{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } يعني مواطن الحرب وهي مواقفها . { ويوم حُنين } وموطن يوم حنين ويجوز أن يقدر في أيام مواطن أو يفسر الموطن بالوقت كمقتل الحسين ولا يمنع إبدال قوله : { إذ أعجبتكم كثرتكم } منه أن يعطف على موضع في { مواطن } فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جميع المواطن . و{ حنين } واد بين مكة والطائف حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وكانوا اثني عشر ألفا ، العشرة الذين حضروا فتح مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء هوازن وثقيفا وكانوا أربعة آلاف فلما التقوا قال النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره من المسلمين : لن تغلب اليوم من قلة ، إعجابا بكثرتهم واقتتلوا قتالا شديدا فأدرك المسلمين إعجابهم واعتمادهم على كثرتهم فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذا بلجامه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث ، وناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته فقال للعباس - وكان صيتا – " صح بالناس " ، فنادى : يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا عنقا واحدا يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال صلى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس ، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم ثم قال : " انهزموا ورب الكعبة " فانهزموا . { فلم تُغن عنكم } أي الكثرة . { شيئا } من الإغناء أو من أمر العدو . { وضاقت عليكم الأرض بما رحّبت } برحبها أي بسعتها لا تجدون فيها مفرا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه . { ثم ولّيتم } الكفار ظهوركم . { مدبرين } منهزمين والإدبار الذهاب إلى خلف الإقبال .
هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعد الله نعمه عليهم ، و { مواطن } جمع موطِن بكسر الطاء ، والموطِن موضع الإقامة أو الحلول لأنه أول الإقامة ، و «المواطن » المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة ، ولم يصرف { مواطن } لأنه جمع ونهاية جمع ، { ويوم } عطف على موضع قوله { في مواطن } أو على لفظة بتقدير وفي يوم ، فانحذف حرف الخفض ، و { حنين } واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز وصرف حين أريد به الموضع والمكان ، ولو أريد به البقعة لم يصرف كما قال الشاعر [ حسان رضي الله عنه ] : [ الكامل ]
نصروا نبيَّهم وشدُّوا أزْرَه*** بحنينَ يومَ تَوَاكلِ الأبطالِ{[5580]}
وقوله { إذ أعجبتكم كثرتكم } روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال حين رأى حملته اثني عشر ألفاً قال : «لن نغلب اليوم من قلة » ، روي أن رجلاً من أصحابه قالها فأراد الله إظهار فأراد الله إظهار العجز فظهر حين فر الناس ، ثم عطف القدر بنصره ، وقوله { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } أي بقدر ما هي رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها ، ف «ما » مصدرية ، وقوله { ثم وليتم مدبرين } يريد فرار الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : واختصار هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفاً سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها وعليهم مالك بن عوف النصري وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو ، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعوا بحنين ، فلما تصافَّ الناس حمل المشركون من مجاني الوادي ، فانهزم المسلمون ، قال قتادة : ويقال إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء ، وقال أبو عبد الرحمن الفهري : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، يومئذ وكان على فرس قد اكتنفه العباس عمه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وبين يديه أيمن بن أم أيمن ، وثم قتل رحمه الله ، فلما رأى رسول الله عليه وسلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض ، قاله البراء بن عازب ، واستنصر الله عز وجل فأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها وجوه الكفار ، وقال : شاهت الوجوه ، وقال عبد الرحمن : تطاول من فرسه فأخذ قبضة التراب ونزلت الملائكة لنصره ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يا للأنصار ، وأمر رسول الله عليه وسلم العباس أن ينادي أين أصحاب الشجرة أين أصحاب سورة البقرة ، فرجع الناس عنقاً واحداً{[5581]} وانهزم المشركون ، قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم قالوا لم يبق منا أحد إلا دخل في عينيه من ذلك التراب ، واستيعاب هذه القصة في كتاب السير .
وظاهر كلام النحاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أربعة عشر ألفاً ، وهذا غلط ، و { مدبرين } نصب على الحال المؤكدة كقوله : { وهو الحق مصدقاً }{[5582]} والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الإدبار .
