695]} الرَّفع .
والثاني : دخول الفَاءِ في خَبَره ، وعنده أنَّ " الفَاء " لا تدخل إلا في خبر الموصُول الصَّرِيح ك " الذي " ، و " من " ، بشُرُوط أخر مذكورة في كُتُبِ النَّحْو ، وذلك لأنَّ الفَاء إنَّما دَخَلَتْ لِشَبَهِ المُبْتَدأ بالشَّرْط ، واشْتَرَطُوا أن تَصْلُح لأداة الشَّرْط من كَوْنِهَا جُمْلَة فعلية مستقبلة المَعْنَى ، أو ما يقوم مقامَها من ظَرْفٍ وشِبْهِهِ ، ولذلك إذا لم تَصْلُح لأداة الشَّرْط ، لم يَجُزْ دخول الفَاء في [ الخبر ، وصِلَةُ " أل " لا تَصْلُح لِمُبَاشرة أدَاةِ الشَّرْط فلذلك لا تدخل الفاء في ]{[11696]} خبرها ، وأيضاً ف " ألْ " {[11697]} وصلَتُها في حكم اسْمٍ واحدٍ ، ولذلك تَخَطَّاهَا الإعْرَاب .
وأما قِرَاءة عِيسى بن عمر ، وإبراهيم : فالنَّصْب بفعل مُضْمَرٍ يُفَسِّره العَامِل في سببيهما{[11698]} نحو : " زَيْداً فأكْرِمْ أخاهُ " ، والتقدير : " فعاقِبُوا السَّارِق والسَّارِقَة " تقدِّره فِعْلاً من معناه ، نحو " زَيْداً ضَرْبتُ غُلامه " ، أي : " أهَنْتُ زَيْداً " .
ويجُوز أن يقدَّر العامِل موافقاً لَفْظاً ؛ لأنَّه يُسَاغ أن يُقَال : قطعت السَّارِق وهذه قراءة واضِحَة لمكان الأمر بعد الاسم المُشْتَغِل عَنْهُ .
قال الزَّمَخْشَريُّ{[11699]} : وفَضَّلها سيبوَيْه على قِرَاءَة العامَّة ؛ لأجل الأمْر ؛ لأن " زَيْداً فاضْرِبْه " أحْسَن من " زيدٌ فاضْرِبه " .
وفي نقله تَفْضيل النَّصْب على قراءة العامَّة نظر ، ويظهر ذلك بنصِّ سيبويه .
قال سيبويه : الوجْهُ في كلام العرب النَّصْب ، [ كما تقُول : " زيداً اضْرِبْه " ؛ ولكن أبت العامَّة إلا الرَّفع ، وليس في هذا ما يَقْتَضِي تَفْضِيل النَّصْب بل مَعْنى ]{[11700]} كلامه أن هذه الآية لَيْسَتْ من الاشتِغَال في شَيْء ؛ إذ لو كان من باب الاشْتِغَال لكانَ الوَجْهُ النَّصب ، ولكن لم يقْرَأها الجُمْهُور إلا بالرَّفْع ، فَدَلَّ على أنَّ الآيَة محمولة على كلامين كما تقدَّم ، لا على كلامٍ واحد ، وهذا ظَاهِرٌ .
وقد رد ابن الخَطِيب على سيبويه بِخَمْسَةِ أوْجُه ، وذلك أنه فهم كما فهم الزَّمَخْشَرِيُّ من تفضيل النًّصْب ، فقال : الذي ذهب إليه سيبويه ليس بِشَيْء ، ويدل على فَسَادِه وُجُوه :
الأول : أنه طعنٌ في القِرَاءة المُتَوَاتِرَة المَنْقُولة عن الرَّسُول وعن أعْلام الأمَّة ، وذلك بَاطِلٌ قَطْعاً ، فإن قال سيبويه : لا أقُول : إنَّ القراءة بالرَّفْع غير جَائِزة ، ولكنِّي أقُول : قِرَاءة النَّصْب أوْلَى ، فنقول : رَدِيءٌ أيْضاً ؛ لأن تَرْجِيح قِرَاءة لم يَقْرَأ بِها{[11701]} إلاَّ عيسَى بن عمر على قِرَاءة الرَّسُول وجميع الأمَّة في عَهْد الصَّحابة والتَّابعين أمر مُنْكَر ، وكلام مَرْدُودٌ .
الثاني : لو كانت القراءة بالنَّصْب أوْلَى ، لَوَجَبَ أنْ يكون في القُرَّاء من يَقْرأ : { واللّذين يَأتيَانها مِنكُمْ فآذُوهُمَا } [ النساء : 16 ] ، بالنَّصْب ، ولمَّا{[11702]} لم يوجد في القُرَّاء من يقرأ كذلك ، عَلِمْنا سقوط هذا القَوْل .
الثالث : أنَّا إذا جَعَلْنَا " السَّارِق والسَّارِقة " مُبْتَدأ ، وخبره مُضمَر وهو الذي يقدِّره " فيما{[11703]} يُتلَى عليْكُم " بقي شيءٌ آخر يتعلَّق به الفاء في قوله : " فَاقْطَعُوا " .
فإن قال : الفاء تتعلَّق بالفعل الذي دلَّ عليه قوله : { والسَّارِق والسَّارِقَةُ } ، يعني : أنَّه إذا أتى بالسَّرِقة فاقْطَعُوا يَدَهُ .
فنقول : إذا احْتجت في آخِر الأمْر أنْ تَقُول : السَّارِق والسَّارِقة تقديره : " مَنْ سَرَقَ " ، فاذكر هذا أوَّلاً ، حتى لا تَحْتَاج إلى الإضْمَار الذي ذكرته .
