التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الرعد

في السورة مقدمة رائعة في تقرير عظمة الله ونواميس كونه . وفصول من المشاهد الجدلية التي كانت تقوم بين النبي والمشركين فيها صور من أقوالهم وتحديهم ومكابرتهم وإنكارهم رسالة النبي والآخرة . وطلبهم الآيات منه وردود عليهم فيها إفحام وإنذار وتسفيه وتمثيل ومقايسة بين الصالحين وذوي النيات الحسنة والعقول السليمة ، والأشرار ذوي العقول الغليظة والسرائر الخبيثة . وتمثيل للحق والباطل وتقرير بقاء الحق ونفعه . وتذكير بمواقف الأمم السابقة وإشارة إلى موقف أهل الكتاب المؤيد للرسالة النبوية والوحي القرآني وتثبيت وتطمين للنبي ، وبيان مصائر المؤمنين والكفار المشركين في الآخرة .

وفصول السورة منسجمة تكاد تكون سلسلة واحدة مما يسوغ القول : إنها نزلت متتابعة إن لم تكن نزلت دفعة واحدة .

وهذه السورة من السور المختلف في مكيتها ومدنيتها . وقد رجحنا مكيتها ؛ لأن ما احتوته من تقريرات وتنبيهات وأمثال وصور مماثلة لما في السور المكية من مثل ذلك ؛ ولأنها تمثل العهد المكي دون العهد المدني . ولقد جاءت في المصحف الذي نعتقده أنه مرتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته سلسلة من السور المكية التي تبدأ بحروف متقطعة مماثلة لما بدأت به وهي سور يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر مما يمكن أن يكون قرينة قوية إضافة على مكيتها والله أعلم .

والروايات التي تذكر مكية السورة تذكر أن بعض آياتها مدنية مع شيء من الاختلاف حيث يذكر بعضها أن من أول السورة إلى الآية[ 30 ] مدني والباقي مكي ، ويذكر بعضها أن الآيتين [ 31-34 ] مدنيتان وبعضها أن الآيات [ 11-13 ] مدنيات {[1]} . وأسلوب هذه الآيات جميعها ومضامينها وانسجامها في سياقها نظما وموضوعا يسوغ الشك في هذه الروايات أيضا .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ( 1 ) الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون ( 2 ) وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( 3 ) وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان 1 تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ( 4 ) } [ 1-4 ] .

بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم والراء وقد روى المفسرون أنها ترمز إلى جملة ( أنا الله أعلم وأرى ) وزادوا ( أعلم ) لأن في الحروف قيما زائدة على ما في مطالع السور السابقة . ونحن نرجح كما رجحنا في أمثالها أنها للتنبيه والاسترعاء . وقد أعقبت الحروف إشارة تنويهية إلى آيات الله التي أنزلها الله على نبيه بالحق . وتنديد بأكثر الناس الذين لا يؤمنون بها وهذا مماثل لأكثر المطالع المماثلة .

ثم أخذت الآيات تلفت أنظار السامعين إلى كون الله العجيب في سمائه وأرضه ، وشمسه وقمره ، وليله ونهاره ، وجباله وأنهاره ، وجنات الأعناب والنخيل والزرع التي تكون في أراض متجاورة والتي يكون من شجرها ما يمتّ إلى أصل واحد ويسقي الجميع بماء واحد ويتفاضل مع ذلك في الأكل والطعم . وتقرر أن الله إنما يفضل هذا لقوم رزقوا العقل السليم والفكر اليقظ والنية الحسنة ليروا آيات الله الباهرة الدالة على وجوده وقدرته وحكمته واستحقاقه للعبودية وصدق الدعوة إليه ووجوب الإيمان بأن الله لم يخلق هذا عبثا ، وأنه لا بد للناس من رجعة إليه والوقوف بين يديه .

وقد جاءت الآيات مقدمة وتمهيدا لما يأتي بعدها مما هو مألوف في النظم القرآني وجاءت مطلعا جامعا ورائعا من شأنه أن يسترعي الأسماع والأذهان ، وأن ينفذ إلى العقول والقلوب .

وهي ليست الأولى من بابها فقد سبق مثلها في سور أخرى . ومرد التكرار هو تكرر المناسبات والمواقف ، ولقد سبق التعليق على ما احتوته من تقريرات وبخاصة موضوع { الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها } وموضوع { ثم استوى على العرش } بما يغني عن تعليق جديد .

وجمل { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } و { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } قد تكررت أو تكرر معناها في أمثال هذه الآيات التي وردت في السور السابقة ومن ذلك سورتا النحل الآيات [ 11-13 ] والروم الآيات [ 21-24 ] وينطوي فيها كما هو المتبادر تنويه بالعقلاء والمتفكرين الذين تؤهلهم عقولهم ومداركهم وتفكيرهم لتدبر نواميس الله في كونه وتفهمها تنويها ينطوي في ما يتبادر لنا على تحميلهم مسؤولية ذلك . ثم حث للسامعين والناس عامة في كل وقت ومكان على تدبر هذه النواميس وتفهمها بكل وسيلة وطريقة . وينطوي في ذلك وجوب دراستها للانتفاع بها على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة .

هذا ، وللصوفيين تفسير عجيب للآية الثالثة جاء فيه : ( هو الذي بسط الأرض وجعل فيها أوتادا من أوليائه وسادة من عبيده . فإليهم الملجأ وبهم النجاة . فمن ضرب في الأرض يقصدهم فاز ونجا ومن كان بغيته لغيرهم خاب وخسر ){[1189]} . والصوفية وأهل الطرق يقصدون بالأوتاد أقطابهم وزعماءهم . وفي التفسير كما هو ظاهر شطح يبتعد به المفسر عن معنى العبارة القرآنية الواضحة الصريحة الدلالة التي تكرر مثلها كثيرا في القرآن للتدليل على قدرة الله ومشاهد وحدانيته وعظمته في كونه ليستخرج من الآية تكأة للألقاب الصوفية وليجعل أوتاد الصوفيين وأقطابهم مرجعا للبشر وأملا في كشف الضر والفوز والنجاة وفي هذا ما فيه من شرك يخرج به المؤمن من ربقة إيمانه والعياذ بالله .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[1189]:التفسير والمفسرون ج 3 ص 54.