{ واعتصموا بحبل الله جميعا } بدين الإسلام ، أو بكتابه لقوله عليه السلام : " القرآن حبل الله المتين " . استعار له الحبل من حيث أن التمسك به سبب للنجاة من الردي ، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردي والوثوق به والاعتماد عليه الاعتصام ترشيحا للمجاز . { جميعا } مجتمعين عليه { ولا تفرقوا } أي ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب ، أو لا تتفرقوا تفرقكم في الجاهلية يحارب بعضكم بعضا ، أو لا تذكروا ما يوجب التفرق ويزيل الألفة . { واذكروا نعمة الله عليكم } التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الغل . { إذ كنتم أعداء } في الجاهلية متقاتلين . { فألف بين قلوبكم } بالإسلام . { فأصبحتم بنعمته إخوانا } متحابين مجتمعين على الأخوة في الله . وقيل كان الأوس والخزرج أخوين فوقع بين أولادهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الله بالإسلام وألف بينهم برسوله صلى الله عليه وسلم . { وكنتم على شفا حفرة من النار } مشفين على الوقوع في نار جهنم لكفركم ، إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم في النار . { فأنقذكم منها } بالإسلام ، والضمير للحفرة ، أو للنار أو للشفا . وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها طرفها كالجانب والجانبة ، وأصله شفو فقلبت الواو ألفا في المذكر وحذفت في المؤنث . { كذلك } مثل ذلك التبيين . { يبين الله لكم آياته } دلائله . { لعلكم تهتدون } إرادة ثباتكم على الهدى وازديادكم فيه .
وقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } معناه تمنعوا وتحصنوا به ، فقد يكون الاعتصام بالتمسك باليد ، وبارتقاء القنن ، وبغير ذلك ما هو منعة ، ومنه الأعصم في الجبل ، ومنه عصمة النكاح ، و «الحبل » في هذه الآية مستعار لما كان السبب الذي يعصم به ، وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم ، ونسبة بينهما ، شبه ذلك بالحبل الذي شأنه أن يصل شيئاً بشيء ، وتسمى العهود والمواثيق حبالاً ، ومنه قول الأعشى{[3382]} :
وإذَا تَجَوَّزَها حِبالُ قَبِيلَةٍ . . . أَخَذَتْ مِنَ الأَدْنَى إِلَيْكَ حِبَالهَا
إني بحبلِكِ واصلٌ حبلي{[3383]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه قول الله تعالى : { إلا بحبل من الله وحبل من الناس }{[3384]} واختلفت عبارة المفسرين في المراد في هذه الآية { بحبل الله } ، فقال ابن مسعود : «حبل الله » الجماعة ، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبيعن فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قال فقيل يا رسول الله : وما هذه الواحدة ؟ قال فقبض يده وقال : الجماعة وقرأ ، { واعتصموا بحبل الله جميعاً }{[3385]} » ، وقال ابن مسعود في خطبة : عليكم جميعاً بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به ، وقال قتادة رحمه الله : «حبل الله » الذي أمر بالاعتصام به هوا لقرآن ، وقال السدي : «حبل الله » كتاب الله ، وقاله أيضاً ابن مسعود والضحاك ، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض »{[3386]} ، وقال أبو العالية : «حبل الله » في هذه الآية هو الإخلاص في التوحيد وقال ابن زيد : «حبل الله » هو الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض ، وقوله تعالى : { جميعاً } حال من الضمير في قوله ، { اعتصموا } ، فالمعنى : كونوا في اعتصامكم مجتمعين : { ولا تفرقوا } يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى ، وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد ، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية ، بل ذلك ، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خلاف أمتي رحمة »{[3387]} ، وقد اختلف الصحابة في الفروع أشد اختلاف ، وهم يد واحدة على كل كافر ، وأما الفتنة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه ، أما أن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم .
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءَ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج ، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها ، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة ، وحينئذ نزلت هذه الآية ، فهي في الأوس والخزرج ، كانت بينهم عداوة وحروب ، منها يوم بعاث وغيره ، وكانت تلك الحروب والعداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة ، حتى رفعها الله بالإسلام ، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجاً ، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم ، وتلا عليهم القرآن ، كما كان يصنع مع قبائل العرب ، فآمنوا به وأراد الخروج معهم ، فقالوا يا رسول الله : إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب ، خفنا أن لا يتم ما نريده منك ، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك ، ونداخل الناس ، وموعدنا وإياك العام القابل ، فمضوا وفعلوا ، وجاءت الأنصار في العام القابل ، فكانت العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً ، فيهم خمسة من الستة الأولين ، ثم جاؤوا من العام الثالث ، فكانت بيعة العقبة ، الكبرى ، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر نقيباً ، ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام{[3388]} ، ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجهين ، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب ، يبعث لنا نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما رأى النفر من الأنصار محمداً صلى الله عليه وسلم ، قال بعضهم لبعض : هذا والله النبي الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه ، والوجه الآخر ، الحرب التي كانت ضربتهم وأفنت سراتهم ، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم كالذي كان ، فعدد الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة ، وذكرهم بها ، وقوله تعالى : { فأصبحتم } عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع{[3389]} : [ المنسرح ]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . . أَمْلِكُ رَأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرا
و «الإخوان » جمع أخ ، ويجمع إخوة ، وهذان أشهر الجمع فيه ، على ان سيبويه رحمه الله يرى أن إخوة اسم جمع ، وليس ببناء جمع لأن فعلاً لا يجمع على فعلة ، قال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخواناً ، والأخ في النسب يجمع إخوة : هكذا كثر استعمالهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي كتاب الله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة }{[3390]} وفيه ، { أو بني إخوانهن }{[3391]} ، فالصحيح أنهما يقالان في النسب ، ويقالان في الدين ، و «الشفا » حرف كل جرم له مهوى ، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه ، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى ، كقوله { شفا جرف }{[3392]} وإلى الأسفل كقوله { شفا حفرة } ، ويثنى شفوان ، فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدنية من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً ، فأنقذهم الله بالإسلام ، والضمير في { منها } عائد على النار ، أو على «الحفرة » ، العود على الأقرب أحسن ، وقال بعض الناس حكاه الطبري : إن الضمير عائد على «الشفا » ، وأنث الضمير من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث ، فالآية كقول جرير :
رَأَتْ مَرَّ السنينِ أَخَذْنَ مِنّي . . . كَمَا أَخذَ السّرارُ مِنَ الهِلاَلِ{[3393]}
قال القاضي : وليس الأمر كما ذكر ، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه الصناعة ، إلا لو لم تجد معاداً للضمير إلا «الشفا » ، وأما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة وقوله تعالى : { كذلك يبين لكم آياته } إشارة إلى ما بين في هذه الآيات ، أي فكذلك يبين لكم غيرها ، وقوله ، { لعلكم } ترجٍّ في حق البشر ، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء{[3394]} .
قوله : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } ثَنَّى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم ، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم ، وذلك بالاجتماع على هذا الدّين وعدم التَّفرّق ليكتسبوا باتّحادهم قوّة ونماء . والاعتصام افتعال من عَصَم وهو طلب ما يعصم أي يمنع .
والحَبْل : ما يشدّ به للارتقاء ، أو التدلّي ، أو للنَّجاة من غَرَق ، أو نحوه ، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفافهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقى إليهم من مُنقذ لهم من غرق أو سقوط ، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التَّمثيل .
وقوله : { جميعاً } حال وهو الّذي رجّح إرادة التَّمثيل ، إذ ليس المقصود الأمر باعتصام كُلّ مسلم في حال انفراده اعتصاماً بهذا الدّين ، بل المقصود الأمر باعتصام الأمَّة كُلّها ، ويحصل في ضِمن ذلك أمرُ كُلّ واحد بالتَّمسك بهذا الدّين ، فالكلام أمر لهم بأن يكونوا على هاته الهيئة ، وهذا هو الوجه المناسب لتمام البلاغة لكثرة ما فيه من المعاني ، ويجوز أن يستعار الاعتصام للتَّوثيق بالدّين وعهوده ، وعدم الانفصال عنه ، ويستعار الحبل للدّين والعهود كقوله : { إلاّ بحَبْل من الله وحبْل من النَّاس } [ آل عمران : 112 ] ويكون كُلّ من الاستعارتين ترشيحاً للأخرى ، لأنّ مبنى التَّرشيح على اعتبار تقوية التَّشبيه في نفس السامع ، وذلك يحصل له بمجرد سماع لفظ ما هو من ملائمات المستعار ، بقطع النَّظر عن كون ذلك الملائم معتبرة فيه استعارة أخرى ، إذ لا يزيده ذلك الاعتبار إلاّ قُوّة . وليست الاستعارة بوضع اللَّفظ في معنى جديد حتَّى يَتَوهّم متوهّم أنّ تلك الدّلالة الجديدة ، الحاصلة في الاستعارة الثَّانية ، صارت غير ملائمة لِمعنى المستعار في الاستعارة الأخرى ، وإنَّما هي اعتبارات لطيفة تزيد كثرتها الكلام حسناً . وقريب من هذا التوريةُ ، فإنّ فيها حُسناً بإيهام أحد المعنيين مع إرادة غيره ، ولا شكّ أنَّه عند إرادة غيره لا يكون المعنى الآخَر مقصوداً ، وفي هذا الوجه لا يكون الكلام صريحاً في الأمر بالاجتماع على الدّين بل ظاهره أنّه أمر للمؤمنين بالتمسّك بالدّين فيؤول إلى أمر كُلّ واحد منهم بذلك على ما هو الأصل في معنى مثل هذه الصّيغة ويصير قوله : { جميعاً } محتملاً لتأكيد العموم المستفاد من واو الجماعة .
