السارق اسم فاعل من سرق يسرق سرقاً والسرق والسرقة الاسم كذا قال بعضهم وربما قالوا سرقة مالاً .
قال ابن عرفة السارق عند العرب من جاء مستتراً إلى حرز فأخذ منه ما ليس له .
{ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } قال السائب : نزلت في طعمة بن أبيرق ، ومضت قصته في النساء .
ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر جزاء المحاربين بالعقوبات التي فيها قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، ثم أمر بالتوقى لئلا يقع الإنسان في شيء من الحرابة ، ثم ذكر حال الكفار ، ذكر حكم السرقة لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن ، والأرجل بالسنة على ما يأتي ذكره ، وهو أيضاً حرابة من حيث المعنى ، لأنّ فيه سعياً بالفساد إلا أن تلك تكون على سبيل الشوكة والظهور .
والسرقة على سبيل الاختفاء والتستر ، والظاهر وجوب القطع بمسمى السرقة ، وهو ظاهر النص .
يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الجمل فتقطع يده اليمنى ، شرق شيئاً مّا قليلاً أو كثيراً قطعت يده ، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة ومن التابعين منهم : الحسن ، وهو مذهب الخوارج وداود .
وقال داود ومن وافقه : لا يقطع في سرقة حبة واحدة ولا تمرة واحدة ، بل أقل شيء يسمى مالاً ، وفي أقل شيء يخرج الشح والضنة .
وقيل : النصاب الذي تقطع فيه اليد عشرة دراهم فصاعداً ، أو قيمتها من غيرها ، روى ذلك عن : ابن عباس ، وابن عمرو ، أيمن الحبشي ، وأبي جعفر ، وعطاء ، وابراهيم ، وهو قول : الثوري ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وزفر ، ومحمد .
وقيل : ربع دينار فصاعداً ، وروي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعائشة ، وعمر بن عبد العزيز ، وهو قول : الأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، وأبي ثور .
وقيل : خمسة دراهم وهو قول : أنس ، وعروة ، وسليمان بن يسار ، والزهري .
وقيل : أربعة دراهم وهو مروي عن أبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة .
وقيل : ثلاثة دراهم وهو قول : ابن عمر ، وبه قال مالك ، وإسحاق ، وأحمد ، إلا إن كان ذهباً فلا تقطع إلا في ربع دينار .
وقيل : درهم فما فوقه ، وبه قال عثمان البتي .
وقطع عبد الله بن الزبير في درهم .
وللسرقة التي تقطع فيها اليد شروط ذكرت في الفقه .
وقرأ الجمهور : والسارق والسارقة بالرفع .
وقرأ عبد الله : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ، وقال الخفاف : وجدت في محصف أبيّ والسُّرق والسرقة بضم السين المشددة فيهما كذا ضبطه أبو عمرو .
قال ابن عطية : ويشبه أن يكون هذا تصحيفاً من الضابط ، لأن قراءة الجماعة إذا كتبت السارق بغير ألف وافقت في الخط هذه .
والرفع في والسارق والسارقة على الابتداء ، والخبر محذوف والتقدير : فيما يتلى عليكم ، أو فيما فرض عليكم ، السارق والسارقة أي : حكمهما .
ولا يجوز سيبويه أن يكون الخبر قوله : فاقطعوا ، لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر مبتدأ موصول بظرف أو مجرور ، أي جملة صالحة لأداة الشرط .
والموصول هنا ألْ ، وصلتها اسم فاعل أو اسم مفعول ، وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه .
وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين أعني : أن يكون والسارق والسارقة مبتدأ ، والخبر جملة الأمر ، أجروا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور ، لأن المعنى فيه على العموم إذ معناه : الذي سرق والتي سرقت .
ولما كان مذهب سيبويه أنه لا يجوز ذلك ، تأوله على إضمار الخبر فيصير تأوله : فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة .
