إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

{ والسارق والسارقة } شروعٌ في بيان حكم السرقةِ الصُّغرى بعد بيان أحكام الكبرى ، وقد عرفت اقتضاءَ الحال لإيراد ما توسّط بينهما من المقال ، ولمّا كانت السرقة معهودةً من النساء كالرجال صرح بالسارقة أيضاً مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراجُ النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريق الدلالة لمزيد الاعتناءِ بالبيان والمبالغةِ في الزجْر ، وهو مبتدأ خبرُه عند سيبويه محذوفٌ تقديرُه وفيما يتلى عليكم أو وفيما فُرِضَ عليكم السارقُ والسارقةُ أي حكمُهما وعند المبرِّد قوله تعالى : { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } والفاء لتضمُّن المبتدأ معنى الشرط ، إذ المعنى الذي سرق والتي سرقت ، وقرئ بالنصب وفضَّلها سيبويه على قراءة الرفع ، لأن الإنشاء لا يقع خبراً إلا بتأويلٍ وإضمار ، والسرقةُ أخذُ مال الغير خُفْيةً ، وإنما توجب القطعَ إذا كان الأخذ من حِرزٍ والمأخوذُ يساوي عشرةَ دراهِمَ فما فوقها مع شروط فُصِّلت في موقعها ، والمراد ( بأيديَهما ) أيمانُهما كما يُفصحُ عنه قراءةُ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : والسارقاتُ فاقطعوا أيمانهم ، ولذلك ساغ وضعُ الجمْع موضعَ المثنى كما في قوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم ، الآية 4 ] اكتفاءً بتثنية المضاف إليه ، واليد اسمٌ لتمام الجارحة ، ولذلك ذهب الخوارجُ إلى أن المقطَعَ هو المنكب ، والجمهورُ على أنه الرُّسُغ ، لأنه عليه الصلاة والسلام أُتيَ بسارقٍ فأمر بقطع يمينِه منه . { جَزَاءً } نُصبَ على أنه مفعولٌ له أي فاقطعوا للجزاء ، أو مصدرٌ مؤكِّد لفعله الذي يدل عليه فاقطعوا ، أي فجاوزوهما جزاء ، وقوله تعالى : { بِمَا كَسَبَا } على الأول متعلّقٌ بجزاءً وعلى الثاني فاقطعوا ، و( ما ) مصدريةٌ ، أي بسبب كسْبِهما أو موصولةٌ أي ما كسباه من السرقة التي تباشَر بالأيدي ، وقوله تعالى : { نكالا } مفعولٌ له أيضاً على البدلية من ( جزاءً ) لأنهما من نوع واحد ، وقيل : القطعُ معلَّلٌ بالجزاء ، والقطعُ المعللُ معلَّلٌ بالنَّكال ، وقيل : هو منصوبٌ بجزاءً على طريقة الأحوال المتداخِلَة ، فإنه علةٌ للجزاء ، والجزاءُ علةٌ للقطع كما إذا قلتَ : ضربتُه تأديباً له إحساناً إليه ، فإن الضربَ معلَّلٌ بالتأديب والتأديبُ معللٌ بالإحسان ، وقد أجازوا في قوله عز وجل : { أَن يَكْفُرُوا بِمَا أنزَلَ الله بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } [ البقرة ، الآية 90 ] أن يكون ( بغياً ) مفعولاً له ناصبُه أن يكفروا ، ثم قالوا : إن قوله تعالى : { أَن يُنَزّل الله } مفعولٌ له ناصبُه بغياً على أن التنزيلَ عَلةٌ للبغي ، والبغْيَ علةٌ للكفر ، وقوله تعالى : { مِنَ الله } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لنكالاً كائناً منه تعالى { والله عَزِيزٌ } غالبٌ على أمره يُمضيه كيف يشاء من غير نِدٍّ ينازعُه ولا ضدّ يمانعُه { حَكِيمٌ } في شرائعه لا يَحكُم إلا بما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة ، ولذلك شرَعَ هذه الشرائعَ المنطويةَ على فنون الحِكَمِ والمصالح .