غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

27

ثم إنه تعالى عاد إلى تتميم حكم أخذ المال من غير استحقاق وهو المأخوذ على سبيل الخفية لا المحاربة فقال : { والسارق والسارقة } وهما مرفوعان على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه والأخفش والتقدير فيما فرض أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمها . وعند الفراء - وهو اختيار الزجاج - أن الألف واللام فيهما بمعنى الذي والتي وخبرهما : { فاقطعوا } ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط كأنه قيل : الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما . وقراءة عيسى بن عمر بالنصب وفضلها سيبويه على القراءة المشهورة لأن الإنشاء لا يحسن أن يقع خبراً إلاّ بتأويل وأما إذا نصبت فإنه يكون من باب الإضمار على شريطة التفسير والفاء يكون مؤذناً بتلازم ما قبلها وما بعدها مثل :{ وربك فكبر }[ المدثر :3 ] وضعف قول سيبويه بأنه طعن في قراءة واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيح للقراءة الشاذة وفيه ما فيه على أن الإضمار الذي ذهب إليه هو خلاف الأصل . والذي مال إليه الفراء أدل على العموم وأوفق لقوله سبحانه : { جزاء بما كسبا } فإنه تصريح بأن المراد من الكلام الأول هو الشرط والجزاء . أما البحث المعنوي في الآية فإن كثيراً من الأصوليين زعموا أنها مجملة لأنه لم يبين نصاب السرقة وذكر الأيدي وبالإجماع لا يجب قطع اليدين ، ولأن اليد تقع على الأصابع بدليل أن من حلف لا يلمس فلاناً بيده فلمسه بأصابعه فإنه يحنث ، وتقع على الأصابع مع الكف وعلى الأصابع والكف والساعدين إلى المرفقين وعلى كل ذلك إلى المنكبين . وأيضاً الخطاب في : { فاقطعوا } إما لإمام الزمان كما هو مذهب الأكثرين أو لمجموع الأمة أو لطائفة مخصوصة فثبت بهذه الوجوه أن الآية مجملة . وقال المحققون : مقتضى الآية ولا سيما في تقدير الفراء عموم القطع بعموم السرقة إلاّ أن السنة خصصته بالنصاب . أو نقول : إن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة بر إنه سارق . والمراد بالأيدي اليدان مثل :{ فقد صغت قلوبكما }[ التحريم :4 ] وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجب قطعهما معاً ولا الابتداء باليسرى . واليد اسم موضوع لهذا العضو إلى المنكب ولهذا قيد في قوله :{ وأيديكم إلى المرافق }[ المائدة :6 ] وقد ذهب الخوارج إلى وجوب قطع اليدين إلى المنكبين لظاهر الآية إلاّ أن السنة خصصته بالكوع . والحاصل أن الآية عامة لكنها خصصت بدلائل منفصلة فتبقى حجة في الباقي ، وهذا أولى من جعلها مجملة غير مفيدة أصلاً . ثم إن جمهور الصحابة والفقهاء ذهبوا إلى أن القطع لا يجب إلاّ عند شروط كالنصاب والحرز ، وخالف ابن عباس وابن الزبير والحسن وداود الأصفهاني والخوارج تمسكاً بعموم الآية ، ولأن مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة ، فالذي يستقله الملك يستكثره الفقير . وقد قال الشافعي : لو قال لفلان عليّ مال عظيم ثم فسره بالحبة يقبل لاحتمال أن يريد أنه عظيم في الحل أو عظيم عنده لشدة فقره .