جملة ظاهرها أن تكون مستقلة ، ولكن المقصود هو في قوله : فاقطعوا ، فجيء بالفاء رابطة للجملة الثانية ، فالأولى موضحة للحكم المبهم في الجملة الأولى .
وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي عبلة : والسارقَ والسارقة بالنصب على الاشتغال .
قال سيبويه : الوجه في كلام العرب النصب كما تقول : زيداً فاضربه ، ولكنْ أبت العامة إلا الرفع ، يعني عامة القراء وجلهم .
ولما كان معظم القراء على الرفع ، تأوله سيبويه على وجه يصح ، وهو أنه جعله مبتدأ ، والخبر محذوف ، لأنه لو جعله مبتدأ والخبر فاقطعوا لكان تخريجاً على غير الوجه في كلام العرب ، ولكان قد تدخل الفاء في خبر أل وهو لا يجوز عنده .
وقد تجاسر أبو عبد الله محمد بن عمر المدعو بالفخر الرازي ابن خطيب الري على سيبويه وقال عنه ما لم يقله فقال : الذي ذهب إليه سيبويه ليس بشيء ، ويدل على فساده وجوه : الأول : أنه طعن في القراءة المنقولة بالمتواتر عن الرسول ، وعن أعلام الأمة ، وذلك باطل قطعاً .
( قلت ) : هذا تقوّل على سيبويه ، وقلة فهم عنه ، ولم يطعن سيبويه على قراءة الرفع ، بل وجهها التوجيه المذكور ، وأفهم أنّ المسألة ليست من باب الاشتغال المبني على جواز الابتداء فيه ، وكون جملة الأمر خبره ، أو لم ينصب الاسم ، إذ لو كانت منه لكان النصب أوجه كما كان في زيداً أضربه على ما تقرر في كلام العرب ، فكون جمهور القراء عدلوا إلى الرفع دليل على أنهم لم يجعلوا الرفع فيه على الابتداء المخبر عنه بفعل الأمر ، لأنه لا يجوز ذلك لأجل الفاء .
فقوله : أبت العامة إلا الرفع تقوية لتخريجه ، وتوهين للنصب على الاشتغال مع وجود الفاء ، لأن النصب على الاشتغال المرجح على الابتداء في مثل هذا التركيب لا يجوزا إلا إذا جاز أن يكون مبتدأ مخبراً عنه بالفعل الذي يفسر العامل في الاشتغال ، وهنا لا يجوز ذلك لأجل الفاء الداخلة على الخبر ، فكان ينبغي أن لا يجوز النصب .
فمعنى كلام سيبويه يقوي الرفع على ما ذكر ، فكيف يكون طاعناً في الرفع ؟ وقد قال سيبويه : وقد يحسن ويستقيم : عبد الله فاضربه ، إذا كان مبنياً على مبتدأ مضمر أو مظهر ، فأما في المظهر فقولك : هذا زيد فاضربه ، وإن شئت لم تظهر هذا ويعمل عمله إذا كان مظهراً وذلك قولك : الهلال والله فانظر إليه ، فكأنك قلت : هذا الهلال ثم جئت بالأمر .
وقائلة خولان فانكح فتاتهم *** واكرومة الحيين خلو كما هيا
هكذا سمع من العرب تنشده انتهى .
فإذا كان سيبويه يقول : وقد يحسن ويستقيم .
عبد الله فاضربه ، فكيف يكون طاعناً في الرفعا وهو يقول : أنه يحسن ويستقيم ؟ لكنه جوزه على أنّ يكون المرفوع مبتدأ محذوف الخبر ، كما تأوله في السارق والسارقة ، أو خبر مبتدأ محذوف كقوله : الهلال والله فانظر إليه .
وقال الفخر الرازي : ( فإن قلت ) : يعني سيبويه لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة ، ولكني أقول : القراءة بالنصب أولى ، فنقول له : هذا أيضاً رديء ، لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر مردود .
