قوله : { مُتَّكَئاً } العامَّةُ على ضم الميم وتشديدِ التاءِ وفَتْحِ الكاف والهمز ، وهو مفعولٌ به بأَعْتَدَتْ ، أي : هَيَّأَتْ وأَحْضَرَتْ . والمتَّكأ الشيءُ الذي يُتَّكَأُ عليه من وسادةٍ ونحوها . وقيل : المتكأ : مكان الاتِّكاء . وقيل : طعام يُحَزُّ حَزَّاً وهو قول مجاهد . قال القتبيُّ : " يُقال : اتَّكَأْنا عند فلانٍ ، أي : أَكَلْنا " .
قال الزمخشري : " مِنْ قولك : اتَّكَأْنا عند فلان : طَعِمنا ، على سبيل الكناية ؛ لأنه مِنْ " دَعَوْتَه ليَطْعَمَ عندك " : اتخذتَ له تُكَأَة يتكِىء عليها . قال جميل :
2771 فَظَلِلْنا بنعمةٍ واتَّكَأْنا *** وشَرِبْنا الحَلالَ مِنْ قُلَلِهْ "
انتهى . قلت : فقوله : " وشَرِبْنا " مُرَشِّح لمعنى اتَّكَأْنا بأكلنا .
وقرأ أبو جعفر والزهري " مُتَّكَا " مشدد التاء دون همزٍ وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكونَ أصلُه مُتَّكأ كقراءة العامَّة وإنما خُفِّفَ همزُه كقولهم تَوَضَّيْتُ في تَوَضَّأْتُ ، فصار بزنة مُتَّقَى . والثاني : أن يكونَ مُفْتَعَلاً مِنْ أَوْكَيْتُ القِرْبة إذا شَدَدْتَ فاها بالوِكاء ، فالمعنى : أَعْتَدَتْ شيئاً يَشْتَدِدْن عليه : إمَّا بالاتِّكاء وإمَّا بالقطع بالسكين ، وهذا الثاني تخريج أبي الفتح .
وقرأ الحسن وابن هرمز " مُتَّكاءً " بالتشديد والمدِّ ، وهي كقراءةِ العامَّة إلا أنه أشبع الفتحة فتولَّد منها ألفٌ كقوله :
2772 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ومِنْ ذَمِّ الرجالِ بمنتزاحِ
2773 يَنْباع مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
2774 أَعوذُ باللَّه مِنَ العَقْرابِ *** الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنابِ
أي : بمنتزح ويَنْبَع والعقرب الشائلة .
وقرأ ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة/ والضحاك والجحدري وأبان بن تغلب " مُتْكَاً " بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف ، وكذلك قرأ ابن هرمز وعبد اللَّه ومعاذ ، إلا أنهما فتحا الميم . والمُتْكُ بالضم والفتح الأُتْرُجُّ ، ويقال الأُتْرُنْجُ لغتان ، وأنشدوا :
2775 فَأَهْدَتْ مُتْكَةً لبني أبيها *** تَخُبُّ بها العَثَمْثَمَةُ الوَقاحُ
وقيل : بل هو اسم لجميع ما يُقطع بالسكين كالأُتْرُجِّ وغيره من الفواكه ، ونشدوا :
2776 نَشْرَبُ الإِثمَ بالصُّواعِ جِهاراً *** وترى المُتْكَ بيننا مُسْتعارا
قيل : وهو مِنْ مَتَك بمعنى بَتَك الشيءَ ، أي : قطعه ، فعلى هذا يحتمل أن تكونَ الميم بدلاً من الباء وهو بدل مُطَّرد في لغة قومٍ ، واحتُمِل أن يكونَ من مادةٍ أخرى وافَقَتْ هذه . وقيل : بالضم العسلُ الخالص عند الخليل ، والأُتْرُجُّ عند الأصمعي . ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث ، أعني ضمَّ الميمِ وفتحَها وكسرَها قال : وهو الشرابُ الخالص .
وقال المفضل : هو بالضم المائدة ، أو الخمر في لغة كِنْدة .
وقوله : { لَهُنَّ مُتَّكَئاً } : إمَّا أَنْ يريدَ كل واحدةٍ مُتَّكَأً ، ويَدُلُّ له قوله : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } ، وإمَّا أن يريدَ الجنس .