ولما طعنت الملحدة في الشريعة بأن اليد كيف ينبغي أن تقطع في قليل مع أن قيمتها خمسمائة دينار من الذهب ، أجيب عنه بأن ذلك عقوبة من الشارع له على دناءته . وإذا كان هذا الجواب مقبولاً من الكل فليكن مقبولاً منا في إيجاب القطع على القليل والكثير . وأيضاً اختلاف المجتهدين في قدر النصاب كما يجيء يدل على أن الأخبار المخصصة عندهم متعارضة فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن . ودعوى الإجماع على أن القطع مخصوص بمقدار معين غير مسموعة لخلاف بعض الصحابة والتابعين كما قلنا . واعلم أن الكلام في السرقة يتعلق بأطراف المسروق ونفس السرقة والسارق . وأما المسروق فمن شروطه عند الأكثرين أن يكون نصاباً . ثم قال الشافعي : إنه ربع دينار من الذهب الخالص وما سواه يقوم به وهو مذهب الإمامية لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا قطع إلاّ في ربع دينار " وقال أبو حنيفة : النصاب عشرة دراهم لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا قطع إلا في ثمن المجن " والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم ، وقال مالك : ربع دينار أو ثلاثة دراهم . وعن أحمد روايتان كالشافعي وكمالك . وقال ابن أبي ليلى : خمسة دراهم . وعن الحسن : درهم . وفي مواعظه : " احذر من قطع يدك في درهم " . ومنها أن يكون المسروق ملك غير السارق لدى الإخراج من الحرز . فلو سرق مال نفسه من يد غيره كيد المرتهن والمستأجر أو طرأ ملكه في المسروق قل إخراجه من الحرز بأن ورثه السارق أو اتهبه وهو فيه سقط القطع . ومنها أن يكون محترماً لا كخمر وخنزير . ومنها أن يكون الملك تاماً قوياً . والمراد بالتمام أن لا يكون السارق فيه شركة أو حق كمال بيت المال ، وبالقوّة أن لا يكون ضعيفاً كالمستولدة والوقف . ومنها كون المال خارجاً عن شبهة استحقاق السارق ، فلو سرق رب الدين من مال المديون فإن أخذه لا على قصد استيفاء الحق أو على قصده والمديون غير جاحد ولا مماطل قطع ، وإن أخذه على قصد استيفاء الحق وهو جاحد أو مماطل فلا يقطع سواء أخذ من جنس حقه أو لا من جنسه . وإذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر وكان المال محرزاً عنه فعند أبي حنيفة لا يجب القطع . وعند الشافعي ومالك وأحمد يجب . ومنها كون المال محرزاً لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن " وحرز كل شيء على حسب حاله . فالإصطبل حرز الدواب وإن كانت نفيسة وليس حرزاً للثياب والنقود .

والصفة في الدار وعرصتها حرزان للأواني وثياب البذلة دون الحلي والنقود فإن العادة فيها الإحراز في الصناديق والمخازن . وعن أبي حنيفة أن ما هو حرز لمال فهو حرز لكل مال . وأما السرقة فهي إخراج المال عن أن يكون محرزاً ولا بد من شرط الخفية فلا قطع على المختلس والمنتهب والمعتمد على القوة ، ولا على المودع إذا جحد خلافاً لأحمد . وأما السارق فيشترط فيه التكليف والتزام الأحكام والاختيار ؛ فيقطع الذمي والمعاهد ولا يقطع المكره . وإنما تثبت السرقة بثلاث حجج : باليمين المردودة أو بالإقرار أو بشهادة رجلين . ويتعلق بها حكمان : الضمان والقطع . وقال أبو حنيفة : القطع والغرم لا يجتمعان . حجة الشافعي أن قوله صلى الله عليه وسلم : " على اليد ما أخذت حتى تؤدى " يوجب الضمان . وقد اجتمع في هذه السرقة أمران ، وحق الله لا يمنع حق العباد ولهذا يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك ، ولو كان المسروق باقياً وجب رده بالاتفاق . حجة أبي حنيفة قوله تعالى : { جزاء بما كسبا } والجزاء هو الكافي ، فهذا القطع كاف في جناية السرقة . ورد بلزوم رد المسروق عند كونه قائماً . أما كيفية القطع فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقطع يمينه . قال الشافعي : فإن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى ، فإن سرق ثالثاً فيده اليسرى ، فإن سرق رابعاً فرجله اليمنى ، وبه قال مالك . وروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبي حنيفة وأحمد لا يقطع في الثانية وما بعدها لما روي عن ابن مسعود أنه قرأ فاقطعوا أيمانهما ، وضعفه الشافعي بأن القراءة الشاذة لا تعارض ظاهر القرآن المقتضي لتكرر القطع بتكرر السرقة . واتفقوا على أنه يقطع اليد من الكوع ، والرجل من المفصل بين الساق والقدم . والسيد يملك إقامة الحد على مماليكه لعموم قوله : { فاقطعوا } ولم يجوّزه أبو حنيفة . واحتج المتكلمون بالآية في أنه يجب على الأمة نصب الإمام لأن هذا التكليف لا يتم إلاّ به وما لا يتم الواجب إلاّ به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب . وانتصاب { جزاء } و { نكالاً } على أنه مفعول لهما ، والعامل { اقطعوا } وإن شئت فعلى المصدر من الفعل الذي دل عليه : { فاقطعوا } أي جازوهم ونكلوا بهم { جزاء بما كسبا نكالاً من الله } .

/خ40