سورة الرعد من السور التي اختلف في مكيتها ومدنيتها ؛ فقال قوم : إنها مكية ؛ لأنها شبيهة بالسور المكية في قصتها وموضوعاتها ، وقال آخرون : إنها مدنية . ولكن موضوعاتها تشبه السور المكية . وفي المصحف المطبوع بالقاهرة : سورة الرعد مدنية ، وآياتها 43 نزلت بعد سورة محمد .
وفي تفسير مقاتل بن سليمان : سورة الرعد مكية ويقال : مدنية . وتسمى : الرعد ؛ لقوله سبحانه فيها : { ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته } . ( الرعد : 13 ) .
وسورة الرعد من أعاجيب السور القرآنية التي تستولي على النفس وتثير الوجدان وتزحم الحس بالصور والمشاهد ، ثم تأخذ النفس من أقطارها جميعا ، فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر . وتسلك السورة سبيلها إلى القلب وترتاد به آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا ، وهو مستيقظ مبصر مدرك شاعر بما يموج حوله من المشاهد والصور .
إنها ليست ألفاظا وعبارات ولكنها صور حية تستولي على الفؤاد وتلمس الوجدان وتوحي بالإيمان .
إن موضوع سورة الرعد الرئيس هو : العقيدة ، وقضاياها هي : التوحيد ، والبعث وهذا الموضوع تكرر عرضه في سور سابقة ولاحقة .
ولكنه يعرض في كل مرة بطريقة جديدة ، وفي ضوء جديد ، ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد .
تطوف سورة الرعد بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق ، وتعرض عليه الكون كله في شتى مجالاته الأخاذة : في السماوات المرفوعة بغير عمد ، وفي الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ، وفي الليل يغشاه النهار ، وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواس ثابتة وأنهار جارية ، وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان ، ينبت في قطع من الأرض متجاورات ويسقى بماء واحد ، وفي البرق يخيف ويطمع ، والرعد يسبح ويحمد ، والملائكة تخاف وتخشع ، والصواعق يصيب بها من يشاء ، والسحاب الثقال ، والمطر في الوديان ، والزبد الذي يذهب جفاء ؛ ليبقى في الأرض ما ينفع الناس .
وهي تلاحق ذلك القلب أينما توجه تلاحقه بعلم الله النافذ الكاشف الشامل ، يلم بالشارد والوارد والمستخفي والسارب . ويتعقب كل حي ويحصي عليه الخواطر والخوالج . والغيب المكنون الذي لا تدركه الظنون مكشوف لعلم الله وما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار .
إنها تقرب لمدارك البشر شيئا من حقيقة القوة الكبرى ، المحيطة بالكون ظاهره وخافيه ، جليله ودقيقه ، حاضره وغيبه ، وهذا القدر الذي يمكن لمدارك البشر تصوره هائل مخيف ، ترجف له القلوب .
وذلك إلى الأمثال المصورة تتمثل في مشاهد حية حافلة بالحركة والانفعال إلى مشاهد القيامة ، وصور النعيم والعذاب ، وخلجات الأنفس في هذا وذاك ، إلى وقفات على مصارع الغابرين وتأملات في سير الراحلين ، وفي سنة الله التي مشت عليهم فإذا هم داثرون .
تبدأ سورة الرعد بقضية عامة من قضايا العقيدة : قضية الوحي بهذا الكتاب ، والحق الذي اشتمل عليه فيقول سبحانه :
{ المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } . ( الرعد : 1 ) .
وهذا الافتتاح يلخص موضوع السورة كله ، ويشير إلى جملة قضاياها ، وتسترسل السورة في استعراض آيات القدرة ، وعجائب الكون ، الدالة على قدرة الله الخالق ، وحكمته وتدبيره ، الناطقة بأن من مقتضيات هذه الحكمة ؛ أن يكون هناك وحي ؛ لتبصير الناس ، وأن يكون هناك بعث لحساب الناس ، وأن مقتضيات تلك القدرة ؛ أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم إلى الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم ، وسخره لهم ؛ ليبلوهم فيما آتاهم .
وتبدأ الآيات الرائعة في رسم المشاهد الكونية الضخمة ؛ نظرة إلى السماوات ، ونظرة إلى الأرضين ونظرة إلى مشاهد الأرض وكوامن الحياة .
قال تعالى : { الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون* وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } . ( الرعد : 3 ، 2 ) .