الرابع : أنا إذا اخْتَرْنَا القراءة [ بالنصب لم يَدُلَّ ذلك على أنَّ السَّرِقة علةٌ لوجُوب القَطْع ، وإذا اخْتَرْنَا القِرَاءة بالرَّفْع ]{[11704]} أفادتِ الآيةُ هذا المَعْنَى ثم إنَّ هذا المعنى مُتأكد بقوله تعالى : { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } ، فثَبَت أنَّ القراءة بالرَّفْعِ أوْلَى .
الخامس : أنَّ سيبويه{[11705]} قال : " وَهُم يُقَدِّمُون الأهَمَّ ، والذي هم بِبَيَانه{[11706]} أعْنَى " فالقِرَاءة بالرَّفْع تَقْتَضِي تقْديم ذكر كَوْنه سَارِقاً على ذِكْرِ وُجُوبِ القَطْع ، وهذا يَقْتَضِي أن يكُون أكبر العِنَايَةِ مَصْرُوفاً إلى شَرْح ما يتعلَّق بِحَال السَّارِق مِنْ حَيْثُ إنَّه سَارِقٌ .
وأمَّا قراءة النَّصْبِ ، فإنها تَقْتَضِي أنْ تكُون العِنَايَةُ بِبَيانِ القَطْع أتم من العِنايَة بكونه سَارِقاً ، ومَعْلُوم أنَّه لَيْسَ كذلك ، فإنَّ المَقصُود في هذه الآية تَقْبِيحُ السَّرِقَة ، والمُبَالَغة في الزَّجْر عنها ، فثبت أنَّ القراءة بالرَّفْع هي المُتعينَة . انتهى ما زعَم أنه رَدّ على إمَام الصِّنَاعة ، والجواب عن الوجْهِ الأوَّل ما تقدَّم جواباً عمَّا قالهُ الزَّمَخْشَرِي [ وقد تقدَّم ]{[11707]} ، ويُؤيِّدُه نصُّ سيبويه ، فإنَّه قال : وقد يَحْسُن ويستَقِيمُ : " عَبْدُ الله فاضْرِبْه " ، إذا كان مَبْنِيّاً على مُبْتدأ مُظْهر أو مُضْمَر .
فأمَّا في المُظْهَر ، فقوله : " هَذَا زَيْدٌ فاضْرِبْه " وإن شِئْتَ لم تُظْهِر هذا ، ويعمل كعملِهِ إذا كان مُظْهراً ، [ وذلك ] قولُك{[11708]} : " الهِلال والله فانْظُرْ إليه " ، فَكَأنَّك قُلْت : " هذا الهِلالُ " ، ثُمَّ جِئْت بالأمْر .
ومن ذلك قول الشَّاعِر : [ الطويل ]
وقَائِلَةٍ : خَوْلانُ فَانِكحْ فَتَاتَهُمْ *** وَأكْرُومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا{[11709]}
هكذا سُمِعَ من العربِ تُنْشِدُهُ ، يعني بِرَفْعِ " خَوْلان " ، فمع قوله : " يَحْسُن ويستقيم " كيف [ يكون ] طاعِناً في الرَّفْع ؟ .
وقوله : " وإن قَالَ سيبويه . . . " الخ فسِيبَويْه لا يقول ذَلِكَ ، وكَيْفَ يَقُولُهُ ، وقد رَجح الرَّفع بما أوْضَحْتُهُ .
وقوله : " لَمْ يَقْرأ بها إلاَّ عيسى " لَيْس كما زَعَمَ بل قَرَأ بها جماعةٌ كإبْراهيم بن أبي عَبْلَة .
وأيضاً فهؤلاء لم يَقْرءُوهَا من تِلْقَاءِ أنْفُسِهِم ، بل نَقَلُوهَا إلى أنْ تَتّصل بالرَّسُول صلى الله عليه وسلم ، غاية ما في البَابِ أنَّها لَيْسَت في شُهْرَةِ الأولى .
وعن الثاني : أنَّ سيبويه لم يَدَّعِ تَرْجيحَ النَّصْب حتى يُلْزَم بما قَاله ، بل خَرَّج قراءة العامَّة على جُملتَيْن ، لما ذكرت لَكَ فيما تقدَّم من دُخُول الفاءِ ، ولذلك لمَّا مثَّل سيبويه جُمْلَة الأمْرِ والنَّهْي بعد الاسْمِ مثلهما عاريَتَيْن من الفَاء ، قال : وذلِكَ قولك : " زَيْداً اضْربْه " و " عَمْراً امْرُر به " .
[ وعن ]{[11710]} الثالث : ما تقدَّم من الحِكْمَة المُقْتَضِيَة للْمَجِيء بالفاء ، وكونها رَابِطَةٌ للحكم بما قَبْلَه .
وعن الرابع : بالمنع أن يكون بَيْن الرَّفْع والنَّصب فَرْق ، بأنَّ الرَّفع يَقْتَضِي العِلَّة ، والنَّصْب لا يَقْتَضِيه ، وذلك أنَّ الآيَة من باب التَّعْلِيل بالوَصْفِ المرتَّب عليه الحُكْم ، ألا ترى أن قولك : " اقطع السَّارق " يفيد العِلَّة ، [ أي : إنَّه ]{[11711]} جعل عِلَّة القَطْع اتِّصافه بالسَّرِقة ، فهذا يُشْعِر بالعِلَّة مع التصريح بالنصب .
الخامس : أنهم يُقَدِّمون الأهَمَّ ، حيث اخْتَلَفَتِ النِّسْبَةُ الإسْنَادية كالفاعل مع المفعول ، ولنسرد نصّ سيبويه ليتبين ما ذكرْنَاه .
