أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

{ ذلك الكتاب } ذلك إشارة إلى { الم } إن أول بالمؤلف من هذه الحروف أو فسر بالسورة أو القرآن فإنه لما تكلم به وتقضى ، أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعدا أشير إليه بما يشار به إلى البعيد وتذكيره ، متى أريد ب{ الم } السورة لتذكير الكتاب فإنه خبره أو صفته الذي هو هو ، أو إلى الكتاب فيكون صفته والمراد به الكتاب الموعود إنزاله بنحو قوله تعالى : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } أو في الكتب المتقدمة . وهو مصدر سمي به المفعول للمبالغة .

وقيل فعال بمعنى المفعول كاللباس ، ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب . وأصل الكتب الجمع ومنه الكتيبة .

{ لا ريب فيه } معناه أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحيا بالغا حد الإعجاز ، لا أن أحدا لا يرتاب فيه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } الآية فإنه ما أبعد عنهم الريب بل عرفهم الطريق المريح له ، وهو أن يجتهدوا في معارضة نجم من نجومه ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة .

وقيل : معناه لا ريب فيه للمتقين . وهدى حال من الضمير المجرور ، والعامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي . والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة ، وهي قلق النفس واضطرابها ، سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة . وفي الحديث " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة ، ومنه ريب الزمان لنوائبه .

{ هدى للمتقين } يهديهم إلى الحق ، والهدى في الأصل مصدر كالسرى والتقى ومعناه الدلالة .

وقيل الدلالة الموصلة إلى البغية لأنه جعل مقابل الضلالة في قوله تعالى : { لعلى هدى أو في ضلال مبين } ولأنه لا يقال مهدي إلا لمن اهتدى إلى المطلوب . واختصاصه بالمتقين لأنهم المهتدون به والمنتفعون بنصه ، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر وبهذا الاعتبار قال تعالى : { هدى للناس } . أو لأنه لا ينتفع بالتأمل فيه إلا من صقل العقل واستعمله في تدبر الآيات والنظر في المعجزات ، وتعرف النبوات ، لأنه كالغذاء الصالح لحفظ الصحة فإنه لا يجلب نفعا ما لم تكن الصحة حاصلة ، وإليه أشار بقوله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } ولا يقدح ما فيه من المجمل والمتشابه في كونه هدى لما لم ينفك عن بيان يعين المراد منه .

والمتقي اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى . والوقاية : فرط الصيانة . وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة ، وله ثلاث مراتب :

الأولى : التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى } .

الثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع ، وهو المعنى بقوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } .

الثالثة أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } وقد فسر قوله : { هدى للمتقين } ههنا على الأوجه الثلاثة .

واعلم أن الآية تحتمل أوجها من الإعراب : أن يكون { الم } مبتدأ على أنه اسم للقرآن . أو السورة . أو مقدر بالمؤلف منها ، وذلك خبره وإن كان أخص من المؤلف مطلقا ، والأصل أن الأخص لا يحمل على الأعم لأن المراد به المؤلف الكامل في تأليفه البالغ أقصى درجات الفصاحة ومراتب البلاغة والكتاب صفة ذلك .

وأن يكون الم خبر مبتدأ محذوف وذلك خبرا ثانيا . أو بدلا والكتاب صفته ، و{ لا ريب } في المشهورة مبني لتضمنه معنى من منصوب المحل على أنه اسم لا النافية للجنس العاملة عمل إن لأنها تقتضيها ولازمة للأسماء لزومها . وفي قراءة أبي الشعثاء مرفوع بلا التي بمعنى ليس وفيه خبره ولم يقدم كما قدم في قوله تعالى : { لا فيها غول } لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين سائر الكتب كما قصد ثمة ، أو صفته وللمتقين خبره . وهدى نصب على الحال ، أو الخبر محذوف كما في { لا } ، ضمير . فلذلك وقف على { لا ريب } ، على أن فيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره والتقدير : لا ريب فيه ، فيه هدى ، وأن يكون ذلك مبتدأ و{ الكتاب } خبره على معنى : أنه الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا ، أو صفته وما بعده خبره والجملة خبر { الم } .

والأولى أن يقال إنها جمل متناسقة تقرر اللاحقة منها السابقة ولذلك لم يدخل العاطف بينهما . ف{ الم } ، جملة دلت على أن المتحدى به هو المؤلف من جنس ما يركبون منه كلامهم ، وذلك الكتاب جملة ثانية مقررة لجهة التحدي ، و{ لا ريب فيه } ، جملة ثالثة تشهد على كماله بأن الكتاب المنعوت بغاية الكمال إذ لا كماله أعلى مما للحق واليقين . و{ هدى للمتقين } ، بما يقدر له مبتدأ جملة رابعة تؤكد كونه حقا لا يحوم الشك حوله بأنه { هدى للمتقين } ، أو تستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول ، وبيانه أنه لما نبه أولا على إعجاز المتحدى به من حيث إنه من جنس كلامهم وقد عجزوا عن معارضته ، استنتج منه أنه الكتاب البالغ حد الكمال واستلزم ذلك أن لا يتشبث الريب بأطرافه إذ لا أنقص مما يعتريه الشك والشبهة ، وما كان كذلك كان لا محالة { هدى للمتقين } ، وفي كل واحدة منها نكتة ذات جزالة ففي الأولى الحذف والرمز إلى المقصود مع التعليل ، وفي الثانية فخامة التعريف ، وفي الثالثة تأخير الظرف حذرا عن إبهام الباطل ، وفي الرابعة الحذف والتوصيف بالمصدر للمبالغة وإيراده منكرا للتعظيم وتخصيص الهدى بالمتقين باعتبار الغاية تسمية المشارف للتقوى متقيا إيجازا وتفخيما لشأنه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

{ ذلك الكتاب } .

