الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (1)

قوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ } : يجوز في " تلك " أن تكونَ مبتدأً والخبرُ { آيَاتُ الْكِتَابِ } ، والمشارُ إليه آياتُ السورة . والمرادُ بالكتابِ السورةُ . وقيل : إشارةٌ إلى ما قَصَّ عليه مِنْ أنباء الرسل .

وهذه الجملةُ لا محلَّ لها إن قيل : إنَّ " المر " كلامٌ مستقلٌ ، أو قُصِد به مُجَرَّدُ التنبيهِ ، وفي محلِّ رفعٍ على الخبرِ إنْ قيل : إنَّ " المر " مبتدأٌ ، ويجوز أن تكونَ " تلك " خبراً ل " المر " ، و { آيَاتُ الْكِتَابِ } بدلٌ أو بيانٌ . وقد تقدَّم تقريرُ هذا بإيضاحٍ أولَ الكتاب ، وأَعَدْتُه . . . .

قوله : { وَالَّذِي أُنزِلَ } يجوز فيه أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ مبتدأً ، و " الحقُّ " خبرُه . الثاني : أن يكون مبتدأً ، و { مِن رَّبِّكَ } خبرُه ، وعلى هذا ف " الحقُّ " خبرُ مبتدأ مضمر ، أي : هو الحق . الثالث : أنَّ " الحقُّ " خبرٌ بعد خبر . الرابع : أن يكونَ { مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ } كلاهما خبرٌ واحدٌ . قاله أبو البقاءُ والحوفيُّ . [ وفيه بُعْدٌ ] ؛ إذ ليس هو مثلَ " هذا حلوٌ حامِضٌ " .

الخامس : أن يكون " الذي " صفةً ل " الكتاب " . قاله أبو البقاء : " وأُدْخِلَت الواوُ [ في لفظه ، كما أُدْخِلت ] في " النازِلين " و " الطيبين " . قلت : يعني أن الواوَ تكونُ داخلةً على الوصف . وفي المسألة كلامٌ يحتاج إلى تحقيقٍ ، والزمخشريُّ [ يُجيز مثلَ ذلك ، ويجعلُ أنَّ ] في ذلك تأكيداً ، وسيأتي هذا أيضاً إن شاء اللهُ تعالى في الحجر ، في قوله { مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] . وقوله : " في النازلين " و " الطيبين " يشير إلى بيت الخِرْنِقِ بنت هَفَّان في قولها حين مَدَحَتْ قومَها :

لا يَبْعَدَنْ قوميْ الذين هُمُ *** سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ

النازِلينَ بكلِّ مُعْتَرَكٍ *** والطيِّبين مَعاقِدَ الأُزْرِ

فعطَفَ " الطيبين " على " النازِلين " ، وهما صفتان لقومٍ معينين ، إلاَّ أنَّ الفرقَ بين الآيةِ والبيتِ واضحٌ : من حيث إن البيتَ فيه عطفُ صفةٍ على مثلِها ، والآيةُ ليست كذلك .

وقال الشيخ شيئاً يقتضي أن تكونَ ممَّا عُطِفَ فيها وَصْفٌ على مثلِه فقال : " وأجاز الحوفي أيضاً أن يكونَ " والذي " في موضعِ رفعٍ عطفاً على " آيات " ، وأجاز هو وابنُ عطية أن يكونَ " والذي " في موضعِ خفضٍ ، وعلى هذين الإِعرابين يكون " الحقُّ " خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو الحق ، ويكون " والذي " ممَّا عُطِفَ فيه الوصفُ على الوصفُ وهما لشيءٍ واحد ، كما تقول " جاءني الظريفُ والعاقلُ " وأنت تريد شخصاً واحداً ، ومن ذلك قولُ الشاعر :

إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ *** وليثِ الكَتِيبةِ في المُزْدَحَمْ

قلت : وأين الوصفُ المعطوفُ عليه حتى يجعلَه مثلَ البيتِ الذي أنشده ؟

السادس : أن يكونَ " الذي " مرفوعاً نسقاً على " آيات " كما تقدَّمَتْ حكايتُه عن الحوفي . وجَوَّز الحوفيُّ أيضاً أن يكونَ " الحقُّ " نعتاً ل " الذي " حالَ عطفِه على { آيَاتُ الْكِتَابِ } .

وتَلَخَّص في " الحقِّ " خمسةُ أوجه ، أحدها : أنه خبرٌ أولُ أو ثانٍ أو هو مع ما قبله ، أو خبرٌ لمبتدأ مضمر ، أو صفةٌ ل " الذي " إذا جَعَلْناه معطوفاً على " آيات " .