قال سيبَوَيْه{[11712]} : فإن قدَّمْت المَفْعُول ، وأخَّرْت الفاعل جرى اللَّفظ كما جَرَى في " الأوَّل " ، يعني في " ضَرَب عَبْدُ الله زَيْداً " قال : " وذلك : ضَرَبَ زيداً عبد الله لأنَّك إنَّما أردت به مُؤخَّراً ما أرَدْت به مُقَدَّماً ، ولم تُرِدْ أن يَشْتَغِل الفِعْل بأوَّل منه ، وإن كان مُؤخَّراً في اللَّفْظ ، فمن ثَمَّ كان حَدُّ اللَّفْظِ أن يكون فيه مُقَدَّماً ، وهو عربي جيد كثير ، لأنهم يُقَدِّمُون الذي بَيَانُه أهَمُّ لهم ، وهم ببيانهِ أعْنَى ، وإن كانا جَمِيعاً يُهِمَّانِهم ويعنيانهم " . والآيَةُ الكَريمَةُ لَيْسَت من ذلك .
قوله : " أيْدِيهمَا " جمع واقعٌ موقِع التَّثْنِية : لأمْن اللَّبْس ، لأنَّهُ معلُوم أنَّه يقطع من كل سَارِق يَمِينه ، فهو من باب { صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] ، ويدلُّ على ذلك قراءة عبد الله : " فاقْطَعُوا{[11713]} أيْمَانَهُمَا " واشْتَرَط النَّحْوِيُّون في وُقُوع الجَمْعِ موقع التَّثْنِية شُرُوطاً ، من جملتها : أنْ يكون ذلك الجُزْء المُضَاف مُفْرَداً من صاحِبِه نحو : " قُلُوبكما " و " رُوس الكَبْشَيْنِ " لأمْنِ الإلْبَاس ، بخلافِ العَيْنَيْنِ واليَدين والرِّجليْن ، لو قلت : " فَقَأت أعينهما " ، وأنت تعني عينيهما ، و " كتَّفْت أيديهمَا " ، وأنت تعني " يديهما " لم يَجُزْ للَّبْسِ ، فلوْلاَ أنَّ الدَّلِيل دَلَّ على أنّ المُرَاد اليَدَان اليُمْنَيَان لما ساغَ ذلك ، وهذا مُسْتَفِيض في لِسانِهم - أعني وُقُوع الجَمْع مَوْقِع التَّثْنِيَة بِشُرُوطه - قال تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] ، ولنذكر المسْألة ، فنقول : كُلُّ جزْأين أضيفا إلى كِليْهِما لفظاً أو تقديراً ، وكانا مُفْرَدَيْن من صَاحبيْهِمَا جاز فيهما ثلاثة أوجُه :
الأحسن : الجمع ، ويليه الإفْرَاد عند بَعْضِهم ، ويليه التَّثْنِية ، وقال بعضهم : الأحْسَنُ الجَمْع ، ثم التَّثْنِية ، ثم الإفْرَاد ، نحو : " قَطَعْتُ رُءُوس الكَبْشَيْن ، ورَأس الكَبْشَيْن ورَأسَي الكَبْشَين " .
وقال سامَحَهُ اللَّهُ وعَفَا عَنْهُ : [ السريع أو الرجز ]
ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْن *** ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ{[11714]}
فقولنا : " جزآن " تَحَرُّز من الشَّيئين المُنْفَصِلَيْن ، لو قلت : " قَبَضت دَرَاهِمكُمَا " تعني : دِرْهَمَيْكُما لم يَجُزْ لِلَّبْسِ ، فلو أمِنَ جَازَ ، كقوله : " اضْرِبَاه بِأسْيَافِكُمَا " " إلى مَضَاجِعِكُمَا " ، وقولنا : " أُضِيفَا " تحرُّز من تفرُّقِهِمَا ، كقوله : { عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ المائدة : 78 ] ، وقولنا : " لَفْظاً " ، تقدَّم مِثَاله ، فإنَّ الإضافَة فيه لَفْظِيَّة .
وقولُنا : " أو تَقْدِيراً " نحو قوله : [ الطويل ]
رَأيْتُ بَنِي البَكْرِيِّ فِي حَوْمَةِ الوَغَى *** كَفَاغِرَي الأفْوَاهِ عِنْدَ عَرينِ{[11715]}
فإن تقديره : كَفَاغِرين أفَواهَهُمَا .
وقولنا : " مُفَرَدَيْن " تحرُّز من العَيْنَيْن ونحوهما ، وإنما اخْتِير الجَمْعُ على التَّثْنِية ، وإن كان{[11716]} الأصْل لاسْتِثْقَال تَوَالي تَثْنِيَتَيْنِ ، وكان الجَمْع أوْلَى من المُفْرَد لِمُشَارَكَة التَّثْنِيةِ في الضَّمِّ ، وبعده المُفْرد لعدم الثِّقَلِ ، هذا عِنْد بَعْضِهِم قال : لأنَّ التَّثْنِيَة لم ترد إلا ضرورةً ، كقوله - رحمةُ الله عليه - [ الطويل ]
هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَويْهمَا *** عَلَى النَّابحِ العَاوِي أشَدَّ رِجَامِ{[11717]}
بخلاف الإفْرَاد فإنَّه ورد في فَصِيح الكلام ، ومنه : " مَسَحَ أذنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وبَاطِنَهُمَا " .
وقال بعضهم : الأحسنُ الجَمْعُ ، ثم التَّثْنِيَة ، ثُمَّ الإفراد كقوله : [ الطويل ]
حَمَامَةَ بَطْنِ الوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي *** سَقاكِ مِنَ الغُرِّ الغَوَادِي مَطِيرُهَا{[11718]}
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : أيْدِيَهُمَا : يَدَيْهُمَا ، ونحوُهُ : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] اكْتَفَى بتثنيةِ المضافِ إليه عَنْ تَثنيةِ المضافِ ، وأُريد باليدين اليُمْنَيَان بدليلِ قراءةِ عبد الله : " والسَّارِقُونَ والسَّارِقَاتُ فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمْ " وردَّ عليه أبو حيَّان بأنهما لَيْسا بِشَيْئَيْنِ ، فإن النوعَ الأوَّلَ مُطّرد فيه وضْعُ الجمعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ ، بخلافِ الثاني فإنه لا يَنْقَاسُ ، لأن المتبادر إلى الذِّهْنِ من قولك : " قَطَعْتُ آذانَ الزَّيْدَيْن " : " أربعة الآذان " وهذا الردّ ليس بشيء ؛ لأنَّ الدليل دَلَّ على أنَّ المرادَ اليمنيان .