وهذه اللفتة الأولى إلى مظاهر القدرة الإلهية تحرك الوجدان ؛ فيقف أمام هذا المشهد الهائل يتملاه ، ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفع السماء بلا عمد - أو حتى بعمد إلا الله ، وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد ، تلك البنايات الصغيرة الهزيلة ، القابعة في ركن ضيق من الأرض لا تتعداه ، ثم يتحدث الناس عما في تلك البنايات من عظمة ومن قدرة وإتقان ، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات مرفوعة بغير عمد وعما وراءها من القدرة الحقة ، والعظمة الحقة ، والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان .
ومن هذا المنظور الهائل الذي يشاهده الناس في خلق الله ، إلى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار .
أي : استولى على ملك جميع الموجودات وأحاطت قدرته بجميع الكائنات ، ومع الاستعلاء والتسخير ، الحكمة والتدبير .
{ كل يجري لأجل مسمى } . وإلى حدود مرسومة وفق ناموس مقدر .
{ يدبر الأمر } . ويمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء فتجري لأجل لا تتعداه ، ومن قدرة الله : أنه مد الأرض وبسطها أمام البصر ، وأمدها بمقومات الحياة .
{ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } . ليكمل ، إبداع الخلق وتناسقه ، ثم تابع الله بين الليل والنهار في انتظام عجيب ، ونظام دقيق يبعث على التأمل في ناموس هذا الكون والتفكير في القدرة المبدعة التي تدبرها وترعاه ، { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } .
نحن في سورة الرعد أمام عدد من أدلة الألوهية تتوارد وراء بعضها في سياق بديع ، وعرض شائق .
فهناك الأرض التي تزرع بألوان مختلفة من النبات فيها : { جنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان } .
منه ما هو عود واحد ، ومنه ما هو عودان أو أكثر في أصل واحد وكله : { يسقى بماء واحد } .
والتربة واحدة ، ولكن الثمار مختلفات الطعوم : { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } .
فمن غير الخالق المدبر يفعل ذلك ؟ ! .
إن القرآن بمثل هذه اللفتة يبقى جديدا أبدا ؛ لأنه يجدد أحاسيس البشر بالمناظر والمشاهد في الكون والنفس وهي لا تنفد ولا يستقصيها إنسان في عمره المحدود ، ولا تستقصيها البشرية في أجلها الموعود .
{ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } . ( الرعد : 4 ) .
ومن أدلة الألوهية : إحاطة علم الله بالجنين في بطن أمه ، وبالسر المكنون في الصدر ، وبالحركة الخفية في جنح الليل ، وبكل مختف بالليل وظاهر بالنهار ، وهو سبحانه محيط بكل من تكلم دمسا أو تكلم جهرا ؛ فإن كل شيء مكشوف تحت المجهر الكاشف يتبعه شعاع من علم الله وتتعقبه حفظة تحصي الخواطر والنوايا ، إلا إنها الرهبة الخاشعة التي لا تملك النفس معها إلا أن تلجأ إلى الله ، تطمئن في حماه ، وهي تتصور علم الله المحيط بكل شيء .
وتلحظ أن بعض الآيات في سورة الرعد تلمس آفاق الكون الهائل مثل : الآيات الأربع الأولى من السورة ، وبعض الآيات تلمس أغوار النفس ومجاهل السرائر مثل : الآيات من 8 إلى 10 حيث يقول سبحانه : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار* عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال* سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار . } .
ثم يأخذ السياق في جولة جديدة في واد آخر تجتمع فيه مناظر الطبيعة ومشاعر النفس متداخلة متناسقة ، حيث يقول سبحانه : { هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال* ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته } . ( الرعد : 13 ، 12 ) .
والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة ، وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان ، وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس حتى اليوم ، وعند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها . والسورة تذكر هذه الظواهر متتابعة وتضيف إليها الملائكة والتسبيح والسجود والخوف والطمع ؛ لتصوير سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضر ، وقد سميت السورة بسورة الرعد ؛ لقوله سبحانه : { ويسبح الرعد بحمده } .
والرعد هو ذلك الصوت المقرقع المدوي ، وهو أثر من آثار الناموس الكوني الذي صنعه الله أيا كانت طبيعته وأسبابه فهو رجع صنع الله في هذا الكون ، وهو يحمد ويسبح بلسان الحال للقدرة التي صاغت هذا النظام ، كما أن كل مصنوع جميل متقن ، يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه ، بما يحمله من جمال وإتقان .
وقد اختار التعبير أن يجعل صوت الرعد تسبيحا للحمد ؛ إتباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق ، وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة ؛ لتشارك في المشهد بحركة من جنس حركة المشهد كله ، وقد انضم إلى تسبيح الرعد بحمد الله ، تسبيح الملائكة من خوفه ومن تعظيمه ، وفي آية أخرى يقول سبحانه : { والملائكة يسبحون بحمد ربهم } . ( الشورى : 5 ) .