مبدأ كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف { الم } [ البقرة : 1 ] كما علمتَ مما تقدم على جميع الاحتمالات كما هو الأظهر . وقد جوز صاحب « الكشاف » علَى احتمال أن تكون حروف { ألم } مسوقة مساق التهجي لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن ، أَن يكون اسمُ الإشارة مشاراً به إلى { الم } باعتباره حرفاً مقصوداً للتعجيز ، أي ذلك المعنى الحاصل من التهجي أي ذلك الحروف باعتبارها من جنس حروفكم هي الكتابُ أي منها تراكيبه فما أَعجزَكم عن معارضته ، فيكون { الم } جملة مستقلة مسوقة للتعريض .

واسم الإشارة مبتدأ و ( الكتابُ ) خبراً . وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لَدَيْهم يومئذٍ واسم الإشارة مبتدأ و ( الكتاب ) بدل وخبرُه ما بعده ، فالإشارة إلى ( الكتاب ) النازِل بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة ؛ لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به ، فيكون ( الكتاب ) على هذا الوجه أطلق حقيقة على ما كُتب بالفعل ، ويكون قوله ( الكتاب ) على هذا الوجه خبراً عن اسم الإشارة ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله مترقَّب فهو حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان ، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة إليه للحضور التقديري فيكون قوله ( الكتاب ) حينئذٍ بدلاً أو بياناً من { ذلك } والخبر هو { لا ريب فيه } .

ويجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد ، قال الرضي{[70]} « وُضِع اسم الإشارة للحضور والقرببِ لأنه للمشار إليه حسًّا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب ، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل ، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول : « واللَّهِ وذلك قسم عظيم » لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارةُ بلفظ الحضور فتقول وهذا قسم عظيم » ا هـ ، أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر ، وعكس ذلك في الإشارة للقول .

وابن مالك في « التسهيل » سوَّى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال : وقد يتعاقبان ( أي اسم القريب والبعيد ) مشاراً بهما إلى ماوَلياه أي من الكلام ، ومثَّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى : { ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } [ آل عمران : 58 ] ثم قال : { إن هذا لهو القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد ، وكلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة .

وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثلَ الإشارة إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضاً ، ففي القرآن : { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه } [ القصص : 15 ] فإذا كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالاً لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال ، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرِّفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى ، مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا ، وكما قال خُفاف بن نَدْبة{[71]} :

أقول لَه والرمحُ يأطر مَتْنَه *** تأمل خُفَافاً إِنني أَنَا ذلك{[72]}

وقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخَطِيم في « الحماسة » :

متَى يأتِ هذَا الموتُ لا يلفِ حاجة *** لنفسيَ إلا قد قضيتُ قضاءها

فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة . وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صوناً له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال ، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في { الم } [ البقرة : 1 ] كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهُجر القول كقولهم : { افتراه } [ يونس : 38 ] وقولهم : { أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] . ولا يرد على هذا قوله : { وهذا كتاب أنزلناه } [ الأنعام : 92 ] فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والإتعاظ بأوامره ونواهيه . ولعل صاحب « الكشاف » بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعُدَّ : { ذلك الكتاب } تنبيهاً على التعظيم أو الاعتبار ، فللَّه در صاحب « المفتاح » إذ لم يُغفل ذلك فقال في مقتضِيات تعريف المسند إليه بالإشارة : > .

وقوله : { الكتاب } يجوز أن يكون بدلاً من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته ، فالتعريف فيه إذن للعهد ، ويكون الخبر هو جملة { لا ريب فيه } ، ويجوز أن يكون ( الكتاب ) خبراً عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجُزءين فهو إذن قصر ادِّعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصفُ الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب ، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه الم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير ، ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغواً بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال .

و ( الكتاب ) فِعال بمعنى المكتوب إما مصدر كاتَب المصوغ للمبالغة في الكتابة ، فإن المصدر يجىء بمعنى المفعول كالخَلق ، وإما فعال بمعنى مَفعول كلِباس بمعنى ملبوس وعِماد بمعنى مَعمود به . واشتقاقه من كَتَب بمعنى جمع وضم لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه ، فإن النبيء صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة كل ما ينزل من الوحي وجعل للوحي كتاباً ، وتسمية القرآن كتاباً إشارة إلى وجوب كتابته لحفظه . وكتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين .

{ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } .

حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان على ما مر قريباً . والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس ، وريبُ الزمانِ وريبُ المنون نوائِب ذلك ، قال الله تعالى : { نتربص به ريب المنون } [ الطور : 30 ] ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه الشيء إذا شككه أي بِجَعلِ ما أوجب الشك في حاله فهو متعد ، ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لَحِق وأَلْحق ، وزَلَقه وأزلقه وقد قيل إن أراب أضعف من راب أراب بمعنى قَرَّبه من أن يشك قاله أبو زيد ، وعلى التفرقة بينهما قال بشار :

أخوك الذي إن ربته قال إنما *** أرَبْتَ وإن عاتبتَه لان جانبه{[73]}

وفي الحديث : " دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك " أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح .

ولم يختلف متواتر القراء في فتح { لا ريب } نفياً للجنس على سبيل التنصيص وهو أبلغه لأنه لو رفعَ لاحتمل نفي الفرد دون الجنس فإن كان الإشارة بقوله : { ذلك } إلى الحروف المجتمعة في { الم } على إرادة التعريض بالمتحَدَّيْنَ وكان قوله : { الكتاب } خبراً لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله : { لا ريب } نفياً لريب خاص وهو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب مؤلفاً من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله ، وكان نفي الجنس فيه حقيقة وليس بادعاء ، فتكون جملة { لا ريبَ } منزَّلة منزِلةَ التأكيد لمفاد الإشارة في قوله : { ذلك الكتاب } وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور وهو قوله : { فيه } متعلقاً بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله : { فيه ، وهو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى : { وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه } [ الشورى : 7 ] وقوله : { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } [ آل عمران : 9 ] ويجوز أن يكون قوله : { فيه } ظرفاً مستقراً خبراً لقوله بعده : { هدى للمتقين } ومعنى « في » هو الظرفية المجازية العرفية تشبيهاً لدلالة اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا : { لا تسمعوا لهذا القرآن } [ فصلت : 26 ] استنزالاً لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه ولذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد قول النبيء صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : " إنك امْرؤ فيك جاهلية " ويكون خبر ( لا ) محذوفاً لظهوره أي لا ريب موجود ، وحذف الخبر مستعمل كثيراً في أمثاله نحو : { قالوا لا ضير } [ الشعراء : 50 ] وقول العرب لا بأس ، وقول سعد بن مالك :

من صد عن نيرانها *** فأنا ابن قيس لا بَرَاحُ

أي لا بقاء في ذلك ، وهو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله : { لا ريب } وفي « الكشاف » أن نافعاً وعاصماً وقفا على قوله : { ريب } .

وإن كانت الإشارة بقوله : ذلك } إلى { الكتاب } باعتبار كونه كالحاضر المشاهد وكان قوله { الكتاب } بدلاً من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله : { فيه } ظرف لغو متعلق بريب وخبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في مثله ، والوقف على قوله { فيه } ، فيه معنى نفي وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفي الشك في أنه منزل من الله تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى الله تعالى وسيجىء خطابهم بقوله : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] فارتيابهم واقع مشتهر ، ولكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم . قال صاحب « المفتاح » : « ويقلبون القضية{[74]} مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر الإسلام : الإسلام حق وقوله عز وجل في حق القرآن : { لا ريب فيه } وكم من شقي مرتاب فيه وارد على هذا فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملاً في معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب أصلاً على طريقة التمثيل .

ومن المفسرين من فسر قوله تعالى : { لا ريب فيه } بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتياباً في صحته أي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازاً في سببه ويكون المجرور ظرفاً مستقراً خبرَ ( لا ) فيَنظُر إلى قوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] أي إن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين ، من كلام يناقض بعضه بعضاً أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة ، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبَّر فيه المتدبرُ وجده مفيداً اليقين بأنه من عند الله والآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة .

وهذا النفي ليس فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغني عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذٍ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للإخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر ، هَذا أساطير الأولين يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا سيما بعد قوله : { ذلك الكتاب } كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنتَ ساكت : هذا الكلام صوابٌ تعرض بغيره .

وبهذا الوجه أيضاً يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على { فيه } ولَدى من وقف { على ريب } ، لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر وكان الخبر محذوفاً أمكن الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة ، وقد ذكر « الكشاف » أن الظرف وهو قوله : { فيه } لم يقدم على المسند إليه وهو { ريب } ( أي على احتمال أن يكون خبراً عن اسم لا ) كما قُدم الظرف في قوله : { لا فيها غول } [ الصافات : 47 ] لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتاباً آخر فيه الريب ا هـ . يعني لأن التقديم في مثله يفيد الاختصاص فيكون مفيداً أن نفي الريب عنه مقصور عليه وأن غيره من الكتب فيه الريب وهو غير مقصود هنا . وليس الحصر في قوله : { لا ريب فيه } بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدَّيْنَ بالقرآن وليسوا من أهل كتاب حتى يُرد عليهم . وإنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند الله إذ هم قد دُعوا إلى معارضته فعَجزوا . نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا المشركين وشجعوهم على التكذيب به بأن القرآنَ لعلو شأنه بين نظرائه من الكُتب ليس فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلاً من الله إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما يوجب الارتياب فيه وذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدلِ المحرف فإن الشك في الحقائق رائد ظهورها . والفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها . وقد بنَى كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفي وهي بتلك الكيفية أفاد قصر النفي لا نفىَ القصر ، وأمثلة صاحب « المفتاح » في تقديم المسند للاختصاص سوَّى فيها بين ما جاء بالإثبات وما جاء بالنفي . وعندي فيه نظر سأذكره عند قوله تعالى : { ليس عليك هداهم } [ البقرة : 272 ] . وحكم حركة هاء الضمير أو سكونها مقررة في علم القراءات في قسم أصولها .