فصل من أول من قطع في حد السرقة ؟
قال القُرْطُبي{[11719]} : أولُ مَنْ حُكم بقطع [ اليد ]{[11720]} في الجاهليةِ ابنُ المُغِيرةِ ، فأمر الله بقطعِهِ في الإسلام ، فكان أول سارقٍ قطعه رسولُ الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في الإسلامِ ، مِنَ الرِّجَالِ الخِيَارَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف ومن النساء مُرَّة بنت سُفْيَانَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، وقطع أبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - يَدَ الْفَتَى الذي سَرَقَ العِقْد ، وقطع عُمَرُ - رضي الله عنه - يدَ ابن سَمُرَة أخِي عَبْد الرَّحْمن بن سَمُرَة .
فصل لماذا بدأ الله بالسارق في الآية ؟
قال القرطبيّ{[11721]} : بَدَأ الله بالسارقِ في هذه الآيةِ قَبْلَ السَّارقةِ ، وفي الزِّنَا بدأ بالزانيةِ ، والحكمةُ في ذلك أنْ يُقالَ : لما كان حُبُّ المالِ على الرجالِ أغلبُ ، وشهوةُ الاستمتاعِ على النساءِ أغْلَبُ بدأ بهما في الموضعين .
قوله تعالى : " جَزَاءً " فيه أرْبعةُ أوجُهٍ :
أحدُها : أنه منصوب على المصدر بفعلٍ مُقدَّرٍ ، أيْ : جازُوهما جزاء .
الثاني : أنَّهُ مصدرٌ [ أيضاً ]{[11722]} لكنه منصوبٌ على معنى نوعِ المصدرِ ؛ لأنَّ قوله : " فاقْطَعُوا " في قُوَّةِ : جَازُوهما بقطع الأيْدِي جَزَاءً .
الثالث : أنَّه منصوبٌ على الحالِ ، وهذه الحال يحتملُ أن تكونَ من الفاعل ، أي : مجازين لهما بالقطع بسبب كسبهما ، وأنْ تكون من المضافِ إليه في " أيْدِيَهُمَا " ، أي : في حال كونهما مُجَازَيْن ، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه ، لأنَّ المضاف جُزْؤهُ ، كقوله : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] .
الرابع : أنَّهُ [ مفعولٌ ] مِنْ أجْلِهِ ، أيْ : لأجْلِ الجزاءِ ، وشروطُ النصب موجودة .
و " نَكَالاً " منصوبٌ كما نُصِب " جَزَاءً " ولم يذكر الزمخْشريُّ فيهما غيرَ المفعولِ مِنْ أجْلِهِ .
قال أبُو حيان{[11723]} : " تبع في ذلك الزَّجَّاج " {[11724]} ، ثم قال : " وليس بجيِّدٍ إلاَّ إذا كان الجزاءُ هو النَّكالَ ، فيكون ذلك على طريقِ البدلِ ، وأمّا إذا كانا مُتَبَاينين ، فلا يجوزُ ذلك إلا بوَسَاطَةِ حَرْفِ العطفِ " .
قال شهابُ الدِّين : النَّكالُ : نَوْعٌ من الجزاء فهو بدلٌ منه ، على أنّ الذي يَنْبغي أن يُقَال هنا إنَّ " جَزَاءً " مفعول من أجله ، العامل فيه " فاقْطَعُوا " ، فالجزاءُ عِلةٌ للأمر بالقطع ، و " نَكَالاً " مفعولٌ مِن أجْله أيضاً العامل فيه " جَزَاءً " ، والنَّكَالُ عِلّةٌ للجزاءِ ، فتكون العلةُ مُعَلَّلةً بِشَيْءٍ آخرٍ ، فتكون كالحال المتداخِلَةِ ، كما تقول : " ضربتُه تَأدِيباً له إحْسَاناً إلَيْه " ، فالتأدِيبُ علَّة للضرب ، والإحسانُ علة للتأديب ، وكلامُ الزمخشريِّ والزَّجاج لا يُنَافِي{[11725]} ما ذكرنا فإنَّه لا منافاة بين هذا وبين قولهما : " جزاءً " مفعولٌ مِنْ أجلْه ، وكذلك " نَكَالاً " فتأمّله ، فإنه وجه حسنٌ ، فطاح الاعتراض على الزمخشري والزَّجَّاج ، والتفصيلُ المذكورُ في قوله : " إلا إذا كان الجزاءُ هو النَّكَالَ " ، ثم ظفرتُ بعد ذلك بأنه يجوز في المفعول له أن ينْصِبَ مَفْعُولاً آخر يكون علَّةً فيه ، وذلك أنَ المعربين أجازوا في قوله تعالى : { أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنَزَلَ اللَّهُ بَغْياً } [ البقرة : 90 ] أن يكون " بَغْياً " مفعولاً له ، ثم ذكروا في قوله : { أن يُنزِّل الله } أنه مفعولٌ له ناصبُه " بَغْياً " ، فهو علةٌ له ، صَرَّحُوا بذلك فَظَهَرَ ما قلت ولله الحمد .
و " بما " متعلق ب " جَزَاءً " ، و " ما " يجوزُ أنْ تكونَ مصدرية ، أي : بكسبهما ، وأنْ تكونَ بمعنى " الذي " ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ أي : بالذي كسباه ، والباءُ سَبَبِيَّةٌ .