( قلت ) : هذا السؤال لم يقله سيبويه ، ولا هو ممن يقوله ، وكيف يقوله وهو قد رجح قراءة الرفع على ما أوضحناه ؟ وأيضاً فقوله : لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين تشنيع ، وإيهام أن عيسى بن عمر قرأها من قبل نفسه ، وليس كذلك ، بل قراءته مستندة إلى الصحابة وإلى الرسول ، فقراءته قراءة الرسول أيضاً ، وقوله : وجميع الأمة ، لا يصح هذا الإطلاق لأنّ عيسى بن عمر وابراهيم بن أبي عبلة ومن وافقهما وأشياخهم الذين أخذوا عنهم هذه القراءة هم من الأمة .
وقال سيبويه : وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني ، فأخبر أنها قراءة ناس .
وقوله : وجميع الأمة لا يصح هذا العموم .
قال الفخر الرازي : الثاني : من الوجوه التي تدل على فساد قول سيبويه أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } بالنصب ، ولما لم يوجد في القراءة أحد قرأ كذلك ، علمنا سقوط هذا القول .
( قلت ) : لم يدّع سيبويه أنّ قراءة النصب أولى فيلزمه ما ذكر ، وإنما قال سيبويه : وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني ، وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة ، ولكن أبت العامة إلا القراءة بالرفع .
ويعني سيبويه بقوله : من القوة ، لو عرى من الفاء المقدر دخولها على خبر الاسم المرفوع على الابتداء ، وجملة الأمر خبره ، ولكن أبت العامة أي جمهور القراء إلا الرفع لعلة دخول الفاء ، إذ لا يصح أن تكون جملة الأمر خبراً لهذا المبتدأ ، فلما دخلت الفاء رجح الجمهور الرفع .
ولذلك لما ذكر سيبويه اختيار النصب في الأمر والنهي ، لم يمثله بالفاء بل عارياً منها .
قال سيبويه : وذلك قولك : زيداً اضربه وعمراً أمر ربه ، وخالداً اضرب أباه ، وزيداً اشتر له ثوباً ثم قال : وقد يكون في الأمر والنهي أن يبنى الفعل على الاسم وذلك قوله : عبد الله فاضربه ، ابتدأت عبد الله فرفعت بالابتداء ، ونبهت المخاطب له ليعرفه باسمه ، ثم بنيت الفعل عليه كما فعلت ذلك في الخبر .
فإذا قلت : زيداً فاضربه ، لم يستقم ، لم تحمله على الابتداء .
ألا ترى أنك لو قلت : زيد فمنطلق ، لم يستقم ؟ فهذا دليل على أنه لا يجوز أن يكون مبتدأ يعني مخبراً عنه بفعل الأمر المقرون بالفاء الجائز دخولها على الخبر .
ثم قال سيبويه : فإن شئت نصبته على شيء هذا يفسره .
لما منع سيبويه الرفع فيه على الابتداء ، وجملة الأمر خبره لأجل الفاء ، أجاز نصبه على الاشتغالا لا على أن الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ .
وتلخيص ما يفهم من كلام سيبويه : أن الجملة الواقعة أمراً بغير فاء بعد اسم يختار فيه النصب ويجوز فيه الابتداء ، وجملة الأمر خبره ، فإنْ دخلت عليه الفاء فإمّا أنْ تقدرها الفاء الداخلة على الخبر ، أو عاطفة .
فإن قدرتها الداخلة على الخبر فلا يجوز أن يكون ذلك الاسم مبتدأ وجملة الأمر خبره ، إلا إذا كان المبتدأ أجرى مجرى اسم الشرط لشبهه به ، وله شروط ذكرت في النحو .
وإن كانت عاطفة كان ذلك الاسم مرفوعاً ، إما مبتدأ كما تأول سيبويه في قوله : والسارق والسارقة ، وإما خبر مبتدأ محذوف كما قيل : القمر والله فانظر إليه .
