{ ومن الناس من يشري نفسه } يبيعها أي يبذلها في الجهاد ، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل { ابتغاء مرضاة الله } طلبا لرضاه . قيل إنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، أخذه المشركون وعذبوه ليرتد فقال : إني شيخ كبير لا ينفعكم إن كنت معكم ولا يضركم إن كنت عليكم فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي فقبلوه منه وأتى المدينة . { والله رؤوف بالعباد } حيث أرشدهم إلى مثل هذا الشراء وكلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الغزاة والشهداء .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ( 207 )
وقوله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه } الآية تتناول كل مجاهد في سبيل الله أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر ، والظاهر من هذا التقسيم( {[1937]} ) أن تكون الآيات قبل هذه على العموم في الكافر بدليل الوعيد بالنار ويأخذ العصاة الذين فيهم شيء من هذا الخلق بحظهم من وعيد الآية ، ومن قال إن الآيات المتقدمة هي في منافقين تكلموا في غزوة الرجيع( {[1938]} ) قال : هذه الآية في شهداء غزوة الرجيع ، ومن قال تلك في الأخنس قال : هذه في الأنصار والمهاجرين المبادرين إلى الإيمان .
وقال عكرمة وغيره : هذه في طائفة من المهاجرين ، وذكروا حديث صهيب أنه خرج من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعته قريش لترده ، فنثر كنانته ، وقال لهم : تعلمون والله إني لمن أرماكم رجلاً ، والله لأرمينَّكم ما بقي لي سهم ، ثم لأضربن بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، فقالوا له : لا نتركك تذهب عنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً ، ولكن دلنا على مالك ونتركك ، فدلهم على ماله وتركوه ، فهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال له : «ربح البيع أبا يحيى » ، فنزلت فيه هذه الآية( {[1939]} ) ، ومن قال قصد بالأول العموم قال في هذه كذلك بالعموم ، و { يشري } معناه يبيع ، ومنه { وشروه بثمن بخس }( {[1940]} ) [ يوسف : 20 ] ، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري : [ مجزوء الكامل ]
وَشَريْتُ برداً لَيْتَنِي . . . مِنْ بَعْدِ برْدٍ كُنْتَ هَامَه( {[1941]} )
يعطى بها ثمناً فَيَمْنَعُها . . . وَيَقُولُ صَاحِبُهُ أَلاَ تَشْرِي( {[1942]} )
ومن هذا تسمى الشراة( {[1943]} ) كأنهم الذين باعوا أنفسهم من الله تعالى ، وحكى قوم أنه يقال شرى بمعنى اشترى ، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب ، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها ، اللهم إلا أن يقال إن عزم صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله تعالى فتستقيم اللفظة على معنى باع .
وتأول هذه الآية عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم في مغيري المنكر ، ولذلك قال علي وابن عباس : اقتتل الرجلان ، أي قال المغير للمفسد : اتق الله ، فأبى المفسد وأخذته العزة ، فشرى المغير نفسه من الله تعالى وقاتله فاقتتلا .
وروي أن عمر بن الخطاب كان يجمع في يوم الجمعة شباباً من القرأة فيهم ابن عباس والحر بن قيس وغيرهما فيقرؤون بين يديه ومعه ، فسمع عمر ابن عباس رضي الله عنهم يقول : اقتتل الرجلان ، حين قرأ هذه الآية ، فسأله عما قال ، ففسر له هذا التفسير ، فقال له عمر : «لله تلادك( {[1944]} ) يا ابن عباس » .
وقال أبو هريرة وأبو أيوب حين حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقال قوم : ألقى بيده إلى التهلكة ، ليس كما قالوا ، بل هذا قول الله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه } الآية( {[1945]} ) .
و { ابتغاء } مفعول من أجله ، ووقف حمزة على { مرضاة } بالتاء والباقون بالهاء . قال أبو علي : «وجه وقف حمزة بالتاء إما أنه على لغة من يقول طلحت وعلقمت ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
بل جوز تيهاء كظهر الحجفت( {[1946]} ) . . . وإما أنه لما كان المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما تثبت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد .
وقوله تعالى : { والله رؤوف بالعباد } ترجية تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية كما في قوله تعالى : { فحسبه جهنم } تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم في الآية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.