قال بعضُ الأصُوليِّين{[11726]} : هذه الآيةُ مُجْمَلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ :
أحدها : أنَّ الحكمَ مُعلّق على السرقةِ ، ومطلقُ السرقَةِ غيرُ مُوجِب القطع ، بَلْ لا بد أنْ تكونَ هذه السرقةُ سرقَةً لمقدارٍ مَخْصُوصٍ من المالِ ، وذلك القَدْرُ مذكورٌ في الآية ، فكانت الآيةُ مُجْملةً .
وثانيها : أنَّهُ تعالى أوْجب قطع الأيمانِ والشمائِلِ وبالإجماع لا يجبُ قطعُهما معاً فكانت الآيةُ مجملةً .
وثالثها : أن اليدَ اسمٌ يتناولُ الأصابعَ وحدها ، ويقعُ على الأصابع مع الكفِّ ، والسَّاعِدِ إلى المِرْفَقَيْنِ ، ويقعُ على كل ذلك إلى المنْكِبينِ{[11727]} ، وإذا كانَ لَفْظُ اليدِ مُحْتَمِلاً لِكُلِّ هذه الأقسامِ والتعيينُ غَيْر مذكورٍ في هذهِ الآيةِ فكانتْ مُجْمَلةً .
ورابعها : أن قوله : " فاقْطَعُوا " خطابٌ مع قومٍ ، فيحتملُ أنْ يكونَ هذا التكليفُ واقِعاً على مَجْموعِ الأمَّةِ ، وأنْ يكونَ واقعاً على طائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ منهم ، وأنْ يكونَ على شَخْصٍ مُعَين منهم ، وهو إمامُ الزمانِ كما ذهب إلَيْه الأكثرُون ، ولمّا لم يكن التعيينُ مَذْكوراً في الآية كانتْ مُجْملةً ، فثبتَ بهذه الوجُوهِ أنَّ هذه الآية مُجملةٌ على الإطلاقِ .
وقال قومٌ من المُحَقِّقِين{[11728]} : إنَّ الآية ليستْ مُجْمَلةً ألْبَتَة ، وذلك لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ الألفَ واللامَ في قوله تعالى " والسارقُ والسارقةُ " قائمانِ مقام " الذي " والفاءُ في قوله " فاقْطَعُوا " للجزاءِ ، وكما أنَّ التقدير : الذي سَرَقَ فاقْطَعُوا يَدَهُ ، ثُمَّ تأكّدَ هذا بقوله تعالى : { جَزاءً بما كَسَبَا } وذلك أنَّ الكَسْبَ لا بُدَّ وأنْ يكونَ المرادُ به ما تقدم ذِكرُهُ ، وهو السَّرِقَةُ ، فصار هذا الدليلُ على مَنَاطِ الحُكم [ ومتعلقه ]{[11729]} هو ماهية السرقة ، ومقتضاهُ أنْ يَعُمَّ الجزاءُ أينما حصل الشرطُ . اللهَّم إلاَ إذا قام دليلٌ مُنْفصِلٌ يَقْتَضِي تخصيصَ هذا العامِّ ، وأمّا قوله : " الأيْدِي " عامَّة ، فنقول : مُقْتضاه قطعُ الأيدي ، لكنَّه لما انعقَدَ الإجماعُ على أنه لا يجبُ قطعهُما معاً ، ولا الابتداءُ [ باليد ]{[11730]} اليُسْرى ، أخرجناه مِنَ الْعُمُومِ .
وأمَّا قوله : " لفظُ اليَدِ دَائرٌ بَيْنَ أشياء " .
فنقولُ : لا نُسَلِّمُ ، بل اليَدُ اسمٌ لهذا العُضْو إلى المنْكِبِ ولهذا السَّبَبِ قال تعالى : { فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } [ المائدة : 6 ] ولولا دخولُ العَضُديْنِ في هذا الاسم ، وإلاَّ لما احتيج إلى التَّقييدِ بقوله " إلى المرَافِقِ " . فظاهرُ الآيةِ : يُوجِبُ قَطْعَ اليديْنِ من المنكِبَيْنِ كما هو قولُ الخوارج : إلاَّ أنَّا تركنا ذلكِ لدليلٍ مُنْفصل وأما قوله " رَابِعاً " يَحْتَمِلُ أن يكُونَ الخطابُ مع واحدٍ مُعَيَّنٍ .
قُلْنا : ظاهِرُه أنَّهُ خطابٌ مع [ كُل أحدٍ ]{[11731]} ، تُرِكَ العملُ بِهِ ، فلما صار مَخْصُوصاً بدليلٍ مُنْفَصِل فَيَبْقَى مَعمولاً به في الْبَاقِي فالحاصلُ أنَّا نقُولُ : الآيةُ عامةٌ صارت مَخْصُوصَةً بدلائِلَ مُنْفَصِلَة في بعضِ الصُّوَرِ ، فيبقى حُجَّةً فيما عداهَا ، وهذا القولُ أوْلَى من القول بأنها مُجْملة لا تُفِيدُ فائدَةً أصْلاً .
فصل لماذا لم يحد الزاني بقطع ذكره ؟
قال القُرطبي{[11732]} : جعل الله حدَّ السرقةِ قطعَ اليدِ لتناوُلها المالَ ، ولم يجعلْ حدَّ الزِّنَا قطعَ الذَّكرِ مع مُوافقَةِ الفاحشة به لأمورٍ :
أحدها : أن للسارقِ مثلَ يدِهِ التي قُطِعت ، فإن انْزَجَرَ بِها اعتاضَ بالباقية ، وليس للزَّانِي مثلُ ذكره ، إذا قُطِعَ ولم يعتض بغيره لو انْزَجَرَ بقطعِهِ .