والسِّكِّين يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ ، قاله الكسائي والفراء ، وأنكر الأصمعي تأنيثه . والسَّكِينة فَعِيلة من السكون . وقال الراغب : " سُمِّي به لإِزالتهِ حركةَ المذبوح " .
قوله : { أَكْبَرْنَهُ } الظاهر أن الهاء ضمير يوسف . ومعنى أَكْبَرْنَه عَظَّمْنه ودُهِشْن مِنْ حُسْنه . وقيل : هي هاء السكت . قال الزمخشري : " وقيل : أَكْبَرْنَ بمعنى " حِضْنَ " والهاء للسكت ، يقال : أَكْبَرَتِ المرأةُ إذا حاضَتْ ، وحقيقتُه : دَخَلَتْ في الكِبَر ؛ لأنها بالحيض تخرُجُ مِنْ حَدِّ الصِّغَرِ إلى الكِبَرِ ، وكأنَّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قولَه :
2777 خَفِ اللَّهَ واسْتُرْ ذا الجمالَ ببُرْقُعٍ *** فإنْ لُحْتَ حاضَتْ في الخُدورِ العواتِقُ
انتهى . وكونُ الهاء للسكتِ يَرُدُّه ضمُّ الهاءِ ، ولو كانت للسكت لَسَكَنَتْ وقد يقال : إنه أَجْراها مُجْرى هاء الضمير ، وأَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف في إثباتها . قال الشيخ : " وإجماعُ القَّراء على ضمِّ الهاء في الوصل دليلٌ على أنها ليسَتْ هاءَ السكت ؛ إذ لو كانت هاءَ السكت وكان من إجراء الوصلِ مُجْرى الوقفِ لم يضمَّ الهاء " . قلت : وهاء السكت تُحَرَّك بحركةِ هاءِ الضمير إجراءً لها مُجْراها ، وقد حَقَّقْتُ هذا في الأنعام ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبي أيضاً :
2778 واحَرَّ قلباه مِمِّنْ قَلْبُه شَبِمُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإنه رُوِي بضمِّ الهاء في " قلبها " وجعلوها هاءَ سكتٍ . ويمكن أن يكون " أَكْبَرْنَ " بمعنى حِضْنَ ولا تكون الهاءُ للسَّكْت ، بل تُجْعل ضميرَ المصدرِ المدلولِ عليه بفعله أي : أَكْبَرْنَ الإِكبار ، وأنشدوا على أن الإِكبارَ بمعنى الحيض قولَه :
2779 يأتي النساءَ على أَطْهارِهِنَّ ولا *** يأتي النساءَ إذا أَكْبَرْن إكبارا
قال الطبري : " البيت مصنوعٌ " .
قوله : { حَاشَ للَّهِ } " حاشى " عَدَّها النحويون من الأدوات المترددةِ بين الحرفية والفعلية فإنْ جَرَّتْ فهي حرفٌ ، وإنْ نَصَبَتْ فهي فعلٌ ، وهي من أدواتِ الاستثناء ولم يَعْرف سيبويه فعليَّتها وعَرَفَها غيرُه ، وحَكَوا عن العرب " غَفَر اللَّه لي ولِمنْ سمع دعائي حاشى الشيطانَ وابنَ الأصبغ " بالنصب ، وأنشدوا :
2780 حَشَى رَهْطَ النبيِّ فإنَّ منهمْ *** بُحوراً لا تكدِّرُها الدِّلاءُ
بنصب " رَهْط " . و " حَشَى " لغةٌ في حاشى كما سيأتي . وقال الزمخشري : " حاشَى كلمةٌ تفيد التنزيه في باب الاستثناء تقول : أساءَ القومُ حاشى زيدٍ قال :
2781 حاشى أبي ثوبانَ إنَّ بهِ *** ضِنَّاً عنِ المَلْحاة والشَّتْم