والنصب على هذا المعنى دون الرفع ، لأنك إذا نصبت احتجت إلى جملة فعلية تعطف عليها بالفاء ، وإلى حذف الفعل الناصب ، وإلى تحريف الفاء إلى غير محلها .
فإذا قلت زيداً فاضربه ، فالتقدير : تنبه فاضرب زيداً اضربه .
حذفت تنبه ، وحذفت اضرب ، وأخرت الفاء إلى دخولها على المفسر .
وكان الرفع أولى ، لأنه ليس فيه إلا حذف مبتدأ ، أو حذف خبر .
فالمحذوف أحد جزئي الإسناد فقط ، والفاء واقعة في موقعها ، ودل على ذلك المحذوف سياق الكلام والمعنى .
قال سيبويه : وأما قوله عز وجل : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما } { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } فإنّ هذا لم يبن على الفعل ، ولكنه جاء على مثل قوله تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون } ثم قال بعد فيها : { أنهار فيها } كذا وكذا ، فإنما وضع مثل للحديث الذي بعده ، وذكر بعد أخبار وأحاديث كأنه قال : ومن القصص مثل الجنة أو مما نقص عليكم مثل الجنة ، فهو محمول على هذا الإضمار أو نحوه والله أعلم .
وكذلك الزانية والزاني لما قال تعالى : { سورة أنزلناها وفرضناها } قال في الفرائض : { الزانية والزاني أو الزانية والزاني } في الفرائض ثم قال : فاجلدوا ، فجاء بالفعل بعد أن مضى فيها الرفع كما قال : وقائلة خولان فانكح فتاتهم ، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه الضمير ، وكذلك السارق والسارقة .
كأنه قال : مما فرض عليكم السارق والسارقة ، أو السارق والسارقة فيما فرض عليكم .
وإنما جاءت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث انتهى .
فسيبويه إنما اختار هذا التخريج لأنه أقل كلفة من النصب مع وجود الفاء ، وليست الفاء الداخلة في خبر المبتدأ ، لأن سيبويه لا يجيز ذلك في أل الموصولة .
فالآيتان عنده من باب زيد فاضربه ، فكما أن المختار في هذا الرفع فكذلك في الآيتين .
وقول الرازي : لوجب أن يكون في القراء من قرأ : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } بالنصب إلى آخر كلامه ، لم يقل سيبويه أن النصب في مثل هذا التركيب أولى ، فيلزم أن يكون في القراء من ينصب واللذان يأتيانها ، بل حل سيبويه هذا الآية محل قوله : والسارق والسارقة ، لأنه تقدم قبل ذلك ما يدل على المحذوف وهو قوله : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } فخرج سيبويه الآية على الإضمار .
وقال سيبويه : وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد إذا كنت تخبر بأشياء ، أو توصي ، ثم تقول : زيد أي زيد فيمن أوصى فأحسن إليه وأكرمه ، ويجوز في : واللذان يأتيانها منكم ، أن يرتفع على الابتداء ، والجملة التي فيها الفاء خبر لأنه موصول مستوف شروط الموصول الذي يجوز دخول الفاء في خبره لشبهه باسم الشرط ، بخلاف قوله : والسارق والسارقة ، فإنه لا يجوز عند سيبويه دخول الفاء في خبره ، لأنه لا يجري مجرى اسم الشرط ، فلا يشبه به في دخول الفاء .
قال الفخر الرازي : الثالث يعني : من وجوه فساد قول سيبويه إنا إنما قلنا السارق والسارقة مبتدأ ، وخبره هو الذي يضمره ، وهو قولنا : فيما يتلى عليكم ، وفي شيء تتعلق به الفاء في قوله : فاقطعوا أيديهما .
( قلت ) : تقدم لنا حكمة المجيء بالفاء وما ربطت ، وقد قدره سيبويه : ومما فرض عليكم السارق والسارقة ، والمعنى : حكم السارق والسارقة ، لأنها آية جاءت بعد ذكر جزاء المحاربين وأحكامهم ، فناسب تقدير سيبويه .