الثاني : أنَّ الحدَّ زجرٌ للمحدودِ ولغيره{[11733]} ، وقطعُ يدِ السَّارقِ ظاهرٌ ، وقطعُ الذكرِ في الزنا باطنٌ .
الثالث : أنَّ قطع الذكرِ إبطال للنَّسْلِ وليس في قطع اليد إبطالٌ للنسلِ .
قال جمهورُ الفقهاءِ{[11734]} : لا يجبُ القطعُ إلا بشرطيْن : قدرُ النصابِ ، وأنْ تكونَ السرقةُ من حِرْزٍ .
قال ابن عباسٍ وابنُ الزُّبيْرِ والحسنُ البصريُّ - رضي الله عنهم - القدرُ غيرُ مُعْتبرٍ ، والقطعُ واجبٌ في القليلِ والكثيرِ ، والحرزُ أيضاً غَيْرُ مُعْتبرٍ ، وهذا قولُ داود الأصْفهاني وقولُ الخوارجِ ، وتمسكوا بعمومِ الآيةِ ، فإنَّه لم يُذْكَرْ فيها النصابُ ولا الحرزُ ، وتَخْصِيصُ عُمُومِ القرآنِ بخبرِ الواحدِ ، وبالقياسِ غيرُ جائزٍ ، واحتج الجمهورُ بأنه لا حاجة إلى القول بالتخصيصِ ، بل نقولُ إنَّ لفظ السرقةِ لفظٌ عربيٌّ ، ونحنُ بالضرورة ، نعلمُ أنَّ أهْلَ اللغَةِ لا يقُولُونَ لِمَنْ أخذَ حَبَّةً مِنْ حِنْطَة الغَيْرِ أو تبنةً واحدةً أو كِسْرةً صغيرةً أنَّهُ سرق مالهُ ، فعلمنا أنَّ أخذ مالِ الغيْرِ كيفما كان لا يُسَمَّى سرقَةً ، وأيْضاً فالسرقةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مُسارقَةِ عيْنِ المالِكِ [ وإنَّما يُحْتَاجُ إلى مُسارقةِ عيْنِ المالِكِ ]{[11735]} لَوْ كان المسروقُ أمْراً يتعلقُ به الرغبةُ في مَحَلّ الشُّحِّ والضِّنَّةِ حتَّى يَرْغَب السارقُ في أخذِهِ ويتضَايَقُ المسروقُ مِنْه فِي دَفْعِهِ إلى الغَيْرِ ، ولهذا الطريق اعتبرنا في وُجوبِ القطعِ أخْذ المالِ مِنْ حِرْزِ المثل ، لأنَّ مَا لا يكُونُ موضُوعاً في الْحِرْزِ لا يُحْتَاجُ في أخْذِهِ إلى مُسَارقَة الأعْيُنِ ، فلا يُسَمَّى أخْذُه سَرِقَةً .
قال داودُ{[11736]} : نحن لا نُوجِبُ القطعَ في سرقة الجبَّةِ الواحدةِ ، بل في أقَلِّ شَيْءٍ يُسَمَّى مالاً ، وفي أقَلِّ شَيْءٍ يجري فيه الشُّحُّ والضِّنَّةُ ، وذلك لأن مقاديرَ القِلَّةِ والكثْرة غيرُ مَضْبُوطَةٍ ، فربَّما اسْتَحْقَر{[11737]} الملكُ الكبيرُ آلافاً مُؤلَّفَةً ، وربما اسْتَعْظَمَ الفقيرُ طسُّوجاً{[11738]} ، ولهذا قال الشافِعِيُّ - رضي الله عنه - : لو قال : لِفُلانٍ عليَّ مالٌ عَظِيمٌ ، ثم فسره بالحبةِ ، يقبل قوله فيه لاحتمالِ أنَّه كان عظيماً في نظره ، أو كان عظيماً عنده لغاية فَقرِهِ وشدةِ احتياجِهِ إليه ، ولما كانت مقاديرُ القِلَّةِ والكَثْرةِ غيْرَ مَضْبُوطةٍ ، وَجَبَ بِنَاءُ الحكمِ على أقل ما يُسَمَّى مالاً .
وليس لقائلٍ أنْ يَسْتَبْعِدَ ويقُولَ : كيف يجوزُ [ القطعُ في سرقةِ ]{[11739]} الطسوجة الواحدةِ ، فإنَّ الملحد قد جعلَ هذا طَعْناً في الشريعةِ فقال : اليدُ لما كانت قيمَتُها خَمسمائَةِ دينارٍ من الذَّهَبِ ، فكيف تُقْطَعُ لأجل القليلِ من المالِ ؟ ثُم إنْ أجَبْنَا عن هذا الطعنِ ، بأنَّ الشرعَ إنما قطعَ يدهُ بسبب أنه تَحمَّل الدناءَةَ والخساسَةَ{[11740]} في سرقَةِ ذلك القدرِ القليلِ ، فلا يَبْعُدُ أنْ يعاقبه الشرعُ بسبب تلك الدناءَةِ بهذه العُقُوبةِ العظيمةِ ، وإذاً كَانَ هذا الجوابُ مَقْبُولاً مِنَّا في إيجابِ القطْعِ في القليلِ والكثيرِ ، قال : ومِمَّا يدلُ على أنَّهُ لا يجوزُ تخصيصُ عمومِ القرآنِ هَاهُنَا بخبرِ الواحدِ ، وذلك لأن القائلينَ بتخصيصِ هذا العمومِ اختلفُوا على وجوهٍ :
قال الشافعيُّ : يجبُ القطعُ في رُبْعِ دينارٍ ، وروى فيه قوله عليه الصلاة والسلام " لا قَطْعَ إلاَّ في رُبْعِ دينارٍ " {[11741]} وقال أبُو حنيفَةَ : لا يجبُ إلاَّ في عشرةِ دراهم مضرُوبة ، وروى قوله عليه الصلاة والسلام " لا قطع إلا في ثَمنِ المجَنِّ " {[11742]} قال : والظاهر أنَّ ثمن المجَنّ لا يكون أقلَّ من عشرة دراهم .
