الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (36)

قوله : { وَالْبُدْنَ } : العامَّةُ على نصب " البُدْنَ " على الاشتغال . ورُجِّح النصبُ وإن كان مُحْوِجاً لإِضمارٍ ، على الرفع الذي لم يُحْوِجْ إليه ، لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ على جملةِ الاشتغالِ . وقُرِىء برفعِها على الابتداءِ ، والجملةُ بعدها الخبرُ .

والعامَّةُ أيضاً على تسكينِ الدالِ . وقرأ الحسن وتُرْوى نافعٍ وشيخةِ أبي جعفر بضمِّها ، وهما جمعان ل " بَدَنَة " نحو : ثَمَرةٍ وثُمُرٍ وثُمْرٍ . فالتسكينُ يحتمل أن يكونَ تخفيفاً من المضمومِ ، وأَنْ يكونَ أصلاً . وقيل : البُدْنُ والبُدُنُ جمعُ بَدَن ، والبَدَنُ جمعٌ لبَدَنَة نحو : خَشَبة وخَشَب ، ثم يُجْمع خَشَباً على خُشُب وخُشْب . / وقيل : البُدْنُ اسمٌ مفردٌ لا جمعٌ يَعْنُون اسمَ جنسٍ . وقرأ ابنُ أبي إسحاق " البُدُنَّ " بضم الباء والدال وتشديد النون . وهي تحتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّه قرأ كالحسن ، فوقَفَ على الكلمةِ وضَعَّفَ لامَها كقولِهم : " هذا فَرُخّْ " ثم أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ في ذلك . ويُحتمل أَنْ يكونَ اسماً على فُعُل ك عُتُلّ .

وسُمِّيَت البَدَنة بَدَنةً لأنها تُبْدَنُ أي : تُسَمَّنُ . وهنل تختصُّ بالإِبل ؟ الجمهورُ على ذلك . قال الزمخشري : " والبُدْنُ : جمعُ بَدَنَة سُمِّيَتْ لعِظَمِ بَدَنِها ، وهي الإِبِلُ خاصةً ؛ لأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ألحق البقرَ بالإِبل حين قال : " البَدَنَةُ عن سبعةٍ ، والبقرة عن سبعة " فجَعَلَ البقرَ في حُكْمِ الإِبلِ ، صارَت البَدَنةُ متناوَلَةً في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابِه ، وإلاَّ فالبُدْنُ هي الإِبلُ وعليه تَدُلُّ الآيةُ " . وقيل لا تختصُّ ، فقال الليث : البَدَنَةُ بالهاء تقعُ على الناقةِ والبقرة والبعير وما يجوز في الهَدْي والأضاحي ، ولا تقعُ على الشاة . وقال عطاءٌ وغيرُه : ما أشعر مِنْ ناقة أو بقرةٍ . وقال آخرون : البُدْنُ يُراد به العظيمُ السِّنِّ من الإِبل والبقر . ويقال للسَّمين من الرجال . وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ .

قوله : { مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ } هو المفعولُ الثاني للجَعْل بمعنى التصيير .

قوله : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } الجملةُ حالٌ : إمَّا من " ها " " جَعَلْناها " ، وإمَّا مِنْ شعائر الله . وهذان مبنيَّان على أن الضميرَ في " فيها " هل هو عائدٌ على " البُدْن " أو على شعائر ؟ والأولُ قولُ الجمهورِ .

قوله : { صَوَآفَّ } نصبٌ على الحال أي : مُصْطَفَّةً جنبَ بعضِها إلى بعض . وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم " صَوافي " جمعَ صافِيَة أي : خالصةً لوجهِ الله تعالى . وقرأ عمرو بن عبيد كذلك ، إلاَّ أنه نَوَّنَ الياءَ فقرأ " صَوافياً " . واسْتُشْكِلَتْ من حيث إنه جمعٌ متَناهٍ . وخُرِّجَتْ على وجهين ، أحدُهما : ذكره الزمخشري وهو أَنْ يكونَ التنوينُ عِوَضاً من حرفِ الإِطلاقِ عند الوقف . يعني أنه وَقَفَ على " صَوافي " بإشباع فتحةَ الياءِ فَتَوَلَّد منها أَلِفٌ يُسَمَّى حرفَ الإِطلاق ، ثم عَوَّضَ عنه هذا التنوينَ ، وهو الذي يُسَمِّيه أهلُ النحوِ تنوينَ الترنُّم .

والثاني : أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ ما لا يَنْصَرِفُ .