وهي حرفٌ من حروف الجر فوُضِعَتْ موضعَ التنزيه والبراءة ، فمعنى حاشَى اللَّهِ : براءة اللَّهِ وتنزيه اللَّه ، وهي قراءة ابن مسعود " . قال الشيخ : " وما ذكر أنها تفيد التنزيهَ في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين ، لا فرقَ بين قولك : " قام القومُ إلا زيداً " و " قام القوم حاشى زيدٍ " ، ولَمَّا مَثَّل بقوله : " أساء القومُ حاشى زيدٍ " وفَهِم هو من هذا التمثيلِ براءةَ زيدٍ من الإِساءة جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ ، وأمَّا ما أنشده مِنْ قوله : حاشا أبي ثوبان ، فهكذا ينشده ابن عطية وأكثرُ النحاة ، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدرَ بيتٍ على عجز آخَرَ وَهْماً من بيتين ، وهما :/
2782 حاشى أبي ثَوْبان إنَّ أبا *** ثَوْبانَ ليس ببُكْمَةٍ فَدْمِ
عمرَو بنَ عبدِ اللَّه إنَّ به *** ضِنَّاً عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ
قلت : قوله " إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشري لا يعرفه النحاة لم ينكروه وإنما لم يذكروه في كتبهم ؛ لأنهم غالبُ فنهم في صناعة الألفاظ دون المعاني ، ولمَّا ذكروا مع أدواتِ الاستثناء " ليس " و " لا يكون " و " غير " لم يذكروا معانيهَا ، إذ مرادُهم مساواتُها ل " إلا " في الإِخراج وذلك لا يمنعُ من زيادةِ معنى في تلك الأدوات .
وزعم المبرد وغيره كابن عطية أنها تتعيَّنُ فعليَّتُها إذا وقع بعدها حرفُ جر كالآية الكريمة ، قالوا لأن حرفَ الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً كقوله :
2783 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ولا لِلِما بهم أبداً دواءُ
2784 فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فتعيَّن أن تكونَ فعلاً ، فاعلُه ضمير يوسف أي : حاشى يوسف ، و " للَّه " جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بالفعل قبله ، واللامُ تفيد العلةَ أي : حاشى يوسفَ أن يقارِفَ ما رَمَتْه به لطاعة اللَّه ولمكانه منه أو لترفيع اللَّه أن يُرمَى بما رَمَتْه به ، أي : جانَبَ المعصيةَ لأجل اللَّه .
وأجاب الناسُ عن ذلك بأنَّ حاشى في الآية الكريمة ليست حرفاً ولا فعلاً ، وإنما هي اسمُ مصدرٍ بدلٌ من اللفظة بفعله كأنه قيل : تنزيهاً للَّه وبراءةً له ، وإنما لم يُنَوَّنْ مراعاةً لأصله الذي نُقِل منه وهو الحرف ، ألا تراهم قالوا : مِنْ عن يمينه فجعلوا " عن " اسماً ولم يُعْربوه ، وقالوا " مِنْ عليه " فلم يُثْبتوا ألفه مع المضمر ، بل أَبْقَوا " عن " على بنائه ، وقلبوا ألف " على " مع المضمر ، مراعاةً لأصلها ، كذا أجاب الزمخشري ، وتابعه الشيخُ ولم يَعْزُ له الجواب . وفيه نظر .
أمَّا قوله : " مراعاة لأصله " فيقتضي أنه نُقِل من الحرفية إلى الاسمية ، وليس ذلك إلا في جانب الأعلام ، يعني أنهم يُسَمُّون الشخصَ بالحرف ، ولهم في ذلك مذهبان : الإِعرابُ والحكاية ، أمَّا أنَّهم ينقلون الحرف إلى الاسم ، أي : يجعلونه اسماً فهذا غيرُ معروفٍ . وأمَّا استشهادُه ب " عن " و " على " فلا يفيده ذلك ؛ لأنَّ " عن " حالَ كونِها اسماً إنما بُنيت لشبهها بالحرفِ في الوضع على حرفين لا أنها باقيةٌ على بنائها .
وأمَّا قَلْبُ ألفِ " على " مع الضمير فلا دلالة فيه لأنَّا عَهدنا ذلك فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق ك " لدى " .