وقال مالكٌ وأحْمدُ وإسحاقُ : يُقدر بثلاثةِ دراهم أو رُبْعِ دينار وقال ابنُ أبِي لَيْلَى : مُقَدَّرٌ بخمسةِ دراهمَ ، وكلُّ واحدٍ من هؤلاءِ المجتهدين يطعنُ في الخبرِ الذي يرويه الآخرُ ، فعلى هذا التقدير : فهذهِ المُخَصصَاتُ صارتْ متعارِضةً ، فوجب ألاَّ يُلْتَفَتَ إلى شَيْءٍ مِنْها : ويُرْجع في معرفةِ حُكْمِ الله تعالى إلى ظاهرِ القرآنِ .
قال{[11743]} : وليس لأحدٍ أنْ يقول : إن الصحابة أجْمَعُوا على أنَّه لا يجبُ القطعُ إلاّ في مقدار مُعَيَّنٍ ، قال : لأنَّ الحسنَ البصريَّ كان يُوجِبُ القطعَ بمجردِ السَّرِقَةِ ، وكان يقولُ : احذر من قطع درهم ، ولو كان الإجماعُ مُنْعَقِداً لما خالف الحسنُ البصري فيه مع قربه من زمنِ الصحابةِ - رضي الله عنهم - ، وشدةِ احتياطِهِ فيما يتعلقُ بالدينِ ، فهذا تقريرُ مذهَبِ الحسنِ البصْرِيِّ ومذهبِ داوُدَ الأصْفَهانِي ، وأمَّا الفقهاءُ فقالوا : لا بُدَّ فِي وجوبِ القطعِ مِنَ الْقَدْرِ .
فقال الشافعيُّ : القطعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً وهو نِصابُ السرقةِ ، وسائِرُ الأشياءِ تُقَوَّمُ بِهِ ، وقال أبُو حَنِيفَةَ والثَّوْرِيُّ لاَ يَجِبُ القطعُ في أقَل مِنْ عَشَرةِ دراهم مَضْرُوبة . ويُقَوَّم غيرُها به ، وقال مالكٌ وأحمدُ : رُبْعُ دينارٍ [ أو ]{[11744]} ثلاثةُ دَرَاهِمَ ، وقال ابنُ أبِي لَيْلَى : خَمْسةُ دراهِم ، وحجةُ الشافعي - رضي الله عنه - ما رُوِي عن عائشةَ - رضي الله عنها - أن رسولَ الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم قال : " القَطْعُ فِي رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً " {[11745]} .
وحُجَّةُ مالكٍ - رضي الله عنه - ما رُوِيَ عَنْ نافعٍ عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَطَعَ سارِقاً في مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثلاثةُ دَرَاهِمَ{[11746]} .
ورُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - أنَّهُ قطعَ السارقَ في أتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بثلاثةِ دراهِمَ من صرف اثني عشر دينار ، واحْتَجّ أبو حَنيفَةَ - رضي الله عنه - بأنَّه قول ابن مسعُودٍ - رضي الله عنه - ، وبأن المجَنّ قيمتُهُ عَشَرةُ دراهِمَ{[11747]} ، واحتج ابنُ أبِي لَيْلَى - رحمه الله - بِما روى أبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : " لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، ويَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدهُ " {[11748]} .
قال الأعْمَشُ{[11749]} : كانوا يَرَوْنَ أنَّهُ بيضُ الحديد والحبلُ ، يرون أنه منها تُساوِي ثلاثةَ دراهم ، ويحتج بهذا مَنْ يرى القطع في الشيء القليلِ ، وعند الأكثرينَ محمولٌ على ما قاله الأعْمَشُ لحديثِ عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - .
فإنْ قيل : إذا سرَقَ المالَ مِنَ السَّارِقِ ، فقال الشافِعيُّ : لا يُقْطَعُ لأنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ مالكٍ ومِنْ غَيْرِ حِرْزٍ .
وقال أصحابُ مالكٍ{[11750]} : حُرْمةُ المالِكِ عليه لم تَنْقَطِعْ عنه ، وَيَدُ السارقِ كلا يد كالغاصب إذا سُرِقَ منه المالُ المغصُوب قُطع ، فإنْ قيل : حِرْزُهُ كَلاَ حِرْزٍ . فالجوابُ : الحرْزُ قائمٌ والمالِكُ قائمٌ ، ولم يَبْطُلِ الملك فيه .
فصل المذاهب فيما إذا كرر السارق السرقة
قال الشافعي{[11751]} : الرجل إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى ، وفي الثانية رجله اليسرى وإذا سرق في الثالثة تقطع يده اليسرى ، وفي الرابعة : رِجْلُهُ اليُمْنَى ؛ لأنَّ السرقةَ عِلّةُ القطعِ وقد وُجدت وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - وأحْمَدُ والثَّوْرِيُّ - رضي الله عنهم - : لا يُقْطَع في الثالثةِ والرابعةِ ، بلْ يُحْبَسُ .
قال أبُو حَنِيفَة والثَّوْرِيُّ{[11752]} : لا يُجْمَعُ بَيْنَ القَطْعِ والغُرْمِ ، فإن غُرّم فلا قَطْعَ ، وإن قُطِعَ سَقَطَ الغُرْمُ ، وقال الشافعي وأحمد - رضي الله عنهما - يُغرّم إنْ تلف المسروقُ ، وإنْ كان بَاقِياً رَدَّهُ .
