الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (93)

قوله تعالى : { وَأُشْرِبُواْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على قولِه : " قالوا سَمِعْنا " ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من فاعل " قالوا " ، أي : قالوا ذلك وقد أُشْربوا ولا بدَّ من إضمار " قد " لِيَقْرُبَ الماضي إلى الحالِ خلفاً للكوفيين ، حيثُ قالوا : لا يُحْتاجُ إليها . ويجوز أن يكونَ مستأنفاً لمجردِ الإِخبارِ بذلك ، واستضعَفَه أبو البقاء ، قال : " لأنَّه قد قالَ بعدَ ذلك : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ } ، فهو جوابُ قولِهم : " سَمِعْنا وعَصَيْنا " ، فالأَوْلَى ألاَّ يكونَ بينهما أجنبيٌ " . والواوُ في " أُشْرِبوا " هي المفعولُ الأولُ قامَتْ مقامَ الفاعلِ ، والثاني هو " العِجْلَ " لأنَّ " شَرِبَ " يتعدَّى بنفسه فَأَكْسَبَتْه الهمزةُ مفعولاً آخرَ ، ولا بد من حَذْفِ مضافَيْنِ قبلَ " العِجْل " والتقديرُ : وأُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العِجْلِ . وحَسَّن حَذْفَ هذين المضافين المبالغَةُ في ذلك ، حتى كأنَّه تُصُوِّر إشرابُ ذاتِ العِجْل . والإِشرابُ : مخَالَطَةُ المائع بالجامِدِ ، ثم اتُّسِعَ فيه حتى قيل في الألوان نحو : أُشْرِبَ بياضُه حُمْرةً . والمعنى : أنهم داخَلَهم حُبُّ عبادتِه ، كما داخَل الصبغُ الثوبَ . ومنه :

إذا ما القلبُ أُشْرِبَ حُبَّ شيءٍ *** فلا تَأْمَلْ له الدهرَ انْصِرافَا

وعَبَّر بالشربِ دونَ الأكل ، لأنَّ الشربَ يتغَلْغَلْ في باطنِ الشيء بخلاف الأكل ، فإنه مجاوزٌ ، ومنه في المعنى :

جَرَى حبُّها مَجْرى دَمي في مَفاصِلي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال بعضُهم :

تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فؤادي *** فبادِيه مع الخافي يَسيرُ

تَغَلْغَلَ حيثُ لم يَبْلُغْ شرابٌ *** ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ

أكادُ إذا ذَكَرْتُ العهدَ مِنْها *** أطيرُ لو أن إنساناً يَطيرُ

وقيل : الإشرابُ هنا حقيقةٌ ، لأنه يُروى أن موسى عليه السلام بَرَدَ العِجل بالمِبْرَدِ ثم جعل تلك البُرادة في ماءٍ وأمرهم بشُرْبه ، فَمَنْ كان يُحِبُّ العجل ظَهَرَتِ البُرادَةُ على شَفَتَيْه ، وهذا وإنْ كان قال به السُّدِّي وابن جريج وغيرُهما فَيَرُدُّه قولُه : " في قُلوبهم " .

قوله : " بكُفْرهم " فيه وجهان ، أظهرُهما : / أنَّها للسببيةِ متعلِّقَة [ 41 / ب ] ب " أُشْرِبوا " ، أي : أُشْربوا بسببِ كفرِهم السابِق . والثاني : أنها بمعنى " مع " ، يَعْنُون بذلك أنَّها للحالِ ، وصاحبُها في الحقيقةِ ذلك المضافُ المحذوفُ أي : أُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العجلِ مختلطاً بكُفْرهم . والمصدرُ مضافٌ للفاعِلِ ، أي : بأَنْ كفروا . { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ } كقولِه : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ } [ البقرة : 90 ] فَلْيُلْتفت إليه .

قوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } يجوزُ فيه الوجهان السابقان من كونِها نافيةً وشرطيةً ، وجوابُها محذوفٌ تقديرُه : " فبِئْسَما يَأْمرُكم " . وقيلَ : تقديرُه : فلا تقتلوا أنبياءَ الله ولا تُكّذِّبوا الرسلَ ولا تكتمُوا الحقَّ ، وأَسْندَ الإِيمانَ إليهم تَهَكُّماً بهم ، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ صفةٍ أي : إيمانُكم الباطلُ ، أو حَذْفِ مضافٍ أي : صاحبُ إيمانكم . وقرأ الحسن : " بِهُو إيمانُكُمْ " بضم الهاءِ مع الواو وقد تقدَّم أنِّها الأصل .