وقرأ الحسنُ " صَوافٍ " بالكسرِ والتنوين . وتوجيهُها : أنه نصبها بفتحة مقدرةٍ ، فصار حكمُ هذه الكلمةِ كحكمِها حالةً الرفعِ والجرِّ في حَذْفِ الياءِ وتعويض التنوينِ نحو : " هؤلاء جوارٍ " ، ومررت بجوارٍ . وتقديرُ الفتحةِ في الياءِ كثيرٌ كقولهم : " أعْطِ القوسَ بارِيْها " وقولِه :

كأنَّ أيْدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ *** أيديْ جوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِق

وقوله :

وكَسَوْتُ عارٍ لَحْمُه . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويدلُّ على ذلك قراءةُ بعضِهم " صَوافيْ " بياءٍ ساكنةٍ من غيرِ تنوينٍ ، نحو : " رأيتُ القاضيْ يا فتى " بسكون الياء . ويجوز أن يكونَ سكَّن الياءَ في هذه القراءةِ للوقفِ ثم أَجْرَى الوصلَ مُجْراه .

وقرأ العبادلة ومجاهدٌ والأعمش " صَوافِنْ " بالنون جمعَ " صَافِنَة " وهي التي تقومُ على ثلاثٍ وطرفِ الرابعة ، إلاَّ أنَّ ذلك إنما يُسْتَعْمَلُ في الخيلِ كقوله : { الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } [ ص : 31 ] ، وسيأتي ، فيكون استعمالُه في الإِبلِ استعارةً .

والوجوبُ : السُّقوطُ . وجَبَتِ الشَمسُ ِأي : سَقَطَتْ . ووجَبَ الجِدَارُ أي : سَقَطَ ، ومنه الواجبُ الشرعي كأنه وقع علينا ولَزِمَنا . وقال أوس بن حجر :

ألم تُكْسَفِ الشمسُ شمسُ النَّها *** رِ والبدرُ للجبل الواجبِ

قوله : " القانِعَ والمعتَّر " فيهما أقوالٌ . فالقانِعُ : السائل والمُعْتَرُّ : المعترضُ من غيرِ سؤالٍ . وقال قومٌ بالعكس . وقال ابن عباس : القانِعُ : المستغني بما أعطيتَه ، والمعترُّ : المعترضُ من غيرِ سؤالٍ . وعنه أيضاً : القانعُ : المتعفِّفُ ، والمعترُّ : السائلُ . وقال بعضُهم : القانِعُ : الراضي بالشيءِ اليسيرِ . مِنْ قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعةً فهو قانِعٌ . والقَنِعُ : بغير ألفٍ هو السَّائلُ . ذكره أبو البقاء . وقال الزمخشري : " القانِعُ : السَّائلُ . مِنْ قَنِعْتُ وكَنَعْتُ إذا خَضَعْتَ له . وسألتُه قُنُوْعاً . والمُعْتَرُّ : المعترِّضُ بغيرِ سؤالٍ ، أو القانِعُ الراضي . بما عندَه ، وبما يُعْطَى ، من غيرِ سؤالٍ . مِنْ قَنِعْتُ قَنَعاً وقَناعة . والمعترُّ : المتعرض بالسؤال " . انتهى . وفرَّق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال : قَنِعَ يَقْنَع قُنوعاً أي سأل ، وقَناعة أي : تعفَّف ببُلْغَته واستغنى بها . وأنشد للشماخ :

لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فيُغْني *** مَفاقِرَه أَعَفُّ من القُنوعِ

وقال ابن قتيبة : " المُعْتَرُّ : المتعرِّضُ من غير سؤال . يُقال : عَرَّه/ واعتَرَّه وعَراه واعْتراه أي : أتاه طالباً معروفَه قال :

لَعَمْرُك ما المُعتَرُّ يَغْشى بلادَنا *** لِنَمْنَعَه بالضائعِ المُتَهَضِّمِ

وقوله الآخر :

سَلي الطارِقَ المعترَّ يا أمَّ مالِكٍ *** إذا ما اعْتَراني بينَ قِدْري ومَجْزَري

وقرأ أبو رجاء " القَنِع " دون ألف . وفيها وجهان ، أحدهما : أنَّ أصلَها " القانِع " فَحَذَفَ الألف كما قالوا : مِقْوَل ومِخْيَط وجَنَدِل وعُلَبِط في : مِقْوال ومِخْياط وجَنَادل وعُلابط . والثاني : أن القانِعَ هو الراضي باليسير ، والقَنِع : السائلُ ، كما تقدَّم تقريره ، قال الزمخشري : " والقَنِعُ : الراضي لا غير " .

وقرأ الحسن : " والمُعْتري " اسمُ فاعلٍ مِنْ اعْتَرى يَعْتري . وقرأ إسماعيل وتُروى عن أبي رجاء والحسن أيضاً " والمُعْتَرِ " بكسر الراء اجتزاءً بالكسرة عن لامِ الكلمة .

وقُرِىء " المُعْتَرِيَ " بفتح الياء . قال أبو البقاء : " وهو في معناه " أي : في معنى " المعترّ " في قراءة العامَّة .

و[ قوله : ] { كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا } الكافُ نعتُ مصدرٍ أ و حالٌ من ذلك المصدرِ .