وجيء بالفاء رابطة الجملة الثانية بالأولى ، والثانية جاءت موضحة للحكم المبهم فيما قبل ذلك .
قال الفخر الرازي : فإن قال يعني سيبويه الفاء تتعلق بالفعل الذي دل عليه قوله : والسارق والسارقة ، يعني : أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يده ، فنقول : إذا احتجت في آخر الأمر أن تقول السارق والسارقة تقديره من سرق ، فاذكر هذا أولاً حتى لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته .
( قلت ) : هذا لا يقوله سيبويه ، وقد بينا حكم الفاء وفائدتها .
قال الفخر الرازي : الرابع : يعني من وجوه فساد قول سيبويه إذا اخترنا القراءة بالنصب ، لم تدل على أنّ السرقة علة لوجوب القطع .
وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى ، ثم إنّ هذا المعنى متأكد بقوله : جزاء بما كسبا ، فثبت أن القراءة بالرفع أولى .
( قلت ) : هذا عجيب من هذا الرجل ، يزعم أنّ النصب لا يشعر بالعلة الموجبة للقطع ويفيدها الرفع ، وهل هذا إلا من التعليل بالوصف المترتب عليه الحكم ؟ فلا فرق في ذلك بين الرفع والنصب لو قلت : السارق ليقطع ، أو اقطع السارق ، لم يكن بينهما فرق من حيث التعليل .
وكذلك الزاني ليجلد ، أو اجلد الزاني .
ثم قوله : إن هذا المعنى متأكد بقوله : جزاء بما كسباً ، والنصب أيضاً يحسن أن يؤكد بمثل هذا ، لو قلت : اقطع اللص جزاء بما كسب صح .
وقال الفخر الرازي : الخامس : يعني من وجوه فساد قول سيبويه ، أن سيبويه قال : وهم يقدمون الأهم فالأهم .
والذي هم ببيانه أعني : فالقراءة بالرفع تقتضي ذكر كونه سارقاً على ذكر وجوب القطع ، وهذا يقتضي أن يكون أكثر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث أنه سارق ، وأمّا القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أثم من العناية بكونه سارقاً .
ومعلوم أنه ليس كذلك ، فإن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة والمبالغة في الزجر عنها ، فثبت أنّ القراءة بالرفع هي المتعينة قطعاً .
( قلت ) : الذي ذكر فيه سيبويه أنهم كانوا يقدمون الذي بيانه أهم لهم ، وهم ببيانه أعني هو ما اختلفت فيه نسبة الإسناد كالفاعل والمفعول .
قال سيبويه : فإن قدمت المفعول وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول يعني : في ضرب عبد الله زيداً قال : وذلك ضرب زيداً عبد الله ، لأنك إنما أردت به مؤخراً ما أردت به مقدماً ، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول منه وإن كان مؤخراً في اللفظ ، فمن ثم كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدماً ، وهو عربي جيد كثير كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم ، وهم ببيانه أعني : وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم انتهى .
والرازي حرف كلام سيبويه وأخذه حيث لا يتصور اختلاف نسبه وهو المبتدأ والخبر ، فإنه ليس فيه إلا نسبة واحدة بخلاف الفاعل والمفعول ، لأن المخاطب قد يكون له غرض في ذكر من صدر منه الضرب فيقدم الفاعل ، أو في ذكر من حل به الضرب فيقدم المفعول ، لأن نسبة الضرب مختلفة بالنظر إليهما .
وأما الآية فهي من باب ما النسبة فيه لا تختلف ، إنما هي الحكم على السارق بقطع يده .