والأَوْلى أن يقال : الذي يظهر في الجواب عن قراءةِ العامة أنها اسمُ منصوبٌ كما تقدَّم تقريره ، ويدلُّ عليه قراءة أبي السمَّال " حاشاً للَّه " منصوباً ، ولكنهم أَبْدلوا التنوين ألفاً كما يبدلونه في الوقف ، ثم إنهم أَجْروا الوصل مجرى الوقف كما فعلوا ذلك في مواضعَ كثيرةٍ تقدَّم منها جملةٌ وسيمر بك مثلها .
وقيل في الجواب عن ذلك : بل بُنيت " حاشا " في حال اسميتها لشبهها ب " حاشا " في حال حرفيَّتها لفظاً ومعنى ، كما بُنِيَتْ " عن " و " على " لما ذكرنا .
وقال بعضُهم : إنَّ اللامَ زائدةٌ . وهذا ضعيفٌ جداً بابُه الشعرُ . واسْتَدَلَّ المبرد وأتباعُه على فعليتها بمجيء المضارعِ منها . قال النابغة الذبياني :
2785 ولا أَرى فاعِلاً في الناسِ يُشْبِهُهُ *** ولا أُحاشي من الأقوامِ مِنْ أَحَدِ
قالوا : وتَصَرُّفُ الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل دليلُ فعليَّتها لا محالةَ .
وقد أجاب الجمهور عن ذلك : بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظِ الحرفِ كما قالوا : " سَوَّفْتُ بزيد " و " لَوْلَيْت له " ، أي : قلت له : سوف أفعلُ . وقلت له : لو كان ولو كان ، وهذا من ذلك ، وهو محتمل .
وممَّن رَجَّح جانبَ الفعلية أبو علي الفارسي قال : " لا تَخْلو " حاش " في قوله : " حاش للَّه " من أن تكونَ الحرفَ الجارَّ في الاستثناء ، أو تكون فعلاً على فاعَل ، ولا يجوز أن تكونَ الحرفَ الجارَّ لأنه لا يدخل على مثله ، ولأن الحروفَ لا يُحْذَفُ منها إذ لم يكن فيها تضعيف ، فثبت أنه فاعَل مِن الحشا الذي يُراد به الناحية ، والمعنى : أنه صار في حَشَاً ، أي في ناحية ، وفاعل " حاش " " يوسف " والتقدير : بَعُدَ من هذا الأمرِ للَّه ، أي : لخوفِه " .
قوله : " حرفُ الجر لا يدخل على مثله " مُسَلَّم ، ولكن ليس هو هنا حرفَ جر كما تقدَّم تقريرُه . وقوله : " لا يُحْذف من الحرفِ إلا إذا كان مضعفاً " ممنوع ، ويدلُّ له قولهم " مُنْ " في " منذ " إذا جُرَّ بها ، فحذفوا عينها ولا تضعيفَ . قالوا : ويدلُّ على أنَّ أصلَها " منذ " بالنون تصغيرُها على " مُنَيْذ " وهذا مقرَّر في بابه .
وقرأ أبو عمرو وحده " حاشى " بألفين : ألفٍ بعد الحاء ، وألف بعد الشين في كلمتي هذه السورة وصلاً ، وبحذفها وقفاً إتباعاً للرسم كما سننبِّه عليه . والباقون بحذف الألفِ الأخيرةِ وصلاً ووقفاً .
فأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فإنه جاء فيها بالكلمة على أصلها . وأمَّا الباقون فإنهم اتَّبعوا في ذلك الرسمَ ولمَّا طال اللفظ حَسُن تخفيفُه بالحذف ولا سيما على قول مَنْ يَدَّعي فعليَّتَها ، كالفارسي .
