أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الرعد وقيل مكية إلا قوله : { ويقول الذين كفروا . . الآية } وهي ثلاث وأربعون آية .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ آلمر } قيل معناه أنا الله أعلم وأرى . { تلك آيات الكتاب } يعني بالكتاب السورة و { تلك } إشارة إلى آياتها أي : تلك الآيات آيات السورة الكاملة أو القرآن . { والذي أُنزل إليك من ربك } هو القرآن كله ومحله الجر بالعطف على { الكتاب } عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى ، أو الرفع بالابتداء وخبره { الحق } والجملة كالحجة على الجملة الأولى ، وتعريف الخبر وإن دل على اختصاص المنزل بكونه حقا فهم أعم من المنزل صريحا أو ضمنا ، كالمثبت بالقياس وغيره مما نطق المنزل بحسن اتباعه . { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

سورة الرعد . بسم الله الرحمن الرحيم هذه السورة مكية قاله سعيد بن جبير ، وقال قتادة هي مدنية غير قوله { ولو أن قرآنا سيرت } الآية {[1]}حكاه الزهراوي ، وحكى المهدوي عن قتادة أن السورة مكية إلا قوله تعالى { ولا يزال الذين كفروا } {[2]} . قال القاضي أبو محمد وقال النقاش هي مكية غير آيتين قوله { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم } . وقوله { ومن عنده علم الكتاب } {[3]} والظاهر عندي أن المدني فيها كثير وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني . وقيل : السورة مدنية حكاه منذر بن سعيد البلوطي وحكاه مكي بن أبي طالب{[4]} .

تقدم القول في فواتح السور وذكر التأويلات في ذلك إلا أن الذي يخص هذا الموضع من ذلك هو ما قال ابن عباس رضي الله عنه : إن هذه الحروف هي من قوله : «أنا الله أعلم وأرى » . ومن قال : إن حروف أوائل السور هي مثال لحروف المعجم - قال : الإشارة هنا ب { تلك } هي إلى حروف المعجم ، ويصح - على هذا - أن يكون { الكتاب } يراد به القرآن ، ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل . و { المر } - على هذا - ابتداء ، و { تلك } ابتداء ثان - و { آيات } خبر الثاني ، والجملة خبر الأول - وعلى قول ابن عباس في { المر{[6879]} } يكون { تلك } ابتداء و { آيات } بدل منه ، ويصح في { الكتاب } التأويلات اللذان تقدما .

وقوله : { والذي أنزل إليك من ربك الحق } { الذي } رفع بالابتداء و { الحق } خبره - هذا على تأويل من يرى { المر } حروف المعجم ، و { تلك آيات } ابتداء وخبر . وعلى قول ابن عباس يكون { الذي } عطفاً على { تلك } و { الحق } خبر { تلك } . وإذا أريد ب { الكتاب } القرآن فالمراد ب { الذي أنزل } جميع الشريعة : ما تضمنه القرآن منها وما لم يتضمنه . ويصح في { الذي } أن يكون في موضع خفض عطفاً على الكتاب ، فإن أردت مع ذلك ب { الكتاب } القرآن ، كانت «الواو » عطف صفة على صفة لشيء واحد ، كما تقول : جاءني الظريف والعاقل ، وأنت تريد شخصاً واحداً{[6880]} ، ومن ذلك قول الشاعر : [ المتقارب ]