وما ذكره الرازي لا يتفرع على كلام سيبويه بوجه ، والعجب من هذا الرجل وتجاسره على العلوم حتى صنف في النحو كتاباً سماه المحرر ، وسلك فيه طريقة غريبة بعيدة من مصطلح أهل النحو ومن مقاصدهم ، وهو كتاب لطيف محتو على بعض أبواب العربية ، وقد سمعت شيخنا أبا جعفر بن الزبير يذكر هذا التصنيف ويقول : إنه ليس جارينا على مصطلح القوم ، وإنْ ما سلكه في ذلك من التخليط في العلوم ، ومن غلب عليه فن ظهر فيما يتكلم به من غير ذلك الفن أو قريباً منه من هذا المعنى ، ولما وقفت على هذا الكتاب بديار مصر رأيت ما كان الأستاذ أبو جعفر يذم من هذا الكتاب ويستزل عقل فخر الدين في كونه صنف في علم وليس من أهله .
وكان أبو جعفر يقول : لكل علم حد ينتهي إليه ، فإذا رأيت متكلماً في فن مّا ومزجه بغيره فاعلم أنّ ذلك إما أن يكون من تخليطه وتخبيط ذهنه ، وإما أن يكون من قلة محصوله وقصوره في ذلك العلم ، فتجده يستريح إلى غيره مما يعرفه .
وقال الزمخشري بعد أن ذكر مذهب سيبويه في إعراب والسارق والسارقة ما نصه : ووجه آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء ، والخبر فاقطعوا أيديهما ، ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط ، لأن المعنى : والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما ، والاسم الموصول تضمن معنى الشرط .
وقرأ عيسى بن عمر بالنصب ، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر ، لأن زيداً فاضربه أحسن من زيد فاضربه انتهى .
وهذا الوجه الذي أجازه وإن كان ذهب إليه بعضهم لا يجوز عند سيبويه ، لأن الموصول لم يوصل بجملة تصلح لأداة الشرط ، ولا بما قام مقامها من ظرف أو مجرور ، بل الموصول هنا ال وصلة ، ال لا تصلح لأداة الشرط ، وقد امتزج الموصول بصلته حتى صار الإعراب في الصلة بخلاف الظرف والمجرور ، فإن العامل فيهما جملة لا تصلح لأداة الشرط .
وأما قوله : في قراءة عيسى ، إن سيبويه فضلها على قراءة العامة فليس بصحيح ، بل الذي ذكر سيبويه في كتابه أنهما تركيبان : أحدهما زيداً اضربه ، والثاني زيد فاضربه .
فالتركيب الأول اختار فيه النصب ، ثم جوزوا الرفع بالابتداء .
والتركيب الثاني منع أن يرتفع بالابتداء ، وتكون الجملة الأمرية خبراً له لأجل الفاء .
وأجاز نصبه على الاشتغال ، أو على الإغراء ، وذكر أنه يستقيم رفعه على أن يكون جملتان ، ويكون زيد خبر مبتدأ محذوف أي : هذا زيد فاضربه ، ثم ذكر الآية فخرجها على حذف الخبر ، ودل كلامه أنّ هذا التركيب هو لا يكون إلا على جملتين : الأولى ابتدائية ، ثم ذكر قراءة ناس بالنصب ولم يرجحها على قراءة العامة ، إنما قال : وهي في العربية على ما ذكرت لك من القوة أي : نصبها على الاشتغال أو الإغراء ، وهو قوي لا ضعيف ، وقد منع سيبويه رفعه على الابتداء ، والجملة الأمرية خبر لأجل الفاء .
وقد ذكرنا الترجيح بين رفعه على أنه مبتدأ حذف خبره ، أو خبر حذف مبتدؤه ، وبين نصبه على الاشتغال بأن الرفع يلزم فيه حذف خبر واحد ، والنصب يلزم فيه حذف جملة وإضمار أخرى ، وزحلقة الفاء عن موضعها .
وظاهر قوله : والسارق أنه لا يشترط حرز للمسروق ، وبه قال : داود ، والخوارج .
وذهب الجمهور إلى أنّ شرط القطع إخراجه من الحرز ، ولو جمع الثياب في البيت ولم يخرجها لم يقطع .