وقوله : { هدى للمتقين } الهدى اسم مصدر الهَدْي ليس له نظير في لغة العرب إلا سُرًى وتُقىً وبُكًى ولُغًى مصدر لغي في لغة قليلة . وفعله هدَى هدياً يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى وربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع فيما تقدم في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] .

والهدى على التحقيق هو الدلالة التي من شأنها الإيصال إلى البغية وهذا هو الظاهر في معناه لأن الأصل عدم الترادف فلا يكون هُدى مرادفاً لدل ولأن المفهوم من الهُدى الدلالة الكاملة وهذا موافق للمعنى المنقول إليه الهدى في العرف الشرعي . وهو أسعد بقواعد الأشعري لأن التوفيق الذي هو الإيصال عند الأشعري مِنْ خلق الله تعالى في قلب الموفَّق فيناسب تفسير الهداية بما يصلح له ليكون الذي يهدي يوصل الهداية الشرعية . فالقرآن هدى ووصفه بالمصدر للمبالغة أي هو هاد .

والهدى الشرعي هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل . وأثر هذا الهدى هو الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون ، وهذا معنى لا يختلف فيه وإنما اختلف المتكلمون في منشأ حصول الاهتداء وهي مسألة لا حاجة إليها في فهم الآية . وتفصيل أنواع الهداية تقدم عند قوله تعالى : { اهدنا الصراط } . ومحل ( هدى ) إن كان هو صدر جملة أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف هو ضمير ( الكتاب ) فيكون المعنى الإخبار عن الكتاب بأنه الهدى وفيه من المبالغة في حصول الهداية به ما يقتضيه الإخبار بالمصدر للإشارة إلى بلوغه الغاية في إرشاد الناس حتى كانَ هو عين الهُدى تنبيهاً على رجحان هُداه على هدى ما قبله من الكتب ، وإن كان الوقف على قوله { لا ريب } وكان الظرف صدرَ الجملةِ الموالية وكان قوله { هدى } مبتدأ خبره الظرف المتقدم قبله فيكون إخباراً بأن فيه هدى فالظرفية تدل على تمكن الهدى منه فيساوي ذلك في الدلالة على التمكن الوجهَ المتقدم الذي هو الإخبار عنه بأنه عين الهدى .

والمتقي من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية ، والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر ، والمراد هنا المتقين الله ، أي الذين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرىء عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا .

والتقوى الشرعية هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهراً وباطناً أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجباً غضبه وعقابه ، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم .

والمراد من الهُدَى ومن المتقين في الآية معناهما اللغوي فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله هذا هو الظاهر ، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله تعالى : { الذين يؤمنزن بالغيب } إلى قوله { من قبلك } .

وفي بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة :

الأول : أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل والمراد حال النطق . والمتقون هم المتقون في الحال أيضاً لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا ، أي إن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب ، أو يزيده هدى كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } [ محمد : 17 ] .

الثاني : أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب ، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا وعليه فيكون مدحاً للكتاب بمشاهدة هديه وثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به وإطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى فيما مضى ، وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل إطلاق يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب .

الثالث : أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل وتُعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في { هدى } لأن المصدر لا يدل على زمان معين .

حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل ، لو وُصف باسم الفاعل فقيل هادٍ للمتقين ، فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه ، فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين ، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى ، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم ، فمن منتفع بهديه في الدين ، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة ، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل ، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين ، وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم . وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى ، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] فإن قَصَّر بأحد سعيُه عن كمال الانتفاع به ، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية ، ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن .

وتلتئم الجمل الأربع كمالَ الالتئمام : فإن جملة { الم } [ البقرة : 1 ] تسجيل لإعجاز القرآن وإنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته وهو مؤلف من حروف كلامهم وكفى بهذا نداء على تعنتهم .

وجملة : { ذلك الكتاب } تنويه بشأنه وأنه بالغ حد الكمال في أحوال الكتب ، فذلك موجه إلى الخاصة من العقلاء أن يقول لهم هذا كتاب مؤلف من حروف كلامكم ، وهو بالغ حد الكمال من بين الكتب ، فكان ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه والافتخار بأنْ منحتموه فإنكم تعُدون أنفسكم أفضل الأمم ، فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب فوزان هذا وزان قوله تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا إلى قوله : { ورحمة } [ الأنعام : 156 ، 157 ] ، وموَجَّه إلى أهل الكتاب بإيقاظهم إلى أنه أفضل مما أوتوه .

وجملةُ : { لا ريب } إن كان الوقف على قوله : { لا ريب } تعريضٌ بكل المرتابين فيه من المشركين وأهل الكتاب أي إن الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة ، وأن ( لا ريب ) فإنه الكتاب الكامل ، وإن كان الوقف على قوله : { فيه } كان تعريضاً بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما فيهما من مثار الريب والشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس ، قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] .