وقال مَالِكٌ : يُقْطَعُ بِكُلِّ حالٍ ، ويُغرّم إنْ كان غَنِياً ، ولا يَلْزَمُه إن كان فقيراً ، واستدل الشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام " على الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤدِّيَهُ " {[11753]} ، ولأنَّ المسروقَ لَوْ كان بَاقِياً وَجَبَ رَدُّهُ بالإجْماعِ ، ولأنَّ حق الله لا يَمْنَعُ حَقَّ العبادِ ، بِدليلِ اجتماع الجزاءِ والقِيمةِ في الصَّيْدِ المَمْلُوكِ ، ولأنَّه بَاقٍ على مُلْكِ مالِكِه إلى وقْتِ القطع{[11754]} .
فإنْ قيل : الحِرْزُ عادة ما نُصِبَ لِحفْظِ الأموالِ ، وهو يَخْتَلِفُ في كُلِّ شَيْءٍ بحسبِ عَادَتِهِ{[11755]} .
قال ابنُ المُنْذرِ : لَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ ثَابتٌ .
فالجوابُ{[11756]} : وإنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لا قَطْعَ لقولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ : " لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلاَ فِي حريسة جَبَلٍ ، وإذَا آواها المراحُ والحرزُ فالقطعُ فيما بلغ ثمنَ المجَنّ " وقال عليه الصلاةُ والسلامُ : " ليسَ على خائنٍ ولا مُنْتَهبٍ ولا مُخْتلِس قطعٌ " {[11757]} .
وإذا سَرَقَ من مالٍ فيه شُبْهَةٌ ، كالعبدِ المسروقِ في مالِ سَيِّده ، والولدِ من مال والدِهِ ، والوالدِ من مالِ ولدِهِ ، وأحدِ الشريكيْنِ من مالِ المشتركِ لا قَطْعَ عليه .
فصل فيما إذا اشترك جماعة في سرقة
إذا اشترك جماعةٌ في سرقَة نصابٍ مِنْ حِرْزٍ ، فلا يَخْلُو : إمَّا أنَّ بعضهم يَقْدِرُ على إخراجه أوْ لا يَقْدِرُ إلا بمعاونِتِهم ، فإنْ كان الأول فَقِيل : يُقْطَعُ ، وقيل : لا يُقطعُ ، وهو قولُ أبِي حَنيفَةَ والشافعي ، فإذا نَقَبَ واحدٌ الحِرْزَ وأخَذَ الآخرُ ، فإنْ كانَ انفردَ كل واحدٍ بِفعلِهِ دُونَ اتفاقٍ منهما ، فلا قطْع على واحدٍ منهما ، وإنْ تفاوتَا في النَّقْبِ وانفردَ أحدهما بالإخراجِ خاصةً ، فإنْ دخل أحدُهما وأخرجَ المتاعَ إلى باب الحرْزِ فأدخل الآخرُ يدَهُ فأخذه ، فعليه القطعُ ويُعاقبُ الأولُ ، وقيل : يُقْطعانِ وإنْ وضعه خارج الحِرْز فعليه القطعُ لا على الآخذِ .
والقبرُ والمسجدُ حِرْزٌ فَيُقْطَعُ النَّباشُ عند الجمهور ، وقال أبُو حنيفةَ : لا يقطعُ ؛ لأنَّه سرق مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مالاً مُعَرَّضاً{[11758]} لِلتَّلفِ لا مالِكَ لَهُ ؛ لأنَّ الميِّتَ لا يملِكُ .
قال الشافعي{[11759]} : - رضي الله عنه - لِلْمَوْلى إقَامةُ الحدِّ على ممَالِيكِه ، وقال أبُو حنيفة - رضي الله عنه - : لا يَمْلِكُ ذلكَ .
احْتَجُّوا بهذه الآيةِ على أنَّهُ يجبُ على الأمَّة أن يُنَصِّبوا لأنفسهم إماماً مُعَيَّناً ، لأنَّهُ تعالى أوْجبَ بهذه الآيَة إقامَةَ الحدِّ على السُّرَّاق والزُّنَاةِ فلا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يكُونُ مُخَاطَباً بهذا الخطابِ ، وأجْمعتِ الأمةُ على أنَّه ليسَ لآحادِ الرعيَّةِ إقامةُ الحدودِ على الأحْرارِ الجُنَاةِ إلاَّ الإمامَ ، فلمَّا كان هذا تَكْلِيفاً جازِماً ، ولا يمكنُ الخروجُ مِنْ عُهْدَتِه ، إلا بِوُجودِ الإمام وجبَ نَصْبُهُ ؛ لأنَّ ما لا يَأتي الواجبُ إلا به ، وكانَ مقدوراً للمُكلَّفِ فهو واجبٌ .
قالتِ المعتزلةُ : قوله تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } يَدُلُّ على تَعْلِيلِ أحْكامِ الله تعالى ؛ لأنَّه صَريحٌ في أنَّ القطعَ إنَّما وجبَ مُعَلَّلاً بالسرقَةِ .
وجوابُهُ ما تقدمَ في قوله { مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا } .
قوله تعالى { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } والمعنى : عَزيزٌ في انْتِقامِهِ ، حكِيمٌ في شرائِعهِ وتكالِيفِه ، قال الأصْمَعِيُّ : كنتُ أقرأُ سورةَ المائدة ومعي أعرابيٌّ . فقرأتُ هذه الآيَةَ فقلْتُ : واللَّه غفورٌ رحيمٌ ، سَهْواً فقال الأعرابيُّ : كلامُ من هذا ، فقلتُ : كلامُ الله ، فقال : أعِدْ ، فأعَدْتُ : والله غفور رحيمٌ ثُمَّ تَنَبَّهْتُ فقلتُ : " والله عزيزٌ حكيمٌ " فقال : الآنَ أصَبْتَ .
قُلْتُ : كيف عرفتَ ؟ فقال : يا هذا ، عَزَّ فحكم فأمر بالقطْعِ ، فلَوْ غَفر ورحِمَ لما أمر بالقَطْعِ .