والظاهر اندراج كل من يسمى سارقاً في عموم والسارق والسارقة ، لكن الإجماع منعقد على أنّ الأب إذا سرق من مال ابنه لا يقطع ، والجمهور على أنه لا يقطع الابن .
وقال عبد الله بن الحسن : إن كان يدخل عليهما فلا قطع ، وإن كانا ينهيانه عن الدخول قطع ، ولا يقطع ذوو المحارم عند أبي حنيفة ، ولا الأجداد من جهة الأب ، والأم عند الجمهور وعند أشهب .
وقال أبو ثور : يقطع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد ، إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع .
وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تقطع المرأة إذا سرقت من مال زوجها ، ولا هو إذا سرق من مال زوجته .
والظاهر أنّ من أقرّ مرة بسرقة قطع ، وبه قال : أبو حنيفة ، وزفر ، ومالك ، والشافعي ، والثوري .
وقال ابن شبرمة وأبو يوسف وابن أبي ليلى : لا يقطع حتى يقر مرتين .
وقال أبو حنيفة : لا يقطع سارق المصحف .
وقال الشافعي ، وأبو يوسف ، وأبو ثور ، وابن القاسم : يقطع إذا كانت قيمته نصاباً .
والظاهر قطع الطيار نصاباً وبه قال : مالك ، والأوزاعي ، وأبو ثور ، ويعقوب ، وهو قول الحسن : وذهب أبو حنيفة ، ومحمد ، وإسحاق إلى أنه إن كانت الدراهم مصرورة في كمه لم يقطع ، أو في داخله قطع .
واختلف في النبّاش إذا أخذ الكفن ، فقال أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، ومحمد : لا يقطع ، وهو قول ابن عباس ومكحول .
وقال الزهري : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن كان مروان أميراً على المدينة أنّ النباش يعزر ولا يقطع ، وكان الصحابة متوافرين يومئذ .
وقال أبو الدرداء ، وابن أبي ليلى ، وربيعة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو يوسف : يقطع ، وهو مروي عن ابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري ، ومسروق ، والحسن ، والنخعي ، وعطاء ، والظاهر أنه إذا كرّر السرقة في العين بعد القطع فيها لم يقطع ، وبه قال الجمهور .
وقال أبو حنيفة : لا يقطع ، وأنه إذا سرق نصاباً من سارق لا يقطع ، وبه قال الشافعي .
وقال مالك : قطع والمخاطب بقوله : { فاقطعوا } الرسول أو ولاة الأمر كالسلطان ، ومن أذن له في إقامة الحدود ، أو القضاة والحكام ، أو المؤمنون ، ليكونوا متظافرين على إقامة الحدود أقوال أربعة .
وفصل بعض العلماء فقال : إن كان في البلد إمام أو نائب له فالخطاب متوجه إليه ، فإنْ لم يكن وفيها حاكم فالخطاب متوجه إليه ، فإن لم يكن فإلى عامة المؤمنين ، وهو من فروض الكفاية إذ ذاك ، إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين .
والظاهر من قوله : فاقطعوا أيديهما أنه يقطع من السارق الثنتان ، لكن الإجماع على خلاف هذا الظاهر ، وإنما يقطع من السارق يمناه ، ومن السارقة يمناها .
قال الزمخشري : أيديهما يديهما ونحوه : { فقد صغت قلوبكما } اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف ، وأريد باليدين اليمينان بدليل قراءة عبد الله : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم انتهى .
وسوى بين أيديهما وقلوبكما وليسا بشيئين ، لأن باب صغت قلوبكما يطرد فيه وضع الجمع موضع التثنية ، وهو ما كان اثنين من شيئين كالقلب والأنف والوجه والظهر ، وأمّا إن كان في كل شيء منهما اثنان كاليدين والأذنين والفخذين فإن وضع الجمع موضع التثنية لا يطرد ، وإنما يحفظ ولا يقاس عليه .