وقال في « الكشاف » : ثم لم تخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن نظمت هذا التنظيم السري من نكتة ذاتِ جزالة : ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر وهو الهدى موضع الوصف وإيراده منكراً والإيجاز في ذكر المتقين ا هـ . فالتقوى إذن بهذا المعنى هي أساس الخير ، وهي بالمعنى الشرعي الذي هو غاية المعنى اللغوي جماع الخيرات . قال ابن العربي لم يتكرر لفظ في القرآن مثلما تكرر لفظ التقوى اهتماماً بشأنها .


[70]:شرح كافية ابن الحاجب صفحة 32 جزء 2 طبع الآستانة.
[71]:- خفاف بضم الخاء وتخفيف الفاء هو خفاف بن عمير وأمه ندبة أمة سوداء. وهي بفتح النون. وخفاف أحد فرسان العرب وشعرائهم ممن لقب بالغراب، وأغربة العرب سودانهم وهم خمسة جاهليون، وثمانية مسلمون، فاما الجاهليون فهو: عنترة، وخفاف، وأبو عمير بن الحباب، وسليك بن السلكة، وهشام بن عقبة بن أبي معيط، فخفاف وهشام أدركا الإسلام وعدا في الصحابة وشهدخفاف فتح مكة وأبلى البلاء الحسن. وأما الأغربة المسلمون فهم: تأبط شرا، والشنفرىى- عمرو بن براقة- وعبد الله بن حازم، وعمير بن أبي عمير وهمام بن مطرف، ومننتشر بن وهب، ومطر بن أبي أوفى، وحاجز بحاء ثم جيم ثم زاي معجمة غير منسوب.
[72]:- يأطر مضارع أطر كنصر وضرب، بمعنى أحنى وكسر قال طرفة: * وأطر قسي فوق صلب مؤيد *
[73]:- أي إن فعلت معه ما يوجب شكه في مودتك راجع نفسك. وقال إنما قربني من الشك ولم أشك فيه، أي التمس لك العذر.
[74]:- أي قضية التأكيد للخبر الموجه إلى منر مضون الخبر.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ذلك الكتاب}، بمعنى هذا الكتاب، {لا ريب فيه}، يعني لا شك فيه أنه من الله جاء، وهو أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: هذا القرآن {هدى} من الضلالة {للمتقين} من البشر.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ}

قال عامة المفسرين: تأويل قول الله تعالى:"ذَلِكَ الكِتَابُ": هذا الكتاب...

فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون «ذلك» بمعنى «هذا»؟ و«هذا» لا شك إشارة إلى حاضر معاين، و«ذلك» إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين؟ قيل: جاز ذلك لأن كل ما تقضّى وقَرُب تقضيه من الأخبار فهو وإن صار بمعنى غير الحاضر، فكالحاضر عند المخاطب وذلك كالرجل يحدّث الرجل الحديث، فيقول السامع: إن ذلك والله لكما قلت، وهذا والله كما قلت، وهو والله كما ذكرت. فيخبر عنه مرة بمعنى الغائب إذ كان قد تقضّى ومضى، ومرة بمعنى الحاضر لقرب جوابه من كلام مخبره كأنه غير منقضٍ، فكذلك ذلك في قوله: (ذَلِكَ الكِتابُ) لأنه جل ذكره لما قدم قبل (ذلك الكتاب) (الم) التي ذكرنا تصرّفها في وجوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد هذا الذي ذكرته وبينته لك الكتابُ. ولذلك حسن وضع «ذلك» في مكان «هذا»، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمنه قوله: (الم) من المعاني بعد تقضي الخبر عنه بألم، فصار لقرب الخبر عنه من تقضيه كالحاضر المشار إليه، فأخبر عنه بذلك لانقضائه ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب. وترجمه المفسرون أنه بمعنى «هذا» لقرب الخبر عنه من انقضائه، فكان كالمشاهد المشار إليه بهذا نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم...

وقد يحتمل قوله جل ذكره: (ذَلِكَ الكِتَابُ) أن يكون معنيا به السور التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة، فكأنه قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد اعلم أن ما تضمنته سور الكتاب التي قد أنزلتها إليك هو الكتاب الذي لا ريب فيه. ثم ترجمه المفسرون بأن معنى «ذلك»: «هذا الكتاب»، إذ كانت تلك السور التي نزلت قبل سورة البقرة من جملة جميع كتابنا هذا الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون لأن ذلك أظهر معاني قولهم الذي قالوه في ذلك... "لا رَيْبَ فِيهِ": لا شك فيه...

"هُدًى"... عن الشعبي: هُدًى قال: هدى من الضلالة...

عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (هُدًى للمتّقِينَ) يقول: نور للمتقين.

والهدى في هذا الموضع مصدر من قولك: هديت فلانا الطريق إذا أرشدته إليه، ودللته عليه، وبينته له، أهديه هُدًى وهداية.

فإن قال لنا قائل: أو ما كتاب الله نورا إلا للمتقين ولا رشادا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه ربنا عز وجل، ولو كان نورا لغير المتقين، ورشادا لغير المؤمنين لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى، بل كان يعم به جميع المنذرين ولكنه هدى للمتقين، وشفاء لما في صدور المؤمنين، ووَقْرٌ في آذان المكذّبين، وعمى لأبصار الجاحدين، وحجة لله بالغة على الكافرين فالمؤمن به مهتد، والكافر به محجوج...

"للْمُتّقِينَ"... عن الحسن قوله: (للْمُتّقِينَ) قال: اتقوا ما حرم عليهم وأدّوا ما افترض عليهم...