قال الفارسي : " وأمَّا حذفُ الألف فعلى " لم يَكُ " و " لا أَدْرِ " و " أصاب الناسَ جُهْدٌ ، ولَوْ تَرَ أهلَ مكة " ، و [ قوله ] :
2786 وصَّانيَ العجَّاجُ فيما وَصَّني/ ***
في شعر رؤبة ، يريد : لم يكن ، ولا أدري ، ولو ترى ، ووصَّاني . وقال أبو عبيد : " رأيتُها في الذي يقال : إنه الإِمام مصحف عثمان رضي اللَّه عنه : " حاش للَّه " بغير ألف ، والأخرى " مثلُها " . وحكى الكسائي أنها رآها في مصحف عبد اللَّه كذلك ، قالوا : فعلى ما قال أبو عبيد والكسائي تُرَجَّح هذه القراءةُ ، ولأنَّ عليها ستةً من السبعة ، ونقل الفراء أن الإِتمامَ لغةُ بعض العرب ، والحذفُ لغة أهل الحجاز قال : " ومِنْ العرب من يقول : " حَشَى زيد " أراد حشى لزيد " . فقد نقل الفراءُ أن اللغاتِ الثلاثَ مسموعةٌ ، ولكنَّ لغةَ الحجازِ مُرَجَّحَةٌ عندهم .
وقرأ الأعمش في طائفة " حَشَى للَّه " بحذف الألفين وقد تقدَّم أن الفراء حكاها لغةً عن بعض العرب ، وعليه قوله :
2787 حَشَى رَهْطِ النبيِّ . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقرأ أُبَي وعبد اللَّه " حاشى اللَّهِ " بجرِّ الجلالة ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن تكونَ اسماً مضافاً للجلالة [ نحو : " سبحان اللَّه " وهو اختيارُ الزمخشري . الثاني : أنه حرفُ استثناء جُرَّ به ما بعده ، وإليه ذهب الفارسي ، ] وفي جَعْلِهِ " حاشى " حرفَ جرٍّ مُراداً به الاستثناءُ نظرٌ ، إذ لم يتقدَّم في الكلام شيءٌ يُستثنى منه الاسمُ المعظَّم بخلافِ " قام القومُ حاشى زيد " .
واعلمْ أنَّ النحويين لمَّا ذكروا هذا الحرفَ جعلوه من المتردد بين الفعلية والحرفية ، عند مَنْ أثبتَ فعليَّتَه ، وجعله في ذلك كخلا وعدا ، عند مَنْ أثبت حرفيَّة " عدا " ، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسميةِ والفعلية والحرفية ، كما فعلوا ذلك في " على " فقالوا : يكون حرف جر في " عليك " ، واسماً في قوله : " مِنْ عليه " ، وفعلاً في قوله :
2788 عَلاَ زيدُنا يومَ النَّقا . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإن كان فيه نظرٌ ذكرتُه مستوفىً في غير هذا المكان ، ملخصُه أن " على " حالَ كونها فعلاً غير " على " حال كونها غيرَ فعل ، بدليل أنَّ ألف الفعلية منقلبة عن واو ، ويدخلها التصريف والاشتقاق دون ذَيْنَكَ . وقد يتعلَّق مَنْ ينتصر للفارسي بهذا فيقول : لو كانت " حاشى " في قراءة العامَّة اسماً لذكر ذلك النحويون عند تردُّدِها بين الحرفية والفعلية ، فلمَّا لم يذكروه دَلَّ على عدمِ اسميتها .
وقرأ الحسن " حاشْ " بسكون الشين وصلاً ووقفاً كأنه أجرى الوصلَ مُجْرَى الوقف . ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ : " حاشى الإِله " قال : " محذوفاً مِنْ حاشى " يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرة ، ويدلُّ على ذلك ما صرَّح به صاحب " اللوامح " فإنه قال : " بحذف الألف " ثم قال : وهذا يدلُّ على أنه حرفُ جرٍ يَجُرُّ ما بعده ، فأما " الإِله " فإنه فكَّه عن الإِدغامِ ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام المفعول ، ومعناه المعبود ، وحُذِفت الألف من " حاشى " للتخفيف "
قال الشيخ : " وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحبُ " اللوامح " من أنَّ الألف في " حاشى " في قراءة الحسن محذوفةُ الألف لا يتعيَّنُ ، إلا إنْ نَقَل عنه أنه يقف في هذه القراءةِ بسكون الشين ، فإن لم يُنْقَلْ عنه في ذلك شيءٌ فاحتمل أن تكونَ الألفُ حُذِفت لالتقاء الساكنين ؛ إذا الأصلُ : " حاشى الإِله " ثم نَقَل فحذف الهمزة وحَرَّك اللام بحركتها ، ولم يَعْتَدَّ بهذا التحريك لأنه عارض ، كما تنحذف في " يَخْشى الإِله " ، ولو اعتدَّ بالحركة لم تُحْذف الألف " .