لأن الذهن إنما يتبادر إذا أطلق الجمع لما يدل عليه لفظه ، فلو قيل : قطعت آذان الزيدين ، فظاهره قطع أربعة الآذان ، وهو استعمال اللفظ في مدلوله .
وقال ابن عطية : جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة ، وهي المعرّضة للقطع في السرقة ، وللسراق أيد ، وللسارقات أيد ، كأنه قال : اقطعوا إيمان النوعين ، فالتثنية للضمير إنما هي للنوعين .
وظاهر قوله : أيديهما ، أنه لا يقطع الرجل ، فإذا سرق قطعت يده اليمنى ثم إن سرق قطعت يده اليسرى ، ثم إن سرق عزّر وحبس ، وهو مذهب مالك والجمهور ، وبه قال : أبو حنيفة والثوري .
وقال عليّ ، والزهري ، وحماد بن أبي سلمة ، وأحمد : تقطع يده اليمنى ، ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى ، ثم إن سرق عزّر وحبس .
وروي عطاء : لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنى فقط ، ثم إن سرق عزّر وحبس .
وقال الشافعي : إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى ، ثم في الثانية رجله اليسرى ، ثم في الثالثة يده اليسرى ، ثم في الرابعة رجله اليمنى ، وروي هذا عن عمر .
وظاهر قطع اليد أنه يكون من المنكب من المفصل .
وروي عن عليّ : أنه في اليد من الأصابع ، وفي الرّجل من نصف القدم وهو معقد الشرك .
وروي مثله عن عطاء ، وأبي جعفر .
وقال أبو صالح السمان : رأيت الذي قطعه عليّ مقطوعاً من أطراف الأصابع ، فقيل له : من قطعك ؟ قال : خير الناس .
والظاهر أنّ المترتب على السرقة هو قطع اليد فقط .
فإن كان المال قائماً بعينه أخذه صاحبه ، وإن كان السارق استهلكه فلا ضمان عليه ، وبه قال : مكحول ، وعطاء ، والشعبي ، وابن سيرين ، والنخعي في قول أبي حنيفة وأصحابه .
وقال الحسن ، والزهري ، والنخعي في قول حماد ، وعثمان البتي ، والليث ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق : يضمن ويغرم .
وقال مالك : إن كان موسراً ضمن أو معسراً فلا شيء عليه .
{ جزاء بما كسبا نكالاً من الله } قال الكسائي : انتصب جزاء على الحال .
وقال قطرب : على المصدر ، أي : جازاهم جزاء .
وقال الجمهور : هو على المفعول من أجله ، وبما متعلق بجزاء ، وما موصولة أي : بالذي كسباه .
ويحتمل أن تكون مصدرية أي : جزاء بكسبهما ، وانتصاب نكالاً على المصدر ، أو على أنه مفعول من أجله .
والعذاب : النكال ، والنكل القيد تقدّم الكلام فيه في قوله : { فجعلناها نكالاًً } وقال الزمخشري : جزاء ونكالاً مفعول لهما انتهى ، وتبع في ذلك الزجاج .
قال الزجاج : هو مفعول من أجله يعني جزاء .
قال : وكذلك نكالاً من الله انتهى .
إلا إذا كان الجزاء هو النكال ، فيكون ذلك على طريق البدل .
وأما إذا كانا متباينين فلا يجوز أن يكونا مفعولين لهما إلا بواسطة حرف العطف .
{ والله عزيز حكيم } قيل : المعنى عزيز في شرع الرّدع ، حكيم في إيجاب القطع .
وقيل : عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعصية ، حكيم في فرائضه وحدوده .
روي أنّ بعض الأعراب سمع قارئاً يقرأ : والسارق والسارقة إلى آخرها وختمها بقوله : والله غفور رحيم فقال : ما هذا كلام فصيح ، فقيل له : ليس التلاوة كذلك ، وإنما هي والله عزيز حكيم فقال : بخ بخ عز ، فحكم ، فقطع .