لما تضمّنت الآيات السابقة الحث على قتال المشركين ابتداء من قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ، وكان التمهيد للإقدام على ذلك مدرَّجا بإبطال حرمة عهدهم ، لشركهم ، وبإظهار أنّهم مضمرون العزم على الابتداء بنقض العهود التي بينهم وبين المسلمين لو قُدّر لهم النصر على المسلمين وآية ذلك : اعتداؤهم على خزاعة أحلاف المسلمين ، وهمُّهم بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة بعد الفتح ، حتى إذا انتهى ذلك التمهيد المدرج إلى الحثّ على قتالهم وضمان نصر الله المسلمين عليهم ، وما اتّصل بذلك ممّا يثير حماسة المسلمين جاء في هذه الآية بشواهد ما سبق من نصر الله المسلمين في مواطن كثيرة ، وتذكير بمقارنة التأييد الإلهي لحالة الامتثال لأوامره ، وإنّ في غزوة حنين شواهد تشهد للحالين . فالكلام استيناف ابتدائي لمناسبة الغرض السابق .
وأسند النصر إلى الله بالصراحة لإظهار أنّ إيثار محبّة الله وإن كان يُفيت بعض حظوظ الدنيا ، ففيه حظ الآخرة وفيه حظوظ أخرى من الدنيا وهي حظوظ النصر بما فيه : من تأييد الجامعة ، ومن المغانم ، وحماية الأمة من اعتداء أعدائها ، وذلك من فضل الله إذ آثروا محبّته على محبّة علائقهم الدنيوية .
وأكّد الكلام ب { قد } لتحقيق هذا النصر لأنّ القوم كأنّهم نسوه أو شكّوا فيه فنزلوا منزلة من يحتاج إلى تأكيد الخبر .
و { مواطن } : جمع مَوْطِن ، والموطن أصله مكان التوطّن ، أي الإقامة . ويطلق على مقام الحرب وموقفها ، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة .
و { يومَ } معطوف على الجار والمجرور من قوله : { في مواطن } فهو متعلّق بما تعلّق به المعطوف عليه وهو { نصركم } والتقدير : ونَصَركم يومَ حنين وهو من جملة المواطن ، لأنّ مواطن الحرب تقتضي أياماً تقع فيها الحرب ، فتدلّ المواطن على الأيام كما تدلّ الأيام على المواطن ، فلمّا أضيف اليوم إلى اسم مكانٍ علم أنّه موطِن من مواطن النصر ولذلك عطف بالواو لأنّه لو لم يعطف لتوهّم أنّ المواطن كلّها في يوم حنين ، وليس هذا المراد . ولهذا فالتقدير : في مواطن كثيرة وأياممٍ كثيرة منها موطن حنين ويومُ حنين .
وتخصيص يوم حنين بالذكر من بين أيام الحروب : لأنّ المسلمين انهزموا في أثناء النصر ثم عادَ إليهم النصر ، فتخصيصه بالذكر لما فيه من العبرة بحصول النصر عند امتثال أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وحصول الهزيمة عند إيثار الحظوظ العاجلة على الامتثال ، ففيه مثَل وشاهد لحالتي الإيثارين المذكورين آنفاً في قوله تعالى : { أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله } [ التوبة : 24 ] ليتنبّهوا إلى أنّ هذا الإيثار قد يعرض في أثناء إيثار آخر ، فهم لَمَّا خرجوا إلى غزوة حنين كانوا قد آثروا محبّة الجهاد على محبّة أسبابهم وعلاقاتهم ، ثم هم في أثناء الجهاد قد عاودهم إيثار الحظوظ العاجلة على امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو من آثار إيثار محبّتها ، وهي عبرة دقيقة حصل فيها الضّدان ولذلك كان موقع قوله : { إذ أعجبتكم كثرتكم } بديعاً لأنّه تنبيه على خطئِهم في الأدب مع الله المناسب لِمقامهم أي : ما كان ينبغي لكم أن تعتمدوا على كثرتكم .