وقوله : { ولا تفرقوا } تأكيد لمضمون اعتصموا جميعاً كقولهم : ذممت ولم تُحْمَد . على الوجه الأول في تفسير { واعتصموا بحبل الله جميعاً } . وأمّا على الوجه الثَّاني فيكون قوله : { ولا تفرّقوا } أمراً ثانياً للدلالة على طلب الاتّحاد في الدّين ، وقد ذكرنا أنّ الشيء قد يؤكّد بنفي ضدّه عند قوله تعالى : { قد ضلوا وما كانوا مهتدين } في سورة [ الأنعام : 140 ] وفي الآية دليل على أنّ الأمر بالشيء يستلزم النَّهي عن ضدّه .
وقوله : { واذكروا نعمت الله عليكم } تصوير لحالهم الَّتي كانوا عليها ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة الَّتي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعاً بجامعة الإسلام الَّذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة ، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى ، الّذي اختار لهم هذا الدّين ، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتِّفاق . والتَّذكيرُ بنعمة الله تعالى طريق من طُرق مواعظ الرّسل . قال تعالى حكاية عن هود : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] وقال عن شعيب : { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم } [ الأعراف : 86 ] وقال الله لموسى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] . وهذا التَّذكير خاصّ بمن أسلم من المسلمين بعد أن كان في الجاهلية ، لأنّ الآية خطاب للصّحابة ولكن المنّة به مستمرة على سائر المسلمين ، لأن كُلّ جيل يُقَدّر أن لو لم يَسبق إسلام الجيل الَّذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النَّار .
والظرفية في قوله : { إذ كنتم أعداء } معتبر فيها التَّعقيب من قوله : { فألف بين قلوبكم } إذ النعمة لم تكن عند العداوة ، ولكن عند حصول التأليف عقب تلك العداوة .
والخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرون والأنصار وأفراد قليلون من بعض القبائل القريبة ، وكان جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب ، فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة ، ومنها كان يوم بعاث ، والعرب كانوا في حروب وغارات{[211]} بل وسائر الأمم الَّتي دعاها الإسلام كانوا في تفرّق وتخاذل فصار الّذين دخلوا في الإسلام إخواناً وأولياء بعضهم لبعض ، لا يصدّهم عن ذلك اختلاف أنساب ، ولا تباعد مواطن ، ولقد حاولت حكماؤهم وأولو الرأي منهم التأليف بينهم ، وإصلاح ذات بينهم ، بأفانين الدّعاية من خطابة وجاه وشعر{[212]} فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتَّى ألَّف الله بين قلوبهم بالإسلام فصاروا بذلك التَّأليف بمنزلة الإخوان .
والإخوان جمع الأخ ، مثل الإخوة ، وقيل : يختصّ الإخوان بالأخ المجازي والإخوة بالأخِ الحقيقي ، وليس بصحيح قال تعالى : { أو بيوت إخوانكم } [ النور : 61 ] وقال : { إنَّما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] وليس يصحّ أن يكون للمعنى المجازي صيغة خاصّة في الجمع أو المفرد وإلا لبطل كون اللَّفظ مجازاً وصار مشتركاً ، لكن للاستعمال أن يُغلّب إطلاق إحدى الصيغتين الموضوعتين لمعنى واحد فيغلّبها في المعنى المجازي والأخرى في الحقيقي .
وقد امتنّ الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها : فحالة كانوا عليها هي حالة العداوة والتَّفاني والتقاتل ، وحالة أصبحوا عليها وهي حالة الأخُوّة ولا يدرِك الفرقَ بين الحالتين إلا من كانوا في السُّوأى فأصبحوا في الحُسنى ، والنَّاس إذا كانوا في حالة بُؤس وضنك واعتادوها صار الشقاء دأبهم ، وذلّت له نفوسهم فلم يشعروا بما هم فيه ، ولا يتفطّنوا لوخيم عواقبه ، حتَّى إذا هُيّىء لهم الصّلاح ، وأخذ يتطرّق إليهم استفاقوا من شقوتهم ، وعلموا سوء حالتهم ، ولأجل هذا المعنى جمعت لهم هذه الآية في الامتنان بين ذكر الحالتين وما بينهما فقالت : { إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } .
وقوله : { بنعمته } الباء فيه للملابسة بمعنى ( مع ) أي أصبحتم إخواناً مصاحبين نعمة من الله وهي نعمة الأخوَّة ، كقول الفضل بن عبَّاس بن عتبة اللهبي :
كُلُّ له نية في بغض صاحبه *** بنعمة الله نَقْلِيكُم وتَقْلُونَا
وقوله : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } عطف على { كنتم أعداء } فهو نعمة أخرى وهي نعمة الإنقاذ من حالة أخرى بئيسة وهي حالة الإشراف على المهلكات .
والشَّفا مثل الشَّفَة هو حرف القليب وَطرفه ، وألِفُه مبدلة من واو . وأما واو شفة فقد حذفت وعوضت عنها الهاء مثل سنة وعِزّة إلاّ أنهم لم يجمعوه على شفوات ولا على شَفِينَ بل قالوا شفاه كأنَّهم اعتدوا بالهاء كالأصل .
فأرى أن شَفا حفرة النَّار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتَّفاني الَّذي عبَّر عنه زهير بقوله :
* تفانَوا ودَقُّوا بينَهم عِطْر مَنْشَم *
بحال قوم بلغ بهم المشي إلى شفا حفير من النَّار كالأُخدُود فليس بينهم وبين الهلاك السَّريع التَّام إلا خطوة قصيرة ، واختيار الحالة المشبَّه بها هنا لأن النَّار أشدّ المهلكات إهلاكاً ، وأسرعُها ، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما : نعمة الأخوة بعد العداوة ، ونعمة السلامة بعد الخطر ، كما قال أبو الطيب :
* نَجاة من البأساءِ بعدَ وقوع *
والإنقاذ من حالتين شنيعتين . وقال جمهور المفسرين : أراد نار جهنَّم . وعلى قولهم هذا يكون قوله : { شفا حفرة } مستعاراً للاقتراب استعارة المحسوس للمعقول . والنَّارُ حقيقة ، ويبعد هذا المحمل قوله تعالى : { حفرة } إذ ليست جهنّم حفرة بل هي عالم عظيم للعذاب . وورد في الحديث « فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان » لكن ذلك رؤيا جاءت على وجه التمثيل وإلا فهي لا يحيط بها النّظر . ويكون الامتنان على هذا امتناناً عليهم بالإيمان بعد الكفر وهم ليقينهم بدخول الكفرة النَّارَ علموا أنَّهم كانوا على شفاها . وقيل : أراد نار الحرب وهو بعيد جداً لأنّ نار الحرب لا توقد في حُفرة بل توقد في العلياء ليراها من كان بعيداً كما قال الحارث :
وبعينيك أوقدَتْ هند النَّارَ *** عِشــاء تُلْوي بها العَليَاء
فتنورتَ نَارها من بعيـد *** بخَزَازَى أيَّان منك الصِلاء
ولأنهم كانوا ملابسين لها ولم يكونوا على مقاربتها .
والضّمير في { منها } للنَّار على التَّقادير الثَّلاثة . ويجوز على التَّقدير الأول أن يكون لشَفا حفرة وعاد عليه بالتأنيث لاكتسابه التَّأنيث من المضاف إليه كقول الأعشى :
وتَشْرَقَ بالقَوْلِ الذي قد أذعتَه *** كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناة من الدم
وقوله : { كذلك يبين الله لكم آياته } نعمة أخرى وهي نعمة التَّعليم والإرشاد ، وإيضاح الحقائق حتَّى تكمل عقولهم ، ويَتَبَيَّنوا مَا فيه صلاحهم . والبيان هنا بمعنى الإظهار والإيضاح . والآيات يجوز أن يكون المراد بها النعم ، كقول الحرث بن حلزة :
مَنْ لنا عنده من الخَيْر آيا *** تٌ ثلاث في كلّهن القضاء
ويجوز أن يراد بها دلائل عنايته تعالى بهم وتثقيف عقولهم وقلوبهم بأنوار المعارف الإلهية . وأن يراد بها آيات القرآن فإنها غاية في الإفصاح عن المقاصد وإبلاغ المعاني إلى الأذهان .