عن ابن عباس: (للْمُتّقِينَ) أي الذين يحذرون من الله عز وجل عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به...

عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (هُدى للْمُتّقِينَ) قال: هم المؤمنون...

عن قتادة: (هُدًى للْمُتّقِينَ) هم مَنْ نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم فقال: (الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)...

عن ابن عباس: (للْمُتّقِين) قال: المؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي.

وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه: (هُدًى للْمُتّقينَ) تأويل من وصف القوم بأنهم الذين اتقوا الله تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه، فتجنبوا معاصيه واتقوه فيما أمرهم به من فرائضه فأطاعوه بأدائها. وذلك أن الله عز وجل إنما وصفهم بالتقوى فلم يحصر تقواهم إياه على بعضها من أهل منهم دون بعض. فليس لأحد من الناس أن يحصر معنى ذلك على وصفهم بشيء من تقوى الله عز وجل دون شيء إلا بحجة يجب التسليم لها، لأن ذلك من صفة القوم لو كان محصورا على خاصّ من معاني التقوى دون العام منها لم يَدَع الله جل ثناؤه بيان ذلك لعباده، إما في كتابه، وإما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذْ لم يكن في العقل دليل على استحالة وصفهم بعموم التقوى.

فقد تبين إذا بذلك فساد قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتقوا الشرك وبرءوا من النفاق، لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق غير مستحق أن يكون من المتقين. إلا أن يكون عند قائل هذا القول معنى النفاق ركوب الفواحش التي حرمها الله جل ثناؤه وتضييع فرائضه التي فرضها عليه، فإن جماعة من أهل العلم قد كانت تسمي من كان يفعل ذلك منافقا، فيكون وإن كان مخالفا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم مصيبا تأويل قول الله عز وجل للمتقين.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

أصل الاتقاء الحجز بين الشيئين؛ ومنه اتقاه بالترس لأنه جعله حاجزا بينه وبينه، واتقاه بحق كذلك، ومنه الوقاية لأنها تحجز بين الرأس والأذى.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

كأن المتقي يجعل امتثال أمر الله والاجتناب عن نهيه حاجزا بينه وبين العذاب، فيتحرز بطاعة الله عن عقوبة الله.

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

تخصيص المتقين بالذكر تشريف لهم، أو لأنهم هم المنتفعون بالهدى.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... الريب: مصدر رابني، إذا حصل فيك الريبة. وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها. ومنه ما روى الحسن بن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة، وإنّ الصدق طمأنينة».

{فِيهِ هُدًى} الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابلته. قال الله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 24]...

ويقال: مهدي، في موضع المدح كمهتد؛ ولأن اهتدى مطاوع هدى، ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله...والمتقي في اللغة اسم فاعل، من قولهم: وقاه فاتقى. والوقاية: فرط الصيانة. ومنه: فرس واق، وهذه الدابة تقي من وجاها، إذا أصابه ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه.

وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. واختلف في الصغائر، وقيل الصحيح أنه لا يتناولها، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر...

والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن... يقال إن قوله: {الم} جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. و {ذلك الكتاب} جملة ثانية. و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} ثالثة. و {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} رابعة. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم؛ حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض؛ فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة. بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدّى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريراً لجهة التحدي، وشدّاً من أعضاده. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلاً بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء: فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحاً، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرّر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم لم تخل كل واحدة من الأربع، بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السري، من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة. وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف. وفي الرابعة الحذف. ووضع المصدر الذي هو {هُدًى} موضع الوصف الذي هو «هاد» وإيراده منكراً. والإيجاز في ذكر المتقين.

زادنا الله إطلاعاً على أسرار كلامه، وتبييناً لنكت تنزيله، وتوفيقاً للعمل بما فيه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قوله تعالى {لا ريب فيه}، فيه مسألتان:

المسألة الأولى: الريب قريب من الشك، وفيه زيادة، كأنه ظن سوء؛ تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء، ومنها قوله عليه السلام «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»...

فقوله تعالى {لا ريب فيه} المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شبهة في صحته، ولا في كونه من عند الله، ولا في كونه معجزا. ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزا على الخصوص كان أقرب؛ لتأكيد هذا التأويل بقوله {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا}...

المسألة الثانية: الوقف على {فيه} هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على {لا ريب}...واعلم أن القراءة الأولى أولى؛ لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى، والله أعلم.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

...وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبيا عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم: قال فما عملت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى.

... التقوى فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الأولين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الإنسان...

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

في درجات التقوى وهي خمس: أن يتقي العبد الكفر وذلك مقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والحرمات وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد، وأن يتقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان معنى {الم} هذا كتاب من جنس حروفكم التي قد فقتم في التكلم بها سائر الخلق، فما عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله إلا لأنه كلام الله، أنتج ذلك كماله، فأشير إليه بأداة البعد ولام الكمال في قوله: {ذلك الكتاب} لعلو مقداره بجلالة آثاره، وبعد رتبته عن نيل المطرودين. ولما علم كماله أشار إلى تعظيمه بالتصريح بما ينتجه ويستلزمه ذلك التعظيم فقال {لا ريب فيه} أي في شيء من معناه ولا نظمه في نفس الأمر عند من تحقق بالنظر، فالمنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له، ولم يقدم الظرف لأنه كان يفيد الاختصاص فيفهم أن غيره من الكتب محل الريب.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{ذلك الكتاب} الكتاب بمعنى المكتوب، وهو اسم جنس لما يكتب، والمراد بالكتاب هذه الرقوم والنقوش ذات المعاني. والإشارة تفيد التعيين الشخصي أو النوعي. وليس المراد هنا نوعا من أنواع الكتب، بل المراد كتاب معروف معهود للنبي صلى الله عليه وسلم بوصفه. وذلك العهد مبني على صدق الوعد من الله بأنه يؤيده بكتاب تام كامل كافل لطلاب الحق بالهداية والإرشاد، في جميع شؤون المعاش والمعاد. فأشار بذلك إليه. ولا يضر أنه لم يكن موجودا كله وقت نزوله أمثال هذه الإشارة، فقد يكفي في صحتها وجود البعض. وقد كان نزل من القرآن جملة عظيمة قبل نزول أول هذه السورة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها فكتبت وحفظت، فالإشارة إليها إشارة إليه بل يكفي في صحة الإشارة أن يشار إلى سورة البقرة نفسها لأنه يصح فيها وصف {هدى للمتقين} والأول أشبه، والإشارة إلى الكتاب كله عند نزول بعضه إشارة إلى أن الله تعالى منجز وعده للنبي صلى الله عليه وسلم بإكمال الكتاب كله.

ومن حكمة الإشارة إليه بهذا الكتاب (أي المكتوب المرقوم) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابته دون غيره، فهو الكتاب وحده، ولا يضر أنه عند النزول لم يكن مكتوبا بالفعل... والإشارة البعيدة بالكاف يراد بها بعد مرتبته في الكمال: وعلوها عن متناول قريحة شاعر أو مقول خطيب قوال، والبعد والقرب في الخطاب الإلهي إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين، ولا يقال: إن شيئا بعيدا عنه تعالى أو قريبا منه في المكان الحسي لأن كل الأشياء بالنسبة إليه تعالى سواء. وإنما القرب منه والبعد عنه تعالى معنوي وهو أقرب إلينا من أنفسنا بعلمه.

{لا ريب فيه} الريب والريبة: الشك والظنة (التهمة) والمعنى: أن ذلك الكتاب مبرأ من وصمات العيب فلا شك فيه، ولا ريبة تعتريه، لا من جهة كونه من عند الله تعالى، ولا في كونه هاديا مرشدا، ويصح أن يقال: إنه في قوة آياته، ونصوع بيناته، بحيث لا يرتاب عاقل منصف، غير متعنت ولا متعسف، في كونه هداية مفاضة من سماه الحق، مهداة إلى الخلق، على لسان أمي لم يسبق له قبله الاشتغال بشيء من علومه، ولا الإتيان بكلام يقرب منه في بلاغته، ولا في أسلوبه حتى بعد نبوته، -ولهذا قال فيما يأتي قريبا {22 وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} وحاصله: أنه كذلك في كل من نظمه وأسلوبه وبلاغته، ومن معانيه وعلومه وتأثيره في الهداية – لا يمكن أن توجه إليه الشبهة، أو تحوم حوله الريبة، سواء أشك في ذلك أحد بجهالته وعمى بصيرته – أو بتكلفه ذلك عنادا أو تقليدا – أم لا.

{هدى للمتقين}... والمراد بالهداية هنا الدلالة على الصراط المستقيم مع المعونة الخاصة والأخذ باليد على ما تقدم في تفسير المراد من {اهدنا الصراط} لأن كونه هاديا للمتقين بالفعل غير كونه هاديا – دالا – سائر الناس من غير مراعاة أخذهم بدلالته، واستقامتهم على طريقته، وكلمة "المتقين "من الاتقاء والاسم التقوى وأصل المادة: وقى يقي. والوقاية معروفة المعنى، وهو البعد أو التباعد عن المضر أو مدافعته، ولكن نجد هذا الحرف مستعملا بالنسبة إلى الله تعالى كقوله {فإياي فاتقون – واتقوا الله – واتقون يا أولي الألباب لعلكم تفلحون} فمعنى اتقاء الله تعالى اتقاء عذابه وعقابه، وإنما تضاف التقوى إلى الله تعالى تعظيما لأمر عذابه وعقابه، وإلا فلا يمكن لأحد أن يتقي ذات الله تعالى ولا تأثير قدرته، ولا الخضوع الفطري لمشيئته...

إن العقاب الإلهي الذي يجب على الناس اتقاؤه قسمان: دنيوي وأخروي: وكل منهما يتقى باتقاء أسبابه، وهي نوعان:

مخالفة دين الله وشرعه.

ومخالفة سننه في نظام خلقه.

فأما عقاب الآخرة فيتقى بالإيمان الصحيح، والتوحيد الخالص، والعمل الصالح، واجتناب ما ينافي ذلك من الشرك والكفر والمعاصي والرذائل، وذلك مبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم...

وأما عقاب الدنيا فيجب أن يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله تعالى في هذا العالم، ولا سيما سنن اعتدال المزاج وصحة الأبدان... وسنن الاجتماع البشري، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال يتوقف على معرفة نظام الحرب وفنونه، وإتقان آلاتها وأسلحتها... كما يتوقف على أسباب القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة والصبر والثبات والتوكل على الله واحتساب الأجر عنده {8: 45 يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 46 وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(ذلك الكتاب لا ريب فيه.. هدى للمتقين)..

الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته.. ولكن لمن؟ لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونورا ودليلا ناصحا مبينا؟.. للمتقين.. فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب. هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك. هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب...

لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم. بقلب خالص. ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى، ويحذر أن يكون على ضلالة، أو أن تستهويه ضلالة.. وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقيا، خائفا، حساسا، مهيأ للتلقي...

التقوى.. حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، وخشية مستمرة، وحذر دائم، وتوق لأشواك الطريق.. طريق الحياة.. الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات، وأشواك المطامع والمطامح، وأشواك المخاوف والهواجس، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا. وعشرات غيرها من الأشواك!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والهدى الشرعي هو: الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل. وأثر هذا الهدى هو الاهتداء، فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون.

...وفي بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة:

الأول: أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل والمراد حال النطق. والمتقون هم المتقون في الحال أيضاً لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا...

الثاني: أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي إن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا...

الثالث: أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل، وتُعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في {هدى} لأن المصدر لا يدل على زمان معين.

حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل، لو وُصف باسم الفاعل فقيل هادٍ للمتقين...

فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم، ومبالغ علمهم، واختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين، وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}

... القول بأنه الكتاب، تمييز له عن كل كتب الدنيا، وتمييز له عن كل الكتب السماوية التي نزلت قبل ذلك، فالقرآن هو الكتاب الجامع لكل أحكام السماء، منذ بداية الرسالات حتى يوم القيامة...

والقرآن هو الكتاب، لأنه لن يصل إليه أي تحريف أو تبديل، فرسالات السماء السابقة ائتمن الله البشر عليها، فنسوا بعضها، وما لم ينسوه حرفوه، وأضافوا إليه من كلام البشر، ما نسبوه إلى الله سبحانه وتعالى ظلما وبهتانا، ولكن القرآن الكريم محفوظ من الخالق الأعلى، مصداقاً لقوله تعالى:

{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (سورة الحجر "9 ").

...فالقرآن نزل ليفرق بين الحق الذي جاءت به الكتب السابقة، وبين الباطل الذي أضافه أولئك الذي ائتمنوا عليها.

... وحتى نفهم المنطلق الذي نأخذ منه قضايا الدين، والتي سيكون دستورنا في الحياة، فلابد أن نعرف ما هو الهدى ومن هم المتقون؟

الهدى هو: الدلالة على طريق يوصلك إلى ما تطلبه. فالإشارات التي تدل المسافر على الطريق هي هدى له لأنها تبين له الطريق الذي يوصله إلى المكان الذي يقصده.. والهدى يتطلب هاديا ومهديا وغاية تريد أن تحققه. فإذا لم يكن هناك غاية أو هدف فلا معنى لوجود الهدى لأنك لا تريد أن تصل إلى شيء.. وبالتالي لا تريد من أحد أن يدلك على طريق.

إذن لابد أن نوجد الغاية أولا ثم نبحث عمن يوصلنا إليها.

وهنا نتساءل من الذي يحدد الهدف ويحدد لك الطريق للوصول إليه؟ إذا أخذنا بواقع حياة الناس فإن الذي يحدد لك الهدف لابد أن تكون واثقا من حكمته.. والذي يحدد لك الطريق لابد أن يكون له من العلم ما يستطيع به أن يدلك على أقصر الطرق لتصل إلى ما تريد...

إذن فكلنا محتاجون إلي كامل العلم والحكمة ليرسم لنا طرق حياتنا.. وأن يكون قادرا على كل شيء، ومالكا لكل شيء، والكون خاضعا لإرادته حتى نعرف يقينا أن ما نريده سيتحقق، وأن الطريق الذي سنسلكه سيوصلنا إلي ما نريده. وينبهنا الله سبحانه وتعالى إلى هذه القضية فيقول:

{قل إن هدى الله هو الهدى} (من الآية 120سورة البقرة).

إن الله يريد أن يلفت خلقه إلى أنهم إذا أرادوا أن يصلوا إلى الهدف الثابت الذي لا يتغير فليأخذوه عن الله. وإذا أرادوا أن يتبعوا الطريق الذي لا توجد فيه أي عقبات أو متغيرات.. فليأخذوا طريقهم عن الله تبارك وتعالى.. إنك إذا أردت باقيا.. فخذ من الباقي، وإذا أردت ثابتا.. فخذ من الثابت

...ذلك أن من وضع القوانين من البشر له هدف يريد أن يحققه، ولكن الله جل جلاله لا هوى له.. فإذا أردت أن تحقق سعادة في حياتك، وأن تعيش آمنا مطمئنا.. فخذ الهدف عن الله، وخذ الطريق عن الله. فإن ذلك ينجيك من قلق متغيرات الحياة التي تتغير وتتبدل. والله قد حدد لخلقه ولكل ما في كونه أقصر طريق لبلوغ سعادته. والذين لا يأخذون هذا الطريق يتعبون أنفسهم ويتعبون مجتمعهم ولا يحققون شيئا.

إذن فالهدف يحققه الله لك، والطريق يبينه الله لك.. وما عليك إلا أن تجعل مراداتك في الحياة خاضعة لما يريده الله.