قلت : الظاهر أن الحسنَ يقف في هذه القراءة بسكون الشين ، ويُسْتأنس له بأنه سكَّن الشين في الرواية الأخرى عنه ، فلمَّا جِيءَ بشيءٍ يُحْتَمَلُ ينبغي أن يُحْمَلَ على ما صُرِّح به . وقول صاحب " اللوامح " : " وهذا يدلُّ على أنه حرف جر يُجَرُّ به ما بعده " لا يصحُّ لِما تقدم مِنْ أنه لو كان حرف جر لكان مستثنى به ولم يتقدَّمْ ما يستثنى منه بمجروره .
واعلمْ أنَّ اللامَ الداخلةَ على الجلالة متعلقة بمحذوف على سبيل البيان ، كهي في " سقياً لك ورعياً لزيد " عند الجمهور ، وأمَّا عند المبرد والفارسي فإنها متعلقة بنفس " حاشى " لأنها فعلٌ صريحٌ عندهما ، وقد تقدم أن بعضَهم ادَّعى زيادتَها .
قوله : { مَا هَذَا بَشَراً } العامَّة على إعمال " ما " على اللغة الحجازية ، وهي اللغة الفصحى ، ولغةُ تميم الإِهمالُ ، وقد تقدَّم تحقيق هذا أول البقرة وما أنشدتُه عليه من قوله :
2789 وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيتين . ونقل ابن عطية أنه لم يَقْرأ أحد إلا بلغة الحجاز . وقال الزمخشري : " ومَنْ قرأ على سليقته من بني تميم قرأ " بشرٌ " بالرفع وهي قراءةُ ابن مسعود " . قلت : فادِّعاء ابن عطية أنه لم يُقرأ به غير مُسَلَّم .
وقرأ العامَّة " بَشَراً " بفتح الباء على أنها كلمة واحدة . وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي " بِشِرى " بكسر الباء ، وهي باء الجر دخلت على " شِرى " فهما كلمتان جار ومجرور ، وفيها تأويلات ، أحدُهما : ما هذا بمشترى ، فوضع المصدرَ موضع المفعول به كضَرْب الأمير . الثاني : ما هذا بمُباعٍ ، فهو أيضاً مصدر واقع موقع المفعول به إلا أن المعنى يختلف .
الثالث : ما هذا بثمن ، يَعْنِين أنه أَرْفَعُ مِنْ أنْ يُجْرى عليه شيءٌ من هذه الأشياء .
وروى عبد الوارث عن أبي عمرو كقراءة الحسن وأبي الحويرث إلا أنه قرأ عنه " إلا مَلِك " بكسر اللام واحد الملوك ، نَفَوا عنه ذُلَّ المماليك/ وأثبتوا له عِزَّ الملوك .
وذكر ابن عطية كسرَ اللام عن الحسن وأبي الحويرث . وقال أبو البقاء : " وعلى هذا قُرىء " مَلِك " بكسر اللام " كأنه فهم أنَّ مَنْ قرأ بكسر الياء قرأ بكسر اللام أيضاً للمناسبة بين المعنيين ، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءةَ مع كسر الباء البتة ، بل يُفهم من كلامِه أنه لم يَطَّلع عليها فإنه قال : " وقرىء ، ما هذا بشرى أي ما هو بعبدٍ مملوكٍ لئيم ، إنْ هذا إلا مَلَك كريم ، تقول : " هذا بشرى " أي : حاصلٌ بشِرى بمعنى يُشْتَرَى ، وتقول : هذا لك بِشِرى أم بِكِرا ؟ والقراءةُ هي الأَوْلى لموافقتها المصحف ومطابقة " بشر " ل " ملك " .
قوله : " لموافقتها المصحفَ " يعني أنَّ الرسم " بشراً " بالألف لا بالياء ، ولو كان المعنى على " بِشِرى " لَرُسِمَ بالياء . وقوله : " ومطابقة " دليلُ على أنه لم يَطَّلِعْ على كسر اللام عن مَنْ قرأ بكسر الباء .