لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

قوله عز وجل : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } قال ابن السائب نزلت في طعمة بن أبيرق وقدمنا قصته في سورة النساء وإنما سمي السارق سارق لأنه يأخذ الشيء الذي ليس له أخذه في خفاء ومنه استرق السمع مستخفياً والسارق هنا مرفوع بالابتداء لأنه لم يقصد واحد بعينه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده والمراد باليد المذكورة هنا اليمين . قاله الحسن والشعبي والسدي وكذلك هو في قراءة عبد الله بن مسعود : فاقطعوا أيمانهما . وإنما قال : أيديهما ولم يقل يديهما ، لأنه أراد يميناً من هذا ويميناً من هذه فجمع فإنه ليس للإنسان إلا يمين واحدة وكل شيء موحد من أعضاء الإنسان إذا ذكر مضافاً إلى اثنين فصاعداً جمع والمراد باليد هنا الجارحة وحدها عند جمهور أهل اللغة من رؤوس الأصابع إلى الكوع فيجب قطعها في حد السرقة من الكوع . وقوله تعالى : { جزاء بما كسبا } يعني ذلك القطع جزاء على فعلهم { نكالاً من الله } يعني عقوبة من الله { والله عزيز } في انتقامه ممن عصاه { حكيم } يعني فيما أوجبه من قطع يد السارق .

( فصل في بيان حكم الآية : وفيه مسائل )

المسألة الأولى : اقتضت هذه وجوب القطع على كل سارق وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السرقة ( ق ) .

عن عائشة ، " أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : قالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فاختطب ثم قال : إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " وعن عائشة قالت : " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه فقالوا ما كنا نراك تبلغ به هذا قال لو كانت فاطمة لقطعتها " أخرجه النسائي ( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده " قال الأعمش : يرون أنه بيض الحديد وأن من الحبال ما يساوي دراهم أخرجه البخاري ومسلم ، أما السارق الذي يجب عليه القطع ، فهو البالغ ، العاقل ، العالم بتحريم السرقة ، فلو كان حديث عهد بالإسلام ولا يعلم أن السرقة حرام ، فلا قطع عليه .

المسألة الثانية : اختلف العلماء في قدر النصاب الذي يقطع به فذهب أكثر العلماء إلى أنه ربع دينار فإن سرق ربع دينار أو متاعاً قيمته ربع دينار يقطع ، وهذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وبه قال عمر بن العزيز والأوزاعي والشافعي . ويدل عليه ما روي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً " أخرجاه في الصحيحين وذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أنه ثلاثة دراهم أو قيمتها لما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم أخرجه الجماعة . المجن : الترس . ويروى عن أبي هريرة أن قدر النصاب الذي تقطع به اليد خمسة دراهم وبه قال ابن أبي ليلى لما روي عن أنس قال : قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم وفي رواية قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه النسائي . وقال : الرواية الأولى ، أصح . وذهب قوم إلى أنه لا قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم يروى ذلك عن ابن مسعود وإليه ذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم أخرجه أبو داود فإذا سرق نصاباً من المال من حرز لا شبهة له فيه قطعت يده اليمنى من الكوع ولا يجب القطع بسرقة ما دون النصاب وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن القدر غير معتبر فيجب القطع في القليل والكثير وكذا الحرز غير معتبر أيضاً عندهم وإليه ذهب داود الظاهري واحتجوا بعموم الآية فإن قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } يتناول القليل والكثير وسواء سرقة من حرز أو غير حرز .

المسألة الثالثة : الحرز ، هو ما جعل للسكنى وحفظ الأموال كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم فيها فكل حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أو مغلق ، فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة فإنه ليس بحرز إلا أن يكون عنده من يحفظه أما نباش القبور ، فإنه يقطع وهو قول مالك والشافعي وأحمد . وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة : لا قطع عليه ، فإن سرق شيئاً من غير حرز كثمر من بستان لا حارس له أو حيوان في برية ولا راعي له أو متاع في بيت منقطع عن البيوت فلا قطع عليه . عن عبد الله بن عمرو بن العاص " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال : " من أصاب بفيه منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه " أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي . وزاد فيه : ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة . ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة .

قوله : غير متخذ خبنة ، الخبنة : بالخاء المعجمة وبعدها باء موحدة من تحت نون وهو ما يحمله الإنسان في حضنه . وقيل : وما يأخذه من خبنة ثوبه وهو ذيله وأسفله . والجرين : موضع التمر الذي يجفف فيه مثل البيدر للحنطة . وروى مالك في الموطأ ، عن أبي حسين المكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن " هكذا رواه مالك منقطعاً . وهو رواية من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم فإن هذه الرواية عن أبي حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص قوله : ولا في حريسة الجبل . من العلماء من يجعل الحريسة السرقة نفسها . يقال : حرس يحرس حرساً إذا سرق ومنهم من يجعلها المحروسة . ومعنى الحديث : أنه ليس فيما يحرس في الجبل إذا سرق قطع لأنه ليس بحرز . وقيل : حريسة الجبل هي الشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل مأواها والمراح بضم الميم هو الموضع الذي تأوي إليه الماشية بالليل . عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع " أخرجه الترمذي والنسائي .

المسألة الرابعة : إذا سرق مالاً له فيه شبهة كالولد يسرق من مال والده والوالد يسرق من مال ابنه أو العبد يسرق من مال سيده أو الشريك يسرق من مال شريكه فلا قطع على أحد من هؤلاء فيه .

المسألة الخامسة : إذا سرق أول مرة قطعت يده اليمنى من الكوع وإذا سرق ثانية قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم واختلفوا فيما إذا سرق مرة ثالثة فذهب أكثرهم إلى أن تقطع يده اليسرى فإن سرق مرة رابعة قطعت رجله اليمنى ثم إذا سرق بعد ذلك يعذَّر ويحبس حتى تظهر توبته . يروى عن هذا عن أبي بكر وهو قول قتادة وبه قال مالك والشافعي لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " في السارق إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله " ذكره البغوي بغير سند وذهب قوم إلى أنه " إن سرق بعد ما قطعت يده ورجله فلا قطع عليه بل يحبس " ويروى عن علي أنه قال : إني أستحي أن لا أدع له يداً يستنجي بها ولا رجلاً يمشي بها . وهذا قول الشعبي والنخعي والأوزاعي وبه قال أحمد وأصحاب الرأي .