و { حُنين } اسم واد بين مكة والطائف قُرب ذي المجاز ، كانت فيه وقعَة عظيمة عقب فتح مكة بين المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا اثني عشر ألفاً ، وبين هوازن وثقيف وألفاً فهما ، إذ نهضوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم حمية وغضباً لهزيمة قريش ولفتح مكة ، وكان على هوازن مالك بن عوف ، أخو بني نصر ، وعلى ثقيف عبد يَالِيل بن عمرو الثقفي ، وكانوا في عدد كثير وساروا إلى مكة فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتّى اجتمعوا بحُنين فقال المسلمون : لن نغلب اليومَ من قلّة ، ووثقوا بالنصر لقوّتهم ، فحصلت لهم هزيمة عند أوّل اللقاء كانت عتاباً إلهياً على نسيانهم التوكّل على الله في النصر ، واعتمادهم على كثرتهم ، ولذلك روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا سمع قول بعض المسلمين « لن نغلب من قلّة » ساءهُ ذلك ، فإنّهم لمّا هبطوا وادي حنين كان الأعداء قد كمنوا لهم في شعابه وأحنائه ، فما راع المسلمين وهم منحدرون في الوادي إلاّ كتائبُ العدوّ وقد شَدَّت عليهم وقيل : إنّ المسلمين حملوا على العدوّ فانهزم العدوّ فلحقوهم يغنمون منهم ، وكانت هوازن قوماً رُماة فاكثبوا المسلمينَ بالسهام فأدبر المسلمون راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وتفرّقوا في الوادي ، وتطاول عليهم المشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في الجهة اليمنى من الوادي ومعه عشرة من المهاجرين والأنصار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباسَ عمَّه أن يصرخ في الناس : يا أصحاب الشجرة أو السمرة يعني أهل بيعة الرضوان يا معشر المهاجرين يا أصحاب سورة البقرة يعني الأنصار هلمّوا إلي ، فاجتمع إليه مائة ، وقاتلوا هوازن مع من بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم واجتلد الناس ، وتراجع بقية المنهزمين واشتدّ القتال و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الآن حَمِي الوطيس » فكانت الدائرةُ على المشركين وهُزموا شرّ هزيمة وغنمت أموالهم وسُبيت نساؤهم .
فذلك قوله تعالى : { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } وهذا التركيب تمثيل لحال المسلمين لمّا اشتدّ عليهم البأس واضطربوا ولم يهتدوا لدفع العدوّ عنهم ، بحال من يرى الأرض الواسعةَ ضيّقةً .
فالضيق غير حقيقي بقرينة قوله : { بما رحبت } استعير { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } استعارة تمثيلية تمثيلاً لحال من لا يستطيع الخلاص من شدّة بسبب اختلال قوة تفكيره ، بحال من هو في مكان ضَيِّق من الأرض يريد أن يخرج منه فلا يستطيع تجاوزه ولا الانتقال منه .
فالباء للملابسة ، و { ما } مصدرية ، والتقدير : ضاقت عليكم الأرض حالة كونها ملابسة لرحبها أي سعتها : أي في حالة كونها لا ضيق فيها وهذا المعنى كقول الطرماح بن حكيم :
ملأتُ عليه الأرض حتّى كأنّها *** من الضيق في عينيْه كفة حابل
قال الأعلم « أي من الزعر » هو مأخوذ من قول الآخر :
كأنَّ فجاج الأرض وهي عريضة *** على الخائف المطلوب كفّة حابل
وهذا أحسن من قول المفسّرين أنّ معنى { وضاقت عليكم اورض بما رحبت } لمْ تهتدوا إلى موضع من الأرض تفرّون إليه فكأنَّ الأرض ضاقت عليكم ، ومنهم من أجمل فقال : أي لشدّة الحال وصعوبتها .
وموقع { ثُم } في قوله : { ثم وليتم مدبرين } موقع التراخي الرتبي ، أي : وأعظم ممّا نالكم من الشرّ أن وليتم مدبرين .
والتولّي : الرجوع ، و { مدبرين } حال : إمّا مؤكّدة لمعنى { وليتم } أو أريد بها إدبار أخص من التولّي ، لأنّ التولّي مطلق يكون للهروب ، ويكون للفرّ في حِيل الحروب ، والإدبار شائع في الفرار الذي لم يقصد به حيلة فيكون الفرق بينه وبين التولّي اصطلاحاً حربياً .