وفي الحديث النبوي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أطت السماء ، وحق لها أن تئط ؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد يسبح الله تعالى ) .
ثم يعبر السياق عن خضوع جميع الكائنات لمشيئة الله بالسجود ، وهو أقصى رمز للعبودية ، فتسجد الكائنات ويسجد ظلها معها عند انكسار الأشعة ، وامتداد الظلال ، فإن الكون كله بما فيه من شخوص وظلال جاثية خاضعة عن طريق الإيمان أو غير الإيمان سواء ، كلها تسجد لله .
{ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال } . ( الرعد : 15 ) .
في النصف الأول من سورة الرعد حدثتنا السورة عن المشاهد الهائلة في آفاق الكون وفي أعماق الغيب وفي أغوار النفس .
وفي النصف الثاني من السورة تسترسل الآيات في لمسات وجدانية وعقلية وتصويرية دقيقة رقيقة ، حول قضية الوحي والرسالة ، وقضية التوحيد والشركاء ، ومسألة طلب الآيات واستعجال تأويل الوعيد . وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة .
وتبدأ هذه الجولة بلمسة في طبيعة الإيمان ، وطبيعة الكفر ؛ فالأول : علم ، والثاني : عمل ، { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى }( الرعد : 19 ) .
وتبين الآيات طبيعة المؤمنين وطبيعة الكافرين ، والصفات المميزة لهؤلاء وهؤلاء ، ثم يتلوها مشهد من مشاهد القيامة ، وما فيها من نعيم للأولين ومن عذاب للآخرين ، ويعقب ذلك لمسة في بسط الرزق وتقديره ، وردهما إلى الله ، فجولة مع القلوب المؤمنة المطمئنة بذكر الله ، فوصف لهذا القرآن الذي يكاد يسير الجبال ، وتقطع به الأرض ، ويكلم به الموتى ، فلمسة بما يصيب الكفار من قوارع تنزل بهم ، أو تحل قريبا من دارهم ، فجدل تهكمي حول الآلهة المدعاة ، فلمسة عن مصارع الغابرين ، ونقص أطراف الأرض منهم حينا بعد حين ، يختم هذا كله بتهديد الذين يكذبون برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم بتركهم للمصير المعلوم .
من ذلك نرى أن الإيقاعات والمطارق المتوالية في شطر السورة الأول ، وتحضر المشاعر وتهيئها لمواجهة القضايا والمسائل في شطرها الثاني وهي على استعداد وتفتح لتلقيها ، وأن شطري السورة متكاملان ، وكل منهما يوقع على الحس طرقاته وإيحاءاته لهدف واحد وقضية واحدة ، هي الإيمان عن يقين كامل ، وأدلة مقنعة يطمئن لها القلب وتسكن إليها النفس . قال تعالى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب }( الرعد : 28 ) .
فقلب الكافر في ضلال ، وقلب الجاحد مضطرب هواء ، وقلب المؤمن يطمئن لصلته بالله ، والأنس بجواره ، والأمن في جانبه وحماه ، يطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير ويطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء الله ، مع الرضا بالابتلاء والصبر على البلاء ، ويطمئن برحمة الله في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة .
وليس أشقى على وجه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله ، ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء ؟ ولم يذهب ؟ ولم يعاني في الحياة ؟ . ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين .
وإن هناك شدائد في الحياة لا يصمد لها بشر ؛ إلا أن يكون مرتكنا إلى الله مطمئنا إلى حماه ، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد . ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } .
مما نلحظه في سورة الرعد عنايتها بالمقابلة بين الإيمان والكفر ، والهدى والضلال ، والاطمئنان والحيرة ، وحين تعرضت السورة لرسم مشاهد الكون عنيت بإبراز المشاهد المتقابلة من سماء وأرض ، وشمس وقمر ، وليل ونهار ، وشخوص وظلال ، وجبال راسية وأنهار جارية ، وزبد ذاهب وماء باق ، وقطع من الأرض متجاورات مختلفات . { ونخيل صنوان وغير صنوان } ، ومن ثم تطرد هذه التقابلات في كل المعاني وكل الحركات وكل المصائر في السورة ؛ لتناسق التقابل المعنوي في التقابلات الحسية ، وتتسق في الجو العام .
ومن ثم يتقابل الاستعلاء في الاستواء على العرش مع تسخير الشمس والقمر ، ويتقابل ما تغيض الأرحام مع ما تزداد ، ويتقابل من أسرّ القول مع من جهر به ، ومن هو مستخف بالليل مع من هو سارب بالنهار ، ويتقابل الخوف مع الطمع تجاه البرق ، ويتقابل تسبيح الرعد حمدا مع تسبيح الملائكة خوفا ، وتتقابل دعوة الحق لله مع دعوة الباطل للشركاء ، ويتقابل من يعلم مع من هو أعمى ، ويتقابل الذين يفرحون من أهل الكتاب بالقرآن مع من ينكر بعضه ، ويتقابل المحو مع الإثبات في الكتاب . .