إلى الملك القرم وابن الهمام ***وليث الكتيبة في المزدحم

وإن أردت مع ذلك ب { الكتاب } التوراة والإنجيل ، فذلك بيّن ، فإن تأولت مع ذلك { المر } حروف المعجم - رفعت قوله : { الحق } على إضمار مبتدأ تقديره : هو الحق ، وإن تأولتها كما قال ابن عباس ف { الحق } خبر { تلك } ومن رفع { الحق } بإضمار ابتداء وقف على قوله : { من ربك } وباقي الآية ظاهر بين إن شاء الله .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.
[4]:- هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر.
[6879]:هذا في الأصل هو رأي الفراء، وأجازه الحوفي مع ابن عطية، وذكره أيضا الطبري في تفسيره، وقال : "ثم يبتديء الحق بمعنى: "ذلك الحق"، فيكون رفعه بمضمر من الكلام قد استغنى بدلالة الظاهر عليه منه".
[6880]:القرم (بفتح القاف) : السيد المعظم، قيل له ذلك على التشبيه بالفحل الذي يترك من الركوب والعمل و يودع للفحلة. والكتيبة: الطائفة المحدودة من الجيش. والمزدحم: محل الازدحام، والشاهد هنا أن الواو عطفت صفات لشيء واحد، والشاعر يريد: إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (1)

مقدمة السورة:

هكذا سميت من عهد السلف . وذلك يدل على أنها مسماة بذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يختلفوا في اسمها .

وإنما سميت بإضافتها إلى الرعد لورود ذكر الرعد فيها بقوله تعالى { ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق } . فسميت بالرعد لأن الرعد لم يذكر في سورة مثل هذه السورة ، فإن هذه السورة مكية كلها أو معظمها . وإنما ذكر الرعد في سورة البقرة وهي نزلت بالمدينة وإذا كانت آيات { هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا } إلى قوله { وهو شديد المحال } مما نزل بالمدينة ، كما سيأتي تعين أن ذلك نزل قبل نزول سورة البقرة .

وهذه السورة مكية في قول مجاهد وروايته عن ابن عباس ورواية علي بن أبي طلحة وسعيد بن جبير عنه وهو قول قتادة . وعن أبي بشر قال : سألت سعيد ابن جبير عن قوله تعالى { ومن عنده علم الكتاب } أي في آخر سورة الرعد أهو عبد الله بن سلام? فقال : كيف وهذه سورة مكية ، وعن ابن جريج وقتادة في رواية عنه وعن ابن عباس أيضا : أنها مدنية ، وهو عن عكرمة والحسن البصري ، وعن عطاء عن ابن عباس . وجمع السيوطي وغيره بين الروايات بأنها مكية إلا آيات منها نزلت بالمدينة يعني قوله { هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا } إلى قوله { شديد المحال } وقوله { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } . قال ابن عطيه : والظاهر أن المدني فيها كثير ، وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني .

وأقول أشبه آياتها بأن يكون مدنيا قوله { أو لم يروا إنا نأتي الأرض تنقصها من أطرافها } كما ستعلمه ، وقوله تعالى { كذلك أرسلناك في أمة } إلى { وإليه متاب } ، فقد قال مقاتل وابن جريج : نزلت في صلح الحديبية كما سيأتي عند تفسيرها .

ومعانيها جارية على أسلوب معاني القرآن المكي من الاستدلال على الوحدانية وتفريع المشركين وتهديدهم . والأسباب التي أثارت القول بأنها مدنية أخبار واهية ، وسنذكرها في مواضعها من هذا التفسير ولا مانع من أن تكون مكية . ومن آياتها نزلت بالمدينة وألحقت بها ، فإن ذلك في بعض سور القرآن ، فالذين قالوا : هي مكية لم يذكروا موقعها من ترتيب المكيات سوى أنهم ذكروها بعد سورة يوسف وذكروا بعدها سورة إبراهيم .

والذين جعلوها مدنية عدوها في النزول بعد سورة القتال وقبل سورة الرحمان وعدوها سابعة وتسعين في عداد النزول . وإذ قد كانت سورة القتال نزلت عام الحديبية أو عام الفتح تكون سورة الرعد بعدها .

وعدت آياتها ثلاثا وأربعين من الكوفيين وأربعا وأربعين في عدد المدنيين وخمسا وأربعين عند الشام .

مقاصدها

أقيمت هذه السورة على أساس إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه من إفراد الله بالإلهية والبعث وإبطال أقوال المكذبين فلذلك تكررت حكاية أقوالهم خمس مرات موزعة على السورة بدءا ونهاية .

ومهد لذلك بالتنويه بالقرآن وأنه منزل من الله ، والاستدلال على تفرده تعالى بالإلهية بدلائل خلق العالمين ونظامهما الدال على انفراده بتمام العلم والقدرة وإدماج الامتنان لما في ذلك من النعم على الناس .

ثم انتقل إلى أقوال أهل الشرك ومزاعمهم في إنكار البعث .

وتهديدهم أن يحل بهم ما حل بأمثالهم .

والتذكير بنعم الله على الناس .

وإثبات أن الله هو المستحق للعبادة دون آلهتهم .

وأن الله العالم بالخفايا وأن الأصنام لا تعلم شيئا ولا تنعم بنعمة .

والتهديد بالحوادث الجوية أن يكون منها عذاب للمكذبين كما حل بالأمم قبلهم .

والتخويف من يوم الجزاء .

والتذكير بأن الدنيا ليست دار قرار .

وبيان مكابرة المشركين في اقتراحهم مجيء الآيات على نحو مقترحاتهم .

ومقابلة ذلك بيقين المؤمنين . وما أعد الله لهم من الخير .

وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لقي من قومه إلا كما لقي الرسل عليهم السلام من قبله .

والثناء على فريق من أهل الكتب يؤمنون بأن القرآن منزل من عند الله .

والإشارة إلى حقيقة القدر ومظاهر المحو والإثبات .

وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر والأمثال .

{ ألر }

تقدم الكلام على نظائر { المر } مما وقع في أوائل بعض السور من الحروف المقطعة .

{ تلك ءايات الكتاب والذي أزل إلي من بك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون }

القول في { تلك آيات الكتاب } كالقول في نظيره من طالعة سورة يونس .

والمشار إليه ب { تلك } هو ما سبق نزوله من القرآن قبل هذه الآية أخبر عنها بأنها آيات ، أي دلائل إعجازٍ ، ولذلك أشير إليه باسم إشارة المؤنث مراعاة لتأنيث الخبر .

وقوله : { والذي أنزل إليك من ربك الحق } يجوز أن يكون عطفاً على جملة { تلك آيات الكتاب } فيكون قوله : { والذي أنزل إليك } إظهار في مقام الإضمار . ولم يكتف بعطف خبَرٍ على خبر اسم الإشارة بل جيء بجملة كاملة مبتدئة بالموصول للتعريف بأن آيات الكتاب منزلة من عند الله لأنها لما تقرر أنها آيات استلزم ذلك أنها منزلة من عند الله ولولا أنها كذلك لما كانت آيات .

وأخبر عن الذي أنزل بأنه الحق بصيغة القصر ، أي هو الحق لا غيره من الكتب ، فالقصر إضافي بالنسبة إلى كتب معلومة عندهم مثل قصة رستم وإسفَنْديار اللتين عرفهما النضر بن الحارث . فالمقصود الردّ على المشركين الذين زعموه كأساطير الأولين ؛ أو القصرُ حقيقي ادعائي مبالغة لعدم الاعتداد بغيره من الكتب السابقة ، أي هو الحق الكامل ، لأن غيره من الكتب لم يستكمل منتهى مراد الله من الناس إذ كانت درجات موصلة إلى الدرجة العليا ، فلذلك ما جاء منها كتاب إلا ونسخ العمل به أو عيّن لأمة خَاصة « إنّ الدين عند الله الإسلام » .

ويجوز أن يكون عطف مفرد على قوله : { الكتاب } مفرد ، من باب عطف الصفة على الاسم ، مثل ما أنشد الفراء :

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة بالمزدحم

والإتيان ب { ربك } دون اسم الجلالة للتلطف . والاستدراكُ بقوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } راجع إلى ما أفاده القصر من إبطال مساواة غيره له في الحقية إبطالاً يقتضي ارتفاع النزاع في أحقيته ، أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بما دلت الأدلة على الإيمان به ، فمن أجل هذا الخلق الذميم فيهم يستمر النزاع منهم في كونه حقاً .

وابتداء السورة بهذا تنويه بما في القرآن الذي هذه السورة جزء منه مقصود به تهيئة السامع للتأمل مما سيرد عليه من الكلام .