وبالإجمال : تتقابل المعاني وتتقابل الحركات وتتقابل الاتجاهات ؛ تنسيقا للجو العام في الأداء ، وهذا التناسق الفني ، من بدائع الإعجاز في القرآن الكريم . هذا القرآن العجيب الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال ، أو تقطع به الأرض ، أو يكلم به الموتى ؛ لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات ، ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء فإذا لم يستجيبوا له ؛ فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون وأن يدعوهم ويتركوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين .
قال تعالى : { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد }( الرعد : 31 ) .
ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال ، وتقطيع الأرض ، وإحياء الموتى ، لقد صنع في هذه النفوس ، وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته ، فكم غّير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ .
وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها ، طبيعته في دعوته وفي تعبيره ، طبيعته في موضوعه وفي أداته ، طبيعته في حقيقته وفي تأثيره . إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحى به ، والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال وهو تاريخ الأمم والأجيال ، وقطعوا ما هو أصلب من الأرض وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد . وأحيوا ما هو أخمد من الموتى ، وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام ، والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها ، وتحول الأرض عن جمودها وتحول الموتى عن الموات : { بل لله الأمر جميعا } .
وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال . فإذا كان قوم بعد هذا لقرآن لم تتحرك قلوبهم ؛ فما كان أجدر المؤمنين الذين يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم وأن يدعوا الأمر لله فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى وهدى الناس جميعا على نحو خلقه الملائكة لو كان يريد .
لقد شاء الله أن يوجد الإنسان على وجه الأرض ومعه العقل والإرادة والاختيار والكسب ؛ حتى يتميز المؤمن من الكافر والمستقيم من العاصي وبذلك تتحقق الحكمة الإلهية في تنوع الخلق واختلاف مشاربهم :
{ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين* إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين }( هود : 119 ، 118 ) .
{ المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون1 الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون2 وهو الذي مدّ الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون3 وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون4 } .
المر : هذه الحروف للتحدي والإعجاز ، أو هي مما استأثر الله بعلمه ، أو هي لافتتاح الكلام ، أو أسماء للسور ، وقيل : هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، ويجوز أن تشمل على جميع المعاني التي ذكرها العلماء في تفسيرها .
سبق أن ذكرنا : عدة آراء في تفسير الأحرف المقطعة في فواتح السور ، ومجملها ما يأتي :
( أ ) أنها مما استأثر الله تعالى بعلمه .
( ج ) أنها للتحدي والإعجاز ، وبيان : أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل هذا القرآن ، مع أنه مؤلف من حروف عربية ينطقون بها ؛ فدل ذلك : على أن القرآن ليس من صنع بشر ، ولكنه تنزيل من حكيم حميد .
{ تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } .
أي : هذه آيات هذه السورة من الكتاب ، أو هذه آيات القرآن البالغ حد الكمال ، المستغنى عن الوصف ؛ الجدير بأن يختص باسم الكتاب .
{ والذي أنزل إليك من ربك الحق } . أي : كل القرآن الذي أنزله إليك حق لا شك فيه ، لا يلتبس به باطل ، ولا يحوم حول صحته شك أو التباس ، وهذا التعبير جار على سنن العرب في تخاطبهم ، حيث يميلون إلى الإجمال بعد التفصيل ، سئلت فاطمة الأنمارية عن بنيها : أيهم أفضل فقالت : ربيعة ، بل عماره ، بل قيس ، بل أنس ، ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل ، هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفها .
فبعد أن أثبتت الفضل لكل منهم على سبيل التعيين ، أجملت القول ، وأثبتت لهم الفضل جميعا .
وكذلك هنا عندما قال : { تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق } .
أي : تلك آيات هذه السورة ، التي تستعرض آيات القدرة وعجائب الكون ، وحقائق القيامة ، والقرآن كله حق لا ريب فيه ، وصدق لا شك فيه .
{ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } .
أي : لانطماس بصائرهم ، واستيلاء العناد على نفوسهم ؛ فهم لذلك لا يصدقون بما أنزل عليك ، ولا يقرون بهذا القرآن ، وما اشتمل عليه من بديع الأمثال والحكم والأحكام التي تناسب مختلف العصور والأزمان ، والتي لو سار عليها الناس ؛ لسعدوا في